في جنيف ترعى روسيا مفاوضات للسلام، دون أن تكفَّ عن كونها طرفاً مباشراً في الحرب، مؤقتاً على الأقل. ثمة مستشفيات ومدارس ومراكز دفاع مدني دمرتها روسيا بينما تنعقد جلسات التفاوض، وهذا مستوىً من «الوحشية السياسية» لم تصل إليه الولايات المتحدة الأميركية عندما كانت تدعم إسرائيل وترعى عملية السلام معها في الوقت نفسه.
لا يستطيع وفد المعارضة الانسحاب من جنيف بسهولة، هذا واضحٌ تماماً، خاصةً أن الرسائل المبطنة والمعلنة تقول بوضوح إن ثمن الانسحاب سيكون أعلى من ثمن البقاء. هذا ما تريده روسيا، سحقُ قوى الثورة والمعارضة بوتيرة قد تكون أبطأ وأقلّ دمويةً إذا ذهبت بعض تلك القوى إلى قاعات التفاوض.
لا يبدو أن هناك ما يمكن فعله حيال هذا الأمر، فالنظام يواصل عملياته العسكرية بمفاوضات أو بدونها، وبالتزامن مع مفاوضات الأستانة تم إفراغ وادي بردى من قوى الثورة بعد معارك قاسية ما كان يمكن لمقاتلي الفصائل الصمود فيها أكثر، ويبدو أن محاولات إفراغ أحياء القابون وبرزة وتشرين في دمشق تسير على المنوال نفسه جنباً إلى جنب مع جلسات المفاوضات في جنيف.
إذا كانت مخططات النظام العسكرية تسير كما هي سواء ذهبت المعارضة إلى التفاوض أم لم تذهب، فما الذي يفعله الوفد المفاوض هناك؟ يبدو هذا سؤالاً مشروعاً ووجيهاً، لكن ثمة سؤالاً آخر يبدو مشروعاً ووجيهاً أيضاً: ما دامت مخططات النظام العسكرية تسير كما هي سواء ذهبت المعارضة إلى التفاوض أم لم تذهب، فلماذا لا تذهب إلى المفاوضات محاولةً انتزاع مكسبٍ ما؟ مكسبٍ لن تخسر شيئاً في حال فشلت في انتزاعه.
هذا هو حجم العبث والعدم الذي يضعنا العالم في مواجهته، وهو وضعٌ لا يبدو أن ثمة فكاكاً منه إلا بمعجزة. ولكن هل توجد مكاسب يمكن انتزاعها حقاً في جنيف؟ إذا كان هناك ما يمكن انتزاعه، فإن هذا يتوقف على أداء وفد المعارضة.
***
في جنيف قال العقيد فاتح حسون أحد ممثلي فصائل المعارضة السورية المسلحة، في ردّه على سؤال حول الهجمات التي استهدفت مراكز النظام الأمنية في حمص بالتزامن مع المفاوضات، إن «المنطقة التي يتواجد بها الفرع الأمني هي منطقة أمنية شديدة وخاضعة للمراقبة الدائمة، ولا يمكن أن تتم أي عملية أمنية إلا بتسهيلات من قوى أمنية أخرى تمتلك نفوذاً… ما جرى اليوم يمكن أن نعده تصفية من قبل النظام للمطلوبين دولياً… وعلى رأسهم اللواء الذي تم قتله اليوم…».
جاء ذلك في مؤتمر صحفي لوفد المعارضة السورية إلى جنيف، وهو يعني أن الوفد المفاوض يرى أن النظام هو من نفذ هذه الهجمات لعرقلة المفاوضات، والتخلص من اللواء حسن دعبول جزار الموت سابقاً في سرية المداهمة 215، لكن هيئة تحرير الشام بلسان قائدها العسكري أبي محمد الجولاني تبنت العملية بعد ذلك، وشرحت كيفية تنفيذها بالتفصيل.
وهيئةُ تحرير الشام مزيجٌ من القاعدة وفصائل أخرى، والمفارقة أن كثيراً من الأصوات التي اتهمت النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتدبير الهجوم، في تناغمٍ مع منطق تفكير فاتح حسون والوفد المفاوض، كانت ولا تزال تهلّل لهيئة تحرير الشام وتتهم خصومها بالتخاذل.
على أي حال، يعني ما قاله فاتح حسون أن الهيئات السياسية للمعارضة والثورة السورية لا تريد أن تتعلم شيئاً، وأنا ما يفكر به شخصٌ غاضبٌ يكتب منشوراً على فيسبوك لا يختلف كثيراً عما يفكر به أعضاء الوفد المفاوض. وواقع الحال أن قوى المعارضة العسكرية المُمثَّلة في المفاوضات لا تستطيع فصل نفسها تماماً وعلناً عن هيئة تحرير الشام لأن هذا سيقود إلى مواجهة عسكرية مع الأخيرة، لكن واقع الحال أيضاً أن طفلاً صغيراً يمكنه أن يعرف أن هيئة تحرير الشام ستسعى بكل ما أوتيت من قوة لنسف المفاوضات، ولذلك فلم يكن ثمة معنىً من اتهام النظام بتنفيذ تلك الهجمات، وكان يمكن لسيادة العقيد أن يقدّم ألف إجابة أخرى تعفيه من الحرج.
من حسن حظّ العقيد فاتح حسون أن ديمستورا لم يطلب منه توضيحاً أو اعتذاراً علنياً عن تصريحاته وتحليلاته، لكن لعلّ ديمستورا سعيدٌ بما يحصل، فالوضوح وقول الأشياء كما هي أمرٌ لا يروق له، ويبدو أن الرجل حريصٌ على نقل رسائل النظام التي تتوعد بسحق المعارضة إذا غادرت المؤتمر، لكنه ليس معنياً أبداً بجعل الأشياء أكثر وضوحاً.
لكن ما فات الجميع قوله هو أن تلك الهجمات لم تكن هجمات إرهابية أصلاً، فالإرهاب هو استهداف المدنيين المتعمد لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية، وتلك الهجمات لم تكن تستهدف المدنيين.
لا شكَّ أن جناح القاعدة القوي في هيئة تحرير الشام كان يهدف من تلك الهجمات إلى إفشال المفاوضات، لكنها ليست هجمات إرهابية على كل حال، وما يُقدِّمُ الذريعةَ والبيئةَ الملائمةَ لتنفيذها هو عنف النظام المتواصل، وليس من الممكن إدانة تلك الهجمات إلا بإدانة استمرار النظام في عملياته العسكرية.
ما تقدَّمَ واحدٌ من الإجابات التي كان يمكن لسيادة العقيد المنشق الاكتفاء بها بدل تحليله العسكري والسياسي المراوغ والمحزن، لكن يبدو أن أحداً لا يعير انتباهاً إلى ما تقوم به القوى العظمى في ثنايا مؤتمراتها للسلام، أعني «إعادة تعريف مصطلح الإرهاب» بحيث يصبح مناسباً لوصف أي رصاصةٍ تطلقها جهاتٌ غير الدول ذات السيادة المعترف بها في الأمم المتحدة.
***
في جنيف تبدو واضحةً هشاشة نظام الأسد السياسية، وهو الدولة ذات السيادة المعترفُ بها في الأمم المتحدة، ويدلُّ على تلك الهشاشة إصرار وفد النظام على رفض النقاش في المسائل السياسية قبل مسائل مكافحة الإرهاب، خلافاً لما يطرحه ديمستورا مستنداً إلى القرار 2254.
تريد القوى العظمى من وفد النظام أن يناقش المسائل السياسية مع وفد المعارضة في جنيف، ويبدو أن روسيا نجحت في إجباره آخر الأمر على القبول اللفظي بنقاشٍ كهذا، لكن هذا القبول اللفظي بدا أشبه بتجرّع السمّ بالنسبة له، على الرغم من تفاهة نتائجه وعدم أهميتها.
السياسة التي يعرفها النظام هي سياسة العلاقات الدولية، السياسة في التعامل مع الدول ذات السيادة، أما في التعامل مع السوريين الآخرين فإنه لا مجال لأي سياسة مهما قلّت مقاديرها، بل هو العنف وعلاقات الحرب فقط. ليس هذا نظاماً سياسياً، بل هو كتلةٌ مدججةٌ بالسلاح يتزعمها بشار الأسد، وتحميها إيران وروسيا وميثاق الأمم المتحدة.
في جنيف تريد القوى العظمى منحَ هذه الكتلة العسكرية معنىً سياسياً، تريدُ أن تجعلها نظاماً سياسياً، وتقدِّمُ لها في سبيل ذلك كل الدعم والوقت اللازمين، لكنها تبدو حتى اللحظة عاجزةً عن استغلال هذا الدعم والتحوّل إلى ممارسة بعض السياسة مع السوريين، حتى أنها لا تتيح لخصومها خيار الاستسلام.
تقول الدول العظمى للنظام السوري في جنيف: «مارِس بعض السياسة وستنجو»، لكنه يردُّ بأنه لا يستطيع ذلك حتى الآن، ويطلب المزيد من الوقت والسلاح والأراضي، والقرارات الدولية.