منذ قيام دولة الأسد في سبعينيات القرن الماضي والسوريون يغرقون في بحرٍ من الرموز السلطوية، أنتجتها طبيعة النظام الحاكم التي تفرض كثيراً من التابوهات. ومن هذه الرموز ما كان واضحاً تُطلَب الطاعة له جهاراً نهاراً، كالقائد الرمز، وتماثيله، واختزال سوريا باسمه، ومنها ما كان خفياً مستتراً أثّر في تكوين السوريين جميعاً، وفي طاعتهم الفطرية لأجهزة الخوف دون وعي منّهم أحياناً، ومنها ما أدى الوظيفتين معاً.
ما أن تعرَّضَ هذا النظام الرمزي للانتهاك والتقويض من قبل الثورة السورية، حتى وجدنا أنفسنا نغرق مرة أخرى في بحرٍ من الرموز السلطوية الجديدة، التي تشترك مع رموز دولة الأسد في الترهيب والتخويف. وبناءً على هذا الافتراض، سيحاول هذا النص قراءة سوريا رمزياً، وتبيان أوجهٍ من التقاطع بين نظام الأسد وبعض خصومه على هذا الصعيد.
دولة الأسد تُرسي دعائمها بين الصدوع
انفصل السوريون عن الدولة العثمانية إبان الثورة العربية الكبرى، تاركين خلفهم جزءً من هويتهم الرمزية السياسية والاجتماعية، وقبل سدّ الثغرات في الهوية الجمعية ستخضع بلادهم للاستعمار الفرنسي، قبل أن يتمكنوا بعد ذلك بنحو ربع قرن من تحقيق استقلالهم. وفي أثناء السير على طريق تكوين نسق رمزي جديد ينتمي إليه سكّان هذه البقعة من الأرض، المشتتين بين دعوات وطنية تحررية للأمّة السورية، وأخرى ذات مد قومي عروبي، ومع انتشار الأنظمة السياسية الديمقراطية القائمة على مواثيق حقوق الإنسان في العالم، هنا، في ظل هذه الفوضى تماماً، ستبدأ دولة الأسد إرساء دعائمها بين صدوع الهوية السورية عام 1970.
أقام نظام الأسد على مدى عقود طقوساً متواصلةً للتحول والعبورراجع كتاب طقوس العبور، أرنولد فان جينيب.، غايتها التأسيس الرمزي للحدود القائمة بين المكونات والمواقع في سلّم الهرمية الاجتماعية، فضلاً عن ضبط الفوارق النوعية بين المقامات والحقوق والواجبات المتصلة بها.
سيشغل الأسد الأب وبعده ابنه بفضل هذا التأسيس الجديد موقع «الإله» في الهرم الاجتماعي، أو أحد ممثليه على الأرض كالرسول أو الخليفة بالمعنى الإسلامي تحديداً، ويستحيل أن تجد في الدراما أو السينما السورية على سبيل المثال عملاً واحداً يجسد أحد الأسدين، ولا حتى على سبيل التقديس والتمجيد، ففي حين كانت التعاليم الإسلامية تحظر تصوير الله أو رسله أو خلفائهم لما لهم من قداسة، كانت الممارسة تضع الأسدين في هذه المصاف، وليس للسوريين الواقعين أسفل هذا الهرم سوى الطاعة.
الزمن السوري في ساعة الأسد
تكرار الطقوس يساهم في ترسيخ المعتقد في الذهن والجسد عبر عمليات التطويع المستترة، أو ما يسمى بالعنف الرمزيراجع كتاب العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، بيير بورديو.، إذ يأبى الاعترافَ بطابعها العنفي كلٌ من ممارسيها والخاضعين لها على حدٍّ سواء، وبهذا الشكل أضحى انقلاب حزب البعث على الدولة ثورة شعبية، وانقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين حركة تصحيحية، كررها السوريون بما فُرِضَ معها من طقوس احتفالية على مدى أربعة عقود فيما يشبه الهلوسة الجماعية.
هذه الطقوس تستعيد الزمن الأسطوري المقدس وصوره الذهنية كما تم زرعها بالإكراه في المتخيّل الجمعي، معطلةً بذلك الزمن الفعلي السائر نحو الأمام، لتعود بنا إلى زمن البدايات التي لا بطل فيها سوى الأسدراجع كتاب أسطورة العود الأبدي، ميرسيا إلياد.، فلا يشتد هذا النظام إلا بقدر ما يتحجر الزمن في أذهان السوريين.
أسطورة بداية الخلق الأسدية
يبدو أن التأسيس المتخيل للمجتمع السوريراجع كتاب تأسيس المجتمع تخيلياً، كورنيليوس كاستورياديس. قد صُمِّمَ فعلاً على خير ما يكون، إذ أن أقصى ما تصل إليه ذاكرة السوريين في التقويم الأسدي خارج هذا التخيل هي صورة ضبابية لماضٍ إقطاعي يسوده التطرف والظلم والاستغلال.
وإذا كانت إحدى أهم ميزات الرمز أنه يحيل إلى معنىً متوارٍ وبعيدٍ في مرجعية ذهنية لدى جماعة من الناس، فإن الرمز الأسدي بهذه الحالة لا يُحيل إلا إليه، في ظل غياب مرجعية يمكن المطابقة بينها وبين الرمز الملموس الذي يحل محل المجردمعجم المصطلحات اللغوية والأدبية، علي الزيات..
وبذلك فإن الأسد ليس ممثلاً للإله، بل هو الإله مجسداً، مانحاً للقداسة التي لا تُمنح له، و«سوريا الأسد» هي بلادٌ لا تمت بصلة لصورتها في الأطالس، إلا بقدر ما يعفو الإله الطاغية عن ملامحها في الأرض وفي أذهان الناس.
وفي خلاصة الفهم الفينومينولوجي للرمز عند الفيلسوف بول ريكور، يخلص إلى أن كل رمز في العالم يمثل الكلية بخصوص بعدٍ من أبعاد المقدس، واجتماعُ هذه الرموز يمثل المقدس كاملاً، وفي ظل نسق رمزي منغلق على نفسه. تماماً مثل نظام الأسد، الذي حصر الرمز وإسقاطاته ومعانيه في إطار هذا النظام، وأي شذوذٍ عن هذا النسق سيُعتبر مدنساً مذموماً، وهو ما يفسر سبب قول الإعلام الرسمي عن بشار الأسد إنه رأس المعارضة في البلاد في أكثر من مناسبة، إذ يصعب على حدود إداركهم تقبّل فكرة وجود ندٍّ للإله.
هنا تكمن المعضلة السورية، فإذا أردت أن تقوم بثورة عليك أن تصنع نسقاً رمزياً بديلاً يتعرف السوريين على ملامحهم فيه، وإذا كنت تريد صناعة بديل عليك أن تُسقط النظام المحتكِر للمرجعيات الرمزية والمغتال لبدائله، ولن تُحَلَّ هذه الحلقة المفرغة سوى بعملية انتحارية في آذار 2011، حين صرخت مجموعة من السوريين «الشعب يريد…».
ماذا يريد؟!
معابر «التهريب» اللفظية
اللاإرادة هي سمة المجتمع في دولة الأسد، فأن تريد يعني أن تكون أسداً، والتعدد يعني ضمناً القدرة على الاختيار، لذا لم يكن من الوارد أبداً أن تتزحزح الإرادة عن مركزيتها «الإلهية»، ولا حتى في انتخابات مزورة. لا مرادفات للأسد، فما بالنا بتعميم هذه الإرادة، ومنحها «للعبيد».
«الشعب يريد» كانت الأداة التي بدأت من خلالها الثورة تفكيك رؤية الأسد ومفهومه عن المجتمع والشعب في سوريا، هي تقويض لمعجم المسلمات الأسدية، المسلمات اليقينية؛ السمة الأساس للاستبداد والتطرف.
فضلاً عن مشاركة الإله في سماته، كانت مجرد قدرة الناس على فصل اسم الأسد عن سوريا انتهاكاً مرعباً بالنسبة للديكتاتور، فهذا يعني أن مغيّبي سوريا الأسد قد وصولوا إلى سوريا أخيراً وبشكل مؤكد.
أسرى اللامكان
سوريا الأسد هي التجسيد الأمين لمفهوم للامكان عند الأنثروبولوجي مارك أوجيه، فالبلاد بأكملها لا تعدو كونها فضاءً يستحيل تأسيس كينونة اجتماعية فيه، كون هذا الفضاء مكرّساً لعبور المارين المجهولين، وللممارسات العرضية التي ستشكل في مجموعها حياتهمللمزيد حول الفكرة نفسها أنظر: التعابير الإبداعية الشبابية الجديدة في تونس ما بعد الثورة، عواطف القطيطي، موقع الأوان.. هكذا أصبحت الحياة غير ذات قيمة في دولة الأسد، لا سيما وأن السوريين اليوم يقفون في مواجهة بعضهم بعضاً بوصفهم غرباء ومجهولي الهوية.
أما المكانللمزيد حول الفكرة نفسها أنظر: التعابير الإبداعية الشبابية الجديدة في تونس ما بعد الثورة، عواطف القطيطي، موقع الأوان. بوصفه الوعاء الحاوي للعلاقات الاجتماعية والتاريخ والهوية، فكان مسيجاً برجال الأمن والمخبرين، ومصادراً بهواجس الريبة والحذر وقوانين الطوارئ وحظر التجوّل. لذا فإن انتهاك الثورة الأول لرموز النظام ومقدساته هو في استخدام السوريين لأجسادهم وأصواتهم للتعبير عن أنفسهم وقيمهم في الشوارع، وليس فقط بوصفها -أي أجسادهم- أدواتٍ بيد النظام.
على ضوء ما سبق نستطيع أن نفهم حرص الأسد بأن ترفع صوره فوق شوارع حلب الشرقية المدمرة بعد استعادتها، فلن تكون البلاد مألوفة لطاغيتها إلا بقدر ما تكون غريبة عن أهلها.
تغريب شوارع الثورة
إذاً فالشارع هو المكان الأمثل لتشكيل وإعلان هوية السوريين وبالتالي هوية ثورتهم، لذلك كان السعي لمأسسة الشارع هدفاً مشتركاً لجميع المتناحرين على السلطة، والتي تعني في جوهرها إعادة ترويض السوريين وسوقهم إلى اللامكان مجدداً، حيث سيتولى آخرون التعبير عن إرادتهم.
فمن جهة سيسعى النظام لاستعادة الشوارع بقوة السلاح، وإذا لم يكن باستطاعته أن يحذف ما تم اكتشافه من سوريا على ضوء الثورة، فإنه سيعمل على استبدال المصابيح، أو الخروج بجيشه موسعاً اللامكان في أذهان السوريين، لذلك سعى لسرقة محتوى الثورة وما تم ترديده من شعارات وأغاني في الشوارع، كما حدث مثلاً مع أغنية «يلا إرحل يا بشار» التي أصبحت سريعاً: «نحن رجالو لبشار».
وفي الجهة المقابلة سيغرّب الغرافيتي الإسلامي والإعلانات الطرقية شوارع المدن السورية عن ثورتها، لا سيما مع تحريمه للمفاهيم الأولى التي نادت بها الثورة، كالحرية والديموقراطية، مثلما فعلت تنظيمات متطرفة كداعش والنصرة وغيرهما من الفصائل الإسلامية.
يستمد هذا الغرافيتي قوته من حرمانية التعدي عليه، لأنه يعبر عن «رأي» الله أو شريعته، لذا لا يمكن تداوله في النقاش أو تعرضه للانتهاك، وستمتد قداسته إلى حامله أيضاً، ليخرج من ترتيب البشر العاديين ويدخل في ناموس المقدس المؤبد بدوره، غير القابل للتداول والنقاش والانتهاك كونه ممثل الله الفوقي السماوي، هكذا يعود النسق الرمزي المغلق للظهور مرة أخرى.
نظامٌ واحد، لاعبون كثر
يُشير رولان بارت في مؤلفه مبادئ في علم الأدلة إلى أن الرسالة الأيقونية ترتبط بجزء منها على أقل تقدير بعلاقة حشو أو إنابة مع نظام اللسان، ولعلّ هذا ما يفسر إعادة إنتاج النسق الرمزي لدولة الأسد من قبل تنظيمات ظهرت بعد الثورة، ذلك أن مرجعيتها التأسيسية تعتمد ضمناً على مفاهيم النظام وإن أتت بتعابير وأشكال أخرى.
فجميع التنظيمات المتطرفة بما فيها دولة الأسد متحاربة فيما بينها، ومتسابقة على حيازة دماء السوريين، وليس الخلاف بين هذه التنظيمات على حماية الشعب السوري بقدر ما أن الخلاف على أسبقية انتهاكه وترويضه، ذلك ما تعنيه السلطة في مرجعيتهم الذهنية، ولذلك تحديداً تمكنوا من اكتساب عداوة السوريين الثائرين والخارجين عن النسق بيسرٍ وسهولة.
من جهة أخرى لا يبدو التطرف أمراً شديد الغرابة عن نظام الأسد، فبعد انفراط قناع الأسد الهجين المكون من صدوع الهوية السورية والمستَغِّلِ لهشاشتها، لجأت مختلف التشكيلات المكوّنة له، والمهددة بالزوال بفعل آثار التغيرات الاجتماعية التي أتت بها الثورة، إلى تكثيف طقوسها الرمزية للرحيل وجودياً إلى زمنٍ تتزوّد منه بالمعنىللمزيد حول الموضوع نفسه أنظر: الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحوّل، منصف المحواشي، مجلة إنسانيات الجزائرية.، وكان نظام الخلافة أحد مكونات هذا القناع بلا ريب، إذ كم مرة بايعنا آل الأسد؟!البيعة سمة خاصة ومميزة لنظام الحكم الإسلامي.
وإلى أن تلتقي جهود الثورة التفكيكية، أو بالأحرى التقويضية، للنظام الرمزي الشمولي، عند مجموعة نقاط يمكن اعتمادها لتأسيس دولة جديدة، فإن أي محاولة لاستيعاب السوريين لن تعدو كونها إعادة توزيع لأدوار نظام الأسد على لاعبين جدد.
ولادة المعنى
يبدو أن المعضلة السورية عادت للظهور مرة أخرى، فحتى نتخلص من التنظيمات الإسلامية المتطرفة علينا أن نتخلص من النظام، وحتى نتخلص من النظام علينا أن تتخلص من التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تحول دون التأسيس لدولة جامعة لكل السوريين.
وإذا كان الاصطدام الأول بالنسق الرمزي المغلق قد دفع السوريين إلى عملية انتحارية لتبني شعار «الشعب يريد…»، فإن الاصطدام الثاني بهذا النسق قد كشف على ما يبدو عن ما يجب أن تنطوي عليه هذه الإرادة، التي لن تخرجنا من هذه الدائرة المفرغة إلا بعملية انتحارية ثانية تتبنى ما عبَّرَ عنه غرافيتي الثورة في بنش، وتقود إلى اكتمال المعنى أيضاً: «الشعب يريد… ثورة على الثورة».