حين تظاهرَ عددٌ من أهالي دمشق ضد فساد رجال الشرطة في منطقة الحريقة في شباط/فبراير من العام 2011، لم يكن قد مضى على رفع الحظر عن وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا، وعلى رأسها فيسبوك ويوتيوب، سوى بضعة أيام. لم يتم الخطيط لتلك المظاهرة بشكل مسبق، ولم يُحشَد لها عبر الإنترنت، وإنما انطلقت بشكل عفوي بعد اعتداء رجال الشرطة على أحد الشبان، لتنتشر صورها ومقاطع منها بعد ذلك على حساباتٍ أخذ السوريون بإنشائها واستخدامها كأداة في الحشد للحراك الشعبي في البلاد، أسوةً بثورات الربيع العربي وأهمها الثورة المصرية، وأملاً في تغيير منشود كانت بوادره قد بدأت تظهر في بلدان أخرى من المنطقة.

وبين شباط ذاك وشباط هذا ست سنوات، سنواتٌ حفلت فيها مواقع التواصل الاجتماعي بنقل آلاف الأحداث، تقلبت مع تقلبات الثورة، وكانت دون شك لاعباً مهماً في المشهد السوري على مستويات عدة، أهمها الحشد والمناصرة، التعبير عن الأفكار ونشرها، وفضح الانتهاكات. ورغم أهمية الأدوار التي لعبتها تلك الوسائل، إلا أنها لم تنجُ من اللوم على محطات فشلٍ عديدة شهدتها الثورة السورية من قبل كثيرين، وحراكها السلمي على وجه الخصوص.

«ما طلع شي من هالفيسبوك»، جملة نسمعها في كثير من الأحيان، كما نسمع غيرها من التعبيرات والجمل التي تفيد المعنى نفسه في نهاية المطاف، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات. هل فشلت وسائل التواصل الاجتماعي في أداء دورٍ كنا نفترض أن عليها القيام به؟ وهل أُشبعنا بـ «وهم القدرة على الفعل» من خلال تلك الوسائل التي افترضنا لها دوراً أكبر من حقيقتها، حتى وصلنا إلى حدّ مطالبتها بأن تكون وسيلة إسقاط النظام، بدل أن تكون أداةً من بين أدوات كثيرة يمكن توظيفها في الكفاح ضده؟

الحشد والمناصرة

أُنشئت أولى الصفحات التي عملت على حشد السوريين ضد النظام السوري أوائل العام 2011، وأهمها «يوم الغضب» و«الثورة السورية ضد بشار الأسد». دعت الأولى للتظاهر في الرابع من شباط/فبراير في دمشق بهدف وضع حدٍ لقانون الطوارئ المطبق في سوريا منذ العام 1963، وهي دعوة لم تلقَ استجابة تذكر. في حين دعت الثانية لانطلاق المظاهرات في الخامس عشر من آذار/مارس، وهو ما حدث بالفعل في سوق الحميدية بدمشق. ورغم عدم التأكد من هوية القائمين على هذه الصفحات، إلا أنها استقطبت اهتمام عشرات الآلاف، الذين رأوا في ثورتي تونس وليبيا ومن بعدها مصر، وصفحات مثل «كلنا خالد سعيد» التي دعت إلى التظاهر في ميدان التحرير بالقاهرة في 25 كانون الثاني/يناير 2011، مثالاً يمكن الاحتذاء به في قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على رفد الحراك الشعبي على الأرض، لا بل وقيادته. ما دام غيرنا نجح في ذلك، فلم لا ننجح نحن؟

مع رفع الحظر عن مواقع التواصل في سوريا في شباط/فبراير 2011، رصدت كلية دبي للإدارة الحكومية، عبر تقرير الإعلام الاجتماعي العربي الصادر في أيار 2011، ارتفاعاً وصل حتى 70% في معدلات استخدام هذه المواقع خلال الأشهر القليلة التالية. أنشأ معظم الشباب السوري المنخرط في الحراك حسابات على مختلف مواقع التواصل وعلى رأسها فيسبوك، الذي تحول لأهم أدوات الحشد والمناصرة بدلاً من أن تكون وظيفته تسهيل التواصل لأهداف اجتماعية وعائلية وترفيهية.

لم يكتفِ أغلب أولئك الشباب بحساب وحيد، خاصة مع ملاحقة النظام السوري للناشطين ضده واستغلاله رفع الحظر لزيادة وتشديد المراقبة، فأنشأوا حسابات بأسماء حقيقية وأخرى وهمية، وشهراً بعد آخر تحولت تلك الأسماء والشخصيات المختلقة إلى جزءٍ لا يتجزأ من حياتهم ونشاطهم الثوري، وأوجد السوريون الذين لم ينخرط كثير منهم في أي نشاط مدني أو سياسي من قبل، آليات منظمة للتواصل والحشد مستفيدين من تجارب وخبرات أخرى في المجال نفسه في بلدان عربية وحتى غربية، إضافة إلى تناقل وتبادل خبرات ومعلومات لم تكن متاحة لهم من ذي قبل، منها ما يتعلق بتنظيم النشاطات المدنية بمختلف أشكالها، وأخرى تتعلق بآليات التعامل مع عنف أجهزة الأمن وقوات حفظ النظام، كصناعة الأقنعة الواقية من الغازات المسيلة للدموع.

لكن، شهراً بعد آخر، ونتيجة عوامل متعددة على رأسها العنف الشديد الذي واجه به النظام معارضيه من اعتقال وتعذيب وقتل، وتحول الثورة السورية من الحراك السلمي إلى الحراك المسلح، إضافة إلى خطورة تنظيم المظاهرات عبر فيسبوك، والتي كان من الممكن بالنسبة للنظام اختراق حسابات منظميها والكشف عنهم، بدأ فعل الحشد والتظاهر يتحول إلى فعل «الكتروني».

انتشرت المظاهرات الالكترونية بديلاً عن استحالة التجمع والتظاهر في كثير من الأحيان، لكنها تحولت مع الوقت إلى فعالية مستقلة بحد ذاتها تعوّض حتى معنوياً عن فعل التظاهر الحقيقي، حيث يطلق ناشطون شعاراً لمظاهرة ما تماشياً مع الأحداث الراهنة، كاقتحام إحدى المدن أو ارتكاب مجزرة في إحدى القرى أو البلدات، ويترافق ذلك مع تغيير صور الحسابات إلى صورة موحدة تعبر عن الحدث.

ينطبق الأمر عينه على الإضرابات وحملات المقاطعة، التي بدأت فكرتها تنتشر منذ الأشهر الأولى للثورة في عدة محافظات كدمشق ودرعا وحمص وحماه كنوع من العصيان المدني. وقد كانت دعوات الإضراب الأولى، ومنها إضراب الكرامة أواخر العام 2011، ناجحة إلى حدٍ ما، خاصة في تنسيق العمل ميدانياً وإعلامياً ومشاركة العديد من مجموعات الحراك الشعبي. لكن النظام واجه هذه الحملات ذات الطابع السلمي تماماً، والتي ربما كانت قادرة في مرحلة من المراحل على شلّ أهم شرايينه الاقتصادية، وتم تكسير واجهات وأقفال محال عدة وإجبار أصحابها على فتحها، ولم تكمل تلك الحملات المراحلَ المخطط لها، والتي كان من المفترض أن تصل حدَّ العصيان المدني الكامل في دمشق على وجه الخصوص، لتبقى الخطط والتصورات مجرد منشورات وتصاميم فنية على مواقع التواصل. لم يكن من السهل الاستمرار في الحشد لحملات مشابهة، لتنتقل كذلك إلى الاقتصار على الفضاء الافتراضي بدورها، وتتحول إلى حملات «فيسبوكية» تدعو في بعض الأحيان للتوقف عن الشراء والنزول للأسواق ومقاطعة التجار ومحاربة غلاء الأسعار، دون استجابةٍ تذكر.

لا يمكن القول إن وسائل التواصل فشلت في الحشد والمناصرة في سوريا، فهي ساهمت إلى حدٍّ كبير في تنظيم الحراك الثوري السلمي، إلا أن اختلاف الشرط المتمثل في تحول الحراك السلمي إلى عمل مسلح، إضافة إلى تشرذم وتفرق القوى الفاعلة في الثورة السورية الذي انعكس بدوره بوضوح على مواقع التواصل، كان من أكبر العوائق أمام استمرار ممارسة تلك المواقع للدور المذكور، وسط ارتفاع حدة العنف وتراجع النشاطات السلمية إلى حد لا تكاد تلحظ فيه، وبالتالي أصبح ما يمكن استخدام وسائل التواصل للقيام به على هذا الصعيد، محدوداً جداً.

التعبير عن الأفكار والمساهمة في التغيير

لم يقتصر دور وسائل التواصل الاجتماعي في الثورة السورية على الحشد والمناصرة، بل ساهمت في نشر الأفكار والدعوات للتغيير على مختلف الصعد، خاصةً خلال الأشهر الأولى. استفاد آلاف الشباب السوريين، الذين لم يعتادوا على أن يكون لهم صوت مسموع، من المدونات والمواقع الأخرى التي تسمح بالنشر، فأصبحت أهم منابرهم للتعبير، وتمسكوا بها كونها أكثر أماناً وحرية لإنتاج ونشر المحتوى الخاص بهم بعيداً عن الرقابة، وعن وسائل الإعلام التقليدية التي لم يعرفوا غيرها منذ عقود.

أصبحت تلك المواقع والحسابات التي أنشئت عبرها المنبر الأساسي للدفاع عن آراء المشاركين في الحراك الشعبي ومواقفهم، لا بل وربما فسحتهم الوحيدة المتاحة لذلك. كما شكّلت مواقع التواصل ومنذ الأشهر الأولى مجالاً للتعبير عن إبداع متميز ومتنوع لم تعرفه سوريا من قبل، وفكاهة وَسَمَتْ كثيراً من أحداث الثورة، حتى أكثرها ألماً.

وعلى الصعيد السياسي، لا يمكن إغفال مرونة تلك المواقع في نقل الأفكار التي باتت تنتشر كالنار في الهشيم بين روادها وخاصة من الشباب، ما منحهم مساحةً لا حدود لها للتعبير عن أنفسهم ورغباتهم وآمالهم في التغيير. ونتيجة تلك المرونة، المترافقة مع الاستعصاء السياسي والعسكري على أرض الواقع، أخذ بعض الشباب السوري يترك ساحات الصراع الميدانية والسياسية، وينكفئ إلى ساحات مواقع التواصل التي شكّلت بالنسبة لهم منبراً أكثر سهولة وأماناً للقيام بكل ما حرموا منه على أرض الواقع.

فقد هذا الدور، كسابقه، زخمه مع مرور الوقت، إذ لم يتحقق التغيير المنشود سوى على نطاق محدود. وهنا لا يمكن إلقاء اللوم فقط على العنف الذي تعرضت له الثورة وأنصارها، إنما قد يكون من المفيد التطرق إلى فشل الثورة إلى هذا الحد أو ذاك في طرح بديل عن الاستبداد والتطرف الديني في آن معاً، حين كان يمكن لشبابها استغلال مواقع التواصل كأدوات مساعدة في الترويج لأفكار التغيير ومد جسور للتواصل والتلاقي بين مختلف الأطراف، وهو ما لم يحدث على المستوى المطلوب.

فضح الانتهاكات

«لو توافر لمن عايشوا أحداث حماة في ثمانينات القرن الماضي ما توافر لنا من وسائل إعلام وتواصل، لما صمت العالم عن المجزرة التي ارتكبت بحق تلك المدينة، وراح ضحيتها عشرات الآلاف». جملةٌ رددها كثيرٌ من الشباب المنخرط في الحراك الشعبي في سوريا خلال أشهره الأولى، وكلهم إيمان بأن ما يمتلكونه من تقنيات إعلامية تساعدهم على فضح الانتهاكات ونقل معاناتهم للخارج بصورة حية ومباشرة، لن يسمح بتكرار مأساة حماة مرة ثانية، وهو ما لم يحدث.

لا يمكن إنكار أهمية مواقع التواصل في لفت النظر لما يحدث على الأرض، ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الصور ومقاطع الفيديو التي نشرت خلال الأيام الأولى للثورة في التعريف بالأحداث التي شهدتها البلاد، ودفْع السوريين للتحرك والتضامن والنزول للشارع دون الخوف من مواجهة الموت، وأيضاً دفْع الآلاف خارج البلاد لمناصرة الثورة السورية والمطالبة بوضع حد لعنف النظام، إلا أن تلك الصور والمقاطع لم تنجح في وقف المجزرة وإنهاء الحرب، ولا نعرف بعد إن كانت ستساهم في تقديم مرتكبي الجرائم التي شهدتها البلاد للعدالة الدولية يوماً ما.

لا يمكن هنا الحديث فشل وسائل التواصل، التي ما كان لها القيام بأكثر مما ساهمت به، في إيقاف الحرب، إذ يبدو قرار استمرار الحرب في سوريا خارجاً عن إرادة معظم الفاعلين السوريين، على الأقل خلال المستقبل المنظور، وهو قرار لم ولن تحركه صور معاناة وآلام السوريين مهما بلغ عددها. ولنا في الصور التي سربها الضابط المنشق «قيصر» خير دليل على ذلك. آلاف الصور التي تظهر فيها أجساد شبه عارية وقد قضى أصحابها نحبهم جراء الجوع والتعذيب الممنهجين في أفرع المخابرات السورية، بقيت في النهاية حبيسة أروقة وملفات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية، رغم تأكيد بعض منها، وعلى رأسها «هيومن رايتس ووتش» صحة تلك الصور ومصداقيتها وأهميتها كدليل على ارتكاب النظام جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.

ولكن ما يمكن الحديث عنه، هو أن ضخ المعلومات والصورة والأخبار عن جرائم النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم ينجح في صناعة رأي عام عالمي حاسمٍ في دعمه لمطلب الخلاص من النظام. لقد انتشرت تلك الصور مع قصة الضابط الذي سربها على مواقع التواصل الاجتماعي على نطاقٍ واسع، لكن هل وصلت فعلاً إلى الرأي العام العالمي، الذي يمكن له أن يؤثر بشكل أو بآخر على واضعي السياسات المتعلقة بالحرب الدائرة في سوريا؟ أم أن صور تنظيم الدولة الإسلامية وهو يعدم بعض الأسرى لديه كانت أكثر نجاحاً في الانتشار والتأثير ونشر الرعب من هذا التنظيم الإرهابي، ومن ثم اتخاذ قرار دولي بمحاربته، رغم حقيقة أن النظام السوري قتل أضعافاً مضاعفة مما قتله تنظيم الدولة؟ سؤال قد يحتاج للتوقف عند إجابته طويلاً، إذ قد لا تكون الصور وحدها وضخُّ الأخبار والمعلومات وسيلة ناجعة للإقناع والتأثير، إذا لم تقترن بخطابٍ موجهٍ للجمهور المستهدف، وفهمٍ أعمق لطبيعة وسائل التواصل والدور الذي يمكن أن تلعبه في التأثير على الرأي العام.

وماذا بعد؟

عند انطلاق الثورة في سوريا، عُلِّقَت آمال كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على أن تكون محركاً للجماهير أسوة بمصر في المقام الأول، وكذلك تونس وليبيا. ومع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الشرط السياسي بين سوريا ومصر التي كانت تتمتع، رغم دكتاتورية مبارك، بقدرٍ أعلى من الحريات السياسية والفكرية، وأيضاً الشرط الميداني مع مشاركة الجيش السوري في قمع الحراك الشعبي على نطاق واسع، يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في قيادة ورفد الثورة في سوريا إلى حد كبير خلال المراحل الأولى، مع تراجع دورها فيما بعد وعلى مختلف الأصعدة للأسباب المذكورة آنفاً.

ولكن لا يعني ذلك ألا نستمر في الاستفادة من تلك الوسائل، والبحث عن سبل جديدة لاستثمارها عبر خلق آليات مبتكرة للتفاعل معها والاستفادة من خواصها كأدوات تكنولوجية دائمة التجدد والحيوية، يمكنها المساهمة إلى حد كبير في التغيير الديموقراطي الذي ننشده.