بعد يومٍ شاق، وأثناء عودتي من تصوير تقرير عن الواقع الزراعي في بلدة التبني، 40 كم غرب مركز مدينة دير الزور، كانت السيارة التي تقلنا تسير مع نسمات الربيع شرقاً باتجاه بلدتي، الخريطة. الطريق كان شبه خالٍ إلا من بعض المارة، وهذا ما لم نعتده في هذا الوقت من كل مساء.
كان الأمر مستغرباً، وهذا ما أخبرني به صديقي أحمد الذي لم ألقِ بالاً لكلامه، لكن الأمر تغير عندما أصبحنا على مشارف قرية البويطية، إذ بدا صوت الرصاص مسموعاً، ما أثار حفيظة أحمد الذي أشار أنه قادم من جهة منجم الملح الواقع بين قريتي الطريف والبويطية، الذي اتخذته جبهة النصرة مقراً لها بعد تحريره من قوات النظام بالاشتراك مع فصائل الجيش الحر في المنطقة.
كان أحمد مرتاباً، وطالبني بالتوقف لمعرفة ما يجري قبل مرورنا من أمام المنجم المشرف على طريق عام الرقة-دير الزور، لكني رفضتُ وقُلت: «خلينا نصل أهلنا، أسع نعرف السالفة بالقرية».
أثناء مسير السيارة، وقبل أمتار من البوابة الرئيسية لمنجم الملح، تفاجأت برجل يعترض الطريق مع مجموعة من المسلحين، ويصرخ بنا: «وقفوا وقفوا». على الفور قمتُ بركن السيارة على يمين الطريق، وإذ برجل يرتدي زياً عسكرياً يبادرني بالسؤال: «منين أنتم، ووين بدّكم تروحوا؟».
بعد أن أجبتُه قال لي: «تيسر الله معك، بس ما تكمل بالطريق العام، إنزل من وسط الطريق على محطة المياه، وروح بعدها بالطريق الشاطئي إلى العنبة، لأن في اشتباكات بينا وبين جماعة جبهة النصرة بالمنجم والطريق مقطوع».
أحمد كان كثير العجلة، ملحاً على ضرورة أن نمضي في طريقنا، وخاصةً بعد أن علم بحدوث قتال بين أهالي قرية المسرب والجبهة، لكني لم التفت له ورحتُ أحدّثُ الرجل الذي استوقفنا عن سبب القتال، وما الذي حدث. أجابني بتهكمٍ وتعالٍ: «نحن أعمامك العساف ما راح نخلي واحد مقرفع (يعني وسخ) جاي من السعودية يحكمنا ببلدنا، والمعركة من هون للصبح خالصة. نحن محاصرينهم بالمنجم وقتلنا ثلاث من أمراءهم، وحاول بس توصل أهلك تنزل الخبر على القنوات، مو إنت إعلامي؟».
كان خبر حدوث القتال غير مستغربٍ بالنسبة لي، وخاصة لمعرفتي بوجود عصابة داخل قرية المسرب، لم يسلم منها القريب ولا البعيد. هذه العصابة تشكلت في عام 2012 من بعض أبناء القرية بزعامة شخص يدعى «هبالي»، ومارست عمليات السلب والنهب في ريف دير الزور الغربي وعلى طريق دمشق تحت اسم كتيبة جيش حر، لكن ما كنتُ أستغربه هو قتالُ جبهة النصرة!! الذي كان يعتبر جنوناً، وخاصة بعد تنامي قوتها في دير الزور بشكل كبير وواسع في ذلك الوقت. والقتال دون سببٍ وجيهٍ أيضاً!!!!
بعد وصولي إلى المنزل في ذلك اليوم، لا أذكرُ كلَّ ما كتبته، لكن ما أتذكره أني أعلنتُ عن حدوث أول صدام بين جهة عشائرية وجبهة النصرة، التي علمنا فيما بعد أنها فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
سبب القتال، وفشل الوساطات العشائرية
يعود سبب المشكلة إلى قيام مجموعة من أبناء قرية المسرب، كانت تمارس عمليات السلب والسطو المسلح على طريق عام دمشق-دير الزور، في مطلع شهر نيسان من عام 2013، بسرقة صهريج محمل بالوقود من أحد المدنيين من أبناء محافظة الرقة، ما دفع الرجل للذهاب وتقديم شكوى لجبهة النصرة التي تتخذ من منجم الملح غرب دير الزور 35 كم مقراً لها.
على الفور توجه القائد العسكري العام لجبهة النصرة، المدعو «قسورة الجزراوي»، وهو سعودي الجنسية، إلى بلدة المسرب لإرجاع الصهريج لصاحبه، لكن المجموعة، مع بعض أهالي المسرب، رفضت تسليم الصهريج بحجة أنه تم شراؤه بمبلغ مالي معين، ولم يستطع عناصر النصرة حل القضية بعد مشادات كلامية وميلان كفة القوة وقتها لصالح أبناء المسرب الذين كانوا يملكون كميات كبيرة من السلاح، ما أجبر «قسورة» على العودة إلى مقره في منجم الملح خالي الوفاض.

بعد أيام من الحادثة تمت دعوة أمراء النصرة في منجم الملح إلى البلدة لحل المشكلة وتناول وجبة طعام للسبب ذاته، غير أن المجموعة التي سرقت الصهريج كانت قد نصبت كميناً بعد مأدبة الطعام، تمكنت فيه من قتل «قسورة الجزراوي» القيادي في جبهة النصرة وأحد مرافقيه وأسر بقية المجموعة، ثم هاجمت تلك المجموعة من أهالي المسرب، من فخذ العسّاف في عشيرة البوسرايا، منجم الملح وقامت بقتل «أبو عبد الرحمن العكيصي» أمير النصرة في ريف دير الزور الغربي من فخذ العكيصات أحد أبناء عمومة العسّاف، وينحدران من العشيرة ذاتها، ما أعطى القضية بعداً عشائري داخل البوسرايا نفسها. كما تم قتل الشرعي لدى النصرة، أبو المثنى، وهو تونسي الجنسية، ما أثار غضب وحفيظة الجبهة التي طالبت بتسليم القتلة وتقديمهم للقضاء كحلٍ عادلٍ لحقن الدماء وعدم الانجرار وراء حرب يذهب ضحيتها الأبرياء.
حاول وجهاء العشائر مع الهيئة الشرعية إيجاد حل مُرضٍ بين الطرفين، يتمثل بتسليم الأشخاص الذين قتلوا عناصر الجبهة، لكن هذا الأمر قوبل برفض من قبل قسم من أهالي المسرب، وخاصة فئة الشباب، التي كانت تريد المواجهة العسكرية مع الجبهة.
السرقات المتكررة لتلك المجموعة ورفض البعض من أهالي المسرب للحلول السلمية، إضافة لوجود عدد لا بأس به من أبناء البوسرايا في صفوف النصرة ومقتل «أبو عبد الرحمن» أمير النصرة من العشيرة ذاتها، مع الشعبية التي كانت تتمتع بها جبهة النصرة في ذلك الوقت، هذه الأسباب مجتمعة جعلت الاصطفاف الأكبر من أبناء العشيرة مع جبهة النصرة ضد مجموعات المسرب، ومنهم من قاتل إلى جانب النصرة، في حين نأى آخرون بأنفسهم عن دخول الصراع.
اقتحام البلدة وتحول الحرب إلى حالة ثأر عشائري
جبهة النصرة، التي حاول أمراؤها حل القضية بشكل سلمي عن طريق تسليم الجناة للهيئة الشرعية، كانت تتبع سياسة تمثلت بعد الاصطدام مع العشائر لمعرفتها بخطورة ذلك، وفي محاولة لاستمالتها إلى جانبها. لكن محاولاتها المتكررة لإيجاد حل سلمي للمشكلة فشلت، ما دفعها للجوء إلى الحل العسكري لحسم القضية، تحت ضغوط داخلية ضمن الجبهة، وأخرى من ذوي قتلاها الذين سقطوا في بلدة المسرب.
بدأت الجبهة بحشد قواها من ريف دير الزور الشرقي بالاشتراك مع فصائل مناصرة لها، مثل لواء مؤتة ولواء الإخلاص وحركة طالبان الإسلامية، وهي ألوية إسلامية كانت مناصرة لجبهة النصرة وتملك قوة عسكرية مهمة، وخاصة لواء مؤتة، ويتركز نطاق عملها في محافظتي دير الزور والحسكة، إذ فرضت حصاراً على القرية من ثلاث جهات، فيما تكفل لواء معاذ الركاض، وهو فصيل جيش حر معظم أفراده من عشيرة البوسرايا التي ينتمي أهالي المسرب لها، بحصار الجهة الرابعة. بعدها قامت النصرة بإمهال المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، وكل شخص لم يتدخل بالمشكلة، 48 ساعة لمغادرة البلدة.
بعد انتهاء المهلة بدأت النصرة بقصف القرية بالمدفعية وقذائف الدبابات، وقام قناصوها باستهداف كل من يتحرك داخل القرية، التي يتحصن فيها أفراد المجموعة المتسببة بالقتال مع عدد من داعميها من بقية العشيرة، وبعض المدنيين الذين رفضوا مغادرة منازلهم ولم يتدخلوا بالقتال.
عجزت النصرة وخلال أكثر من عشرة أيام عن اقتحام بلدة المسرب، وقُتلَ أكثر من 27 من مقاتليها ومقاتلي الفصائل المناصرة لها، من بينهم صدام النوفل قائد لواء الإخلاص، وعناصر أخرى معظمهم ينتمون لعشيرة العقيدات في ريف دير الزور الشرقي، كما جرح عدد آخر منهم.
المدنيون لم يسلموا من هذه الحرب أيضاً، حيث قتل ستة مدنيين، بينهم امرأة حامل، بقصف النصرة العشوائي وعمليات القنص، التي لم تميز بين المدنيين والمقاتلين من الطرف الآخر.
وصلت أنباء خسائر النصرة الكبيرة إلى ريف دير الزور الشرقي، وخاصة بلدة الشحيل، ما دفعَ عائلات هؤلاء القتلى للتحريض ودفع الشباب للمشاركة والانتقام من أهالي المسرب، كنوع من أنواع الثأر، ما أعطى الصراع صبغةً عشائرية بين عشيرة العساف وعشيرة البوجامل التي تقطن بلدة الشحيل، والذي سبقه تجييش ديني من قبل النصرة، ما وضعها في موقفٍ محرجٍ خاصةً مع معرفة كثيرٍ من أمرائها أن الصراع أخذ شكلاً عشائرياً انتقامياً، ولم يعد قضية دينية تتمثل بالقضاء على «فئة مفسدة في الأرض»، كما روجت له من خلال إعلامها قبل بدء المعركة.
انتهاء الأزمة فصائلياً، واستمرارها عشائرياً
في السادس من نيسان 2013، وبعد أكثر من 15 يوماً من القتال، تمكن مقاتلو جبهة النصرة ومن معهم من الفصائل العسكرية من اقتحام بلدة المسرب، بعد هروب المجموعات المناوئة لهم من أهالي بلدة المسرب إلى القرى المجاورة وبوادي دير الزور، لتقوم بعدها النصرة بشن حملة اعتقالات عشوائية طالت كثيراً من المدنيين، كما قامت بتفجير أكثر من 15 منزلاً بينها منزل مختار قرية المسرب، ومنازل الأشخاص الذين كانوا يشكلون قائمة المطلوبين للنصرة على خلفية هذه القضية. كما قامت جبهة النصرة بتصوير عملية السيطرة ونسف منازل المجموعة المطلوبة، ثم انسحبت إلى مقرها في منجم الملح ليعود أهالي القرية إلى منازلهم ومن بينهم أفراد المجموعة التي قاتلت وقتلت عناصر جبهة النصرة، فلم يقتل منهم سوى ثلاث أشخاص فقط في تلك المواجهات الدامية.
بعد انسحاب النصرة من بلدة المسرب، تم تشكيل وفد عشائري من كافة وجهاء عشيرة البوسرايا، تولى مع الهيئة الشرعية في ريف دير الزور الغربي مهمة القيام بزيارات متكررة لأمراء النصرة في مدينة الميادين، أفضت إلى إطلاق سراح كل معتقل لم تثبت إدانته، كما تم الاتفاق على منع دخول عناصر النصرة لبلدة المسرب تجنباً لحالات صدام أخرى.
انتهاء الأزمة بين جبهة النصرة وأهالي المسرب كان عسكرياً فقط، لكنه استمر بطابع عشائري، مع عدة جهات. الأولى تمثلت بحالة العداء بين عشيرة العساف في المسرب وأهالي مدينة الشحيل من عشيرة البوجامل، التي قُتِلَ عددٌ كبير من أبنائها في تلك الحادثة، ولكن عوامل البعد الجغرافي واندلاع المواجهات مع تنظيم الدولة الإسلامية حال دون حدوث تداعيات كبيرة لاحقة.
الثانية تمثلت بحالة العداء بين أبناء عشيرة العساف وأبناء عمومتهم من بقية مكونات البوسرايا، فأفراد عشيرة العساف في المسرب كانوا غاضبين بقية أطياف عشيرة البوسرايا لرفضهم مؤازرتهم في حربهم ضد النصرة، أو لاشتراكهم إلى جانبها في القتال ضدهم. وفي وقت لاحق حدثت كثيرٌ من المشاجرات وعمليات الاعتقال والقطع المتبادل للطرق بين الطرف الذي قاتل النصرة من أهالي بلدة المسرب وأبناء عمومتهم من أبناء بلدة الخريطة، التي دعمت النصرة معنوياً وعسكرياً في معركتها تلك.
حرب المسرب كانت أولى المواجهات العسكرية بين طرف عشائري وفرع تنظيم القاعدة في سوريا، وكشفت أموراً كثيرةً أولها حالة التشرذم على مستوى العشيرة الواحدة، التي يُنظَرُ لها بشكل تقليدي كمؤسسة اجتماعية متماسكة تخضع لتسلسل هرمي يرأسه شيخ العشيرة. وثانيها أنه مهما بلغت قوة أي طرف، ومهما بلغت قدرته على فرض سلطته وسيطرته على العشائر بالقوة، لا بد له من العودة إلى بناء التحالفات مع تلك العشائر في حالة الضعف، وهذا ما أجبر النصرة على العودة والتحالف مع أبناء عشيرة المسرب في قتال تنظيم الدولة الإسلامية قبل سيطرته على دير الزور منتصف عام 2014، رغم جميع الخلافات والدماء التي كانت قد أريقت في وقت سابق.