كنتُ شارد الذهن مصدوم العقل عندما مرَّ بي ذلك الصوت الصارخ: «الشعيطات صاروا بين نارين، الكل يضرب فيهم… داعش والنظام»، كان الرجل يتفوه بتلك الجملة وجمل أخرى مأساوية بعد أن شاهدنا جميعاً صوراً لأطفال ونساء من عشيرة الشعيطات، كانوا يحاولون الهرب من مناطقهم عندما استهدفهم طيران النظام في بادية دير الزور الجنوبية، فأحال القافلة إلى حطام، وأجساد النساء والأطفال إلى أشلاء.

كان قرار الوقوف بوجه تنظيم داعش نكبةً لتلك العشيرة العربية من عشائر قبيلة العقيدات، التي يبلغ تعدادها أكثر من 120 ألف نسمة، وتّقطن بلدات أبو حمام والكشكية وغرانيج في ريف دير الزور الشرقي، ويمتهن أبناؤها الزراعة والتجارة ويوجد كثيرون منهم في دول الخليج العربي. لم يكن هناك أي شيء يدعو لتلك المواجهة، فلا القوة كانت متوافرة لديها ولا السلاح ولا التنظيم، كانت مغامرة.

غريبون هم رجال العشائر، يطلقون المعارك دون حساب قوة خصومهم. الأمر نفسه كان قد حدث في معارك «المسرب» في ريف دير الزور الغربي بين جبهة النصرة ورجال عشيرة العساف. لا شيء إطلاقاً كان يعطي الأمل بالمواجهة، التنظيم يسيطر على خمس محافظات في العراق، يمتلك سلاحاً أمريكياً عائداً لفرق كاملة من الجيش العراقي، وهو يفرض حصاراً مطبقاً على كامل دير الزور. لا شيء سوف يمنعه عن ارتكاب المجزرة الواسعة، ولا أحد قادرٌ على الوقوف في وجه رغبة الانتقام.

كثيراً ما ألاحظُ التناقض الصارخ لدى أبناء العشائر، في كثيرٍ من المرّات يبدون براغماتيين وعمليين، لا يلتفتون إلى المواقف المبدئية وكل أمر عندهم قابل للنقاش والتفاوض، وفي أحيان أخرى يتصرفون بشكل متعنت ومتهور، وبدون أي حساب للمعطيات على الأرض.

خلال الأشهر الطويلة من قتال داعش كان يظهر هذا الميل، قتالٌ دون حسابٍ للعواقب، جبهاتٌ تفتح دون وعيٍ لخطر العدو القادم، حساباتٌ محلية ضيقة كانت تختزل أسباب قوة تنظيم داعش في مبايعة بعض أفراد عشائر معينة له واعتبارهم السبب في وصوله لدير الزور، في الوقت الذي تمدد فيه التنظيم ليستولي على مساحة واسعة ويسيطر على كميات هائلة من السلاح والمال. هذه الحسابات تعكس بشكل لا تخطئه العين هشاشة البنية الاجتماعية للعشيرة، وضعفها أمام الحركات الجهادية التي انتصرت في الصدام مع العشائر في دير الزور.

لم يدرك المدنيون أن مجزرة حصلت في منطقة الشعيطات إلا بعد عدة أيام، فالمنطقة خضعت لتعتيم إعلامي من قبل التنظيم، ومرّ أسبوع كامل حتى تيقن الناس من وقوعها. انتشرت حينها أقاويل كثيرة بين السكان عن الفتاوى وعن وحشية عمليات القتل، وعن بعض المواقف المأساوية، أو حتى الطريفة رغم المصاب الجلل.

الفتوى الرهيبة التي انتشرت فحواها في ريف دير الزور ألقت الرعب في قلوب الأهالي، «كل من بلغ العانة يقتل» كانت الجملة الأكثر رعباً والأكثر تداولاً بين الأهالي. بعضهم قال إنه سمعها من شرعيي داعش بعد أن كانوا ينفون المجزرة سابقاً، وإنه بعد سماعه كلام الشرعيين سوف يصدق كل ما سيقوله الشعيطات.

هذه الفتوى أعادت نبش التاريخ من قبل بعض المتعلمين والأكثر تديناً، للبحث عن دليل يؤيدها أو ينفيها، فيما صُدِمَ غير المتعلمين بتلك المجزرة وأخبارها، إذ رغم الطبيعة الخشنة والعنيفة التي يتسم بها أبناء العشائر، والتي تظهر من خلال عمليات الثأر أو المشاجرات، إلا أن فرضية إبادة عشيرة بأكملها كانت بمثابة حدث جلل جداً بالنسبة لهم، فموروثهم يتعارض مع تلك الممارسة الأشبه بعمليات التطهير.

«الأبرز» من دون الله

الأبرز، أو عيال الأبرز، هو نخوة قبيلة العقيدات التي تنتسب إليها عشيرة الشعيطات، والنخوة من الأمور المهمة عند القبائل والعشائر بشكل عام، وتستخدمها عند الشدائد. ولكل قبيلة نخوة خاصة بها، وهي كلمة محلية تعني أيضاً العزوة، تتشارك بها القبيلة التي تنحدر من نسب واحد ولها دلالة الأخوة، وهي إشارة للتكاتف والتعاضد في المحن وغيرها. ولكن بمرور الزمن وتفرع العشائر إلى فروع، حملت هذه الفروع نخوة فرعية لها، والملاحظ أنه عند المصائب الكبيرة ينتخي أفراد الفرع بنخوة القبيلة الأم، وتستخدم في القتال مع عشائر أخرى في ما يعرف بالفزعة، أي المساندة لابن عشيرتك عند الشدائد. أما لغةً فلها عدة معانٍ منها المروءة ونصرة الحق أو الفخر أو التعظيم، وخلال المعارك بين عشيرة الشعيطات وتنظيم داعش كان العشرات من مقاتلي الشعيطات يستخدمون هذا الشعار أثناء القتال.

ومن أكثر القصص تداولاً على ألسنة الناس في ريف دير الزور بشكل عام، دون إمكانية التأكد الكامل من صدقها أو عدمه، تلك التي كانت تدور أحداثها على خطوط المواجهة مع داعش، ولا يعلم بمجريات الأمور فيها في ذلك الوقت إلا عدد قليل، وفحواها أن مقاتلين تونسيين في صفوف داعش كانوا يتساءلون عن «الأبرز» الذي يسمعون الصيحات باسمه في الطرف الذي يرابط فيه مقاتلو الشعيطات، وأن العناصر المحليين الذين كانوا في صفوف داعش أجابوهم أن الأبرز هو «وثنهم أو معبودهم من دون الله»، والرواية تفترضُ أن المقاتلين التونسيين بالذات يمكن أن يصدقوا هذا الكلام، ولذلك سيقاتلون الشعيطات بشراسة أكبر بوصفهم كفار.

لا بد لي أن أقول بضع ملاحظات عن هذه الحكاية باعتباري ابن تلك المنطقة، وكنتُ شاهداً ومراقباً لهذه الأحداث. الملاحظة الأولى تتعلق بأن المقاتلين المفترضين في الراوية تونسيو الجنسية، والمرء يتساءل هنا: لماذا لم يكونوا شيشانيين أو عراقيين أو سعوديين أو أتراك أو أكراد؟ ربما كان ذلك لأن اللهجة التونسية التي كان يستخدمها هؤلاء غريبة بالنسبة للعناصر المحليين، وتوحي لهم بعدم إدراك البيئة الاجتماعية، وربما أيضاً بسبب كره الأهالي للمهاجرين من هذه الجنسية تحديداً، بسبب تجاوزاتهم التي تفوق تجاوزات أبناء الجنسيات الأخرى.

أما ملاحظتي الثانية فهي أن كلام العناصر المحليين عن أن أبناء الشعيطات يعبدون «الأبرز من دون الله» ربما يكون قد حدث فعلاً، ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الصدام والخلاف ما بين رابطة الدم القوية المعترف فيها في هذه المجتمعات، وبين رابطة الدين التي تعدّ على نقيضها باعتبار أن «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، إذ تبدو رابطة الدم من حيث تفضيل ابن العم أو ابن العشيرة على الناس الآخرين ناسفةً لمبدأ المساواة في الإسلام، الذي يشترط الإسلام فقط والبعد عن كل العصبيات الأخرى بما فيها العصبية العشائرية.

الصدام الدامي

عندما ظهر تنظيم داعش في دير الزور وبرزت اعتداءاته على فصائل الجيش الحر، انطلقت المعارك بين الطرفين واستمرت قرابة 8 أشهر، استطاع التنظيم في نهايتها أن يفرض سيطرته على ريف دير الزور بشكل شبه كامل، وكان لأبناء أبو حمام وغرانيج دور بارز في المعارك ضد داعش.

بعد أن انتهت المعارك بسيطرة داعش على مدينة الشحيل بتاريخ 3/7/2014، جرى اتفاق بين داعش وأهالي منطقة الشعيطات، وخاصة أهالي بلدة أبو حمام، من أجل إيقاف القتال، وقامت الفصائل المتواجدة في أبو حمام بتسليم السلاح لداعش، وكل من قاتل داعش خلال الفترة الماضية أعلن توبته.

بعد فترة قصيرة تنصل تنظيم داعش من الاتفاق الذي عقده مع الشعيطات، وقام بشن حملات دهم واعتقالات لعدد من شبابها. على إثر هذه الاعتداءات انتفض أهالي بلدة أبو حمام وقاموا بطرد عناصر داعش منها، وكذلك قاموا بقتل عدد من هؤلاء العناصر وأسر عدد آخر، ليقوم التنظيم بعدها بحشد مقاتليه على أطراف البلدة.

بتاريخ 5/8/2014 أعلن تنظيم داعش بلدة أبو حمام وقرى عشيرة الشعيطات بشكل عام منطقة عسكرية، وطالب كل من ليس له علاقة بقتال التنظيم بترك المنطقة خلال 24 ساعة قبل بدء الهجوم، عندها خرجت بعض العوائل من أبو حمام إلى القرى المجاورة، ولكن النسبة الأكبر (قرابة 95%) قرروا البقاء داخل منازلهم ورفضوا الخروج.

شنَّ التنظيم هجوماً واسعاً وشرساً على بلدات أبو حمام والكشكية وغرانيج، وقام بقصفها بكافة الأسلحة الثقيلة والخفيفة بتاريخ 8/8/2014، وسقط 3 شهداء، طفلان وامرأة، إثر سقوط قذيفة على منزلهم في بلدة أبو حمام. وكان التنظيم بتاريخ 7/8/2014 قد قام باعتقال 23 شاباً من أبناء أبو حمام كانوا يعملون على أحد آبار النفط في بادية الشعيطات، وأعدمهم رمياً بالرصاص بالقرب من حقل العمر النفطي بريف دير الزور الشرقي.

بتاريخ 10/8/2014 سيطر تنظيم داعش على أبو حمام وبقية قرى الشعيطات بريف دير الزور الشرقي، وارتكب مجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 500 شخص بإعدامهم، بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى أكثر من 400 مفقود بقي مصيرهم مجهولاً، إلى أن تم الكشف عن مقابر جماعية بعد عودة الأهالي بعد عام تقريباً.

عقاب الأهالي من قبل تنظيم داعش كان بتهجيرهم من بلداتهم وقراهم، وبتاريخ 15/8/2014 نزح أهالي أبو حمام باتجاه قرى ريف البوكمال المجاورة، السوسة والشعفة والجلاء والبحرة والعباس والرمادي وحسرات، وهناك قسم نزح باتجاه الميادين والعشارة، ويقطنون الآن في المدارس وبعض الخيم المتوزعة هناك. وهناك قسمٌ من العائلات اتجه إلى خارج المحافظة باتجاه تركيا أو دول الخليج، حيث وصل إجمالي عددهم لما يقارب 33 ألف مهجر.

كما صادر داعش أيضاً كافة محتويات وممتلكات الأهالي، أثاث وملابس وسيارات وأموال وحيوانات، من أغلب المنازل وذلك بفتوى من شرعي داعش تقول إنها غنائم للمقاتلين، وتم بيع قسم كبير من هذه الممتلكات في سوق تم فتحه لاحقاً في بلدة الصالحية بريف دير الزور الشرقي، وأيضاً قام بتفجير قرابة 55 منزل في بلدة أبو حمام تعود لقادة في الجيش الحر والفصائل الإسلامية، وقبل تفجيرها قام بإفراغ محتويتها بشكل كامل.

قام تنظيم داعش بإغلاق الطريق الرئيسي في بلدة أبو حمام، وفتح طريقاً فرعياً للسيارات، وبذلك منع الدخول والخروج والمرور فيها، حيث أصبحت البلدة منطقة مجهولة بالنسبة للأهالي، وهو ما ساهم نوعاً ما في طمس الجريمة التي ارتكبت بحق المدنيين فيها.

داعش يصالح العشيرة

سمح تنظيم داعش بتاريخ 25/11/2014 بعودة قسم من أهالي عشيرة الشعيطات، هم أهالي بلدتي غرانيج والكشكية، وذلك بعد الموافقة على شروط التنظيم وأهمها تسليم السلاح كاملاً بما فيها بنادق الصيد والمسدسات، والشخص الذي يثبت أنه ما زال لديه سلاح سوف يقتل بسلاحه.

عاد المهجرون على دفعات، إذ عاد أولاً المهجرون من غير أبناء القريتين «اللاجئون»، ومن ثم عاد المهجرون اللذين لم يثبت قتالهم للتنظيم، واشترط الأخير على من عاد وثبتَ قتاله لداعش أن يتم تهجيره بعد التوبة إلى خارج المنطقة، إلى مكان يختاره التنظيم ضمن مناطقه، مع المحافظة على حياته.

هدد التنظيم بأن أي شخص سيتستر على شخص مطلوب، سوف يتم هدم منزله فوق رأسه هو وعائلته، كما أمر الأهالي بحضور دروس شرعية يومياً في المسجد من عمر 16 سنة فما فوق، وهو أمر إجباري. وطلب كذلك بتسليم صورة شخصية لكل شخصي «تائب» من عمر 16 سنة وما فوق، وهو أمر إجباري أيضاً. ولاحقاً تم السماح لأهالي أبو حمام بالعودة إلى مناطقهم أيضاً، وبالشروط نفسها.

يبدو إطلاق المعارك بالنسبة للعشائر سهلاً وسريعاً وبدون تفكير أحياناً، وهو أمر تتشابه فيه قضية قتال داعش مع الشعيطات وقضية قتال العساف مع جبهة النصرة، إلا أن الحسم يأتي لصالح التنظيمات الجهادية التي تبدو أقوى من البنى العشائرية ذات الاهتمامات المحلية، وهذه الاهتمامات هي ما يوقعها في سوء التقدير والخسارة لاحقاً جراء هذه المعارك غير المحسوبة. لكن من الملاحظ أنه بعد قيام التنظيم بإجراء المصالحة مع هذه العشيرة، أي الشعيطات، استطاع اختراق البنية العشائرية واستقطاب شيوخ العشائر، ومنهم وجهاء من الشعيطات أنفسهم، ورغم أنهم من الصف الثاني والثالث إلا أن أهميتهم تتزايد بتزايد الامتيازات التي يمنحها التنظيم لهم، إذ أصدر المكتب الإعلامي التابع لداعش خلال الأشهر الماضية عدة إصدارات عن اجتماعات بشيوخ عشائر، تضمنت مناشدات منهم لأبناء عشائرهم الذين يقاتلون التنظيم بالعودة إلى مناطق التنظيم، وطلب العفو بضمانة أن لا يتعرض أحدٌ لهم بأذى.