على تحويلة حمص طرطوس، إلى جانب الطريق الذي وقفنا فيه لانتظار بقية الباصات، نزلنا للاستراحة على العشب الأخضر. لحظةَ نزولي عانقتُ صديقي طويلاً، تعانقنا دون أن نفكر بالأمر، وكأن ما حصل تصرفٌ طبيعي؛ كيف لا؟ وهي الحرية أخيراً، هي الحرية حتى لو كانت عبر الباصات الخضراء، وعبر المرور قسراً أمام عناصر قوات النظام الذين لم أرَ وجوههم الكالحة منذ أربع سنوات، وعبر الروس الذي رَعوا تهجيرنا من منبت أحلامنا، وأمام عساكرهم الذين لوثَّت بشرتُهم شمس البلاد المُغتَصَبَة.
في لحظة تنفس الهواء بعد انقطاع طويل تضيع الحقائق قليلاً، لم يكن يخطر في بالي أني سأفعل ذلك، وسأضحك بتلك الطريقة الهيسترية من أجل لحظة واحدة شعرتُ فيها أنني حر، هل ما حصل يقود إلى فعل ذلك؟ هل هي الحريّة فعلاً؟!
وحيدون مع آلاف الوحيدين في هذا العالم
«نحن وحيدون مع آلاف الوحيدين في هذا العالم»، هذه العبارة التي كُتبت بخطٍ أزرق غير منتظم على أحد جدران الوعر، عند نقطة المسبح التي اتخذت مكاناً لتأكيد أسماء وأعداد الراغبين في إخلاء الحي، ومنحهم بطاقات تؤكد خروجهم في اليوم التالي.
وقفنا عند تلك الجملة طويلاً، لا بغرض قراءتها إنما انتظاراً لبطاقة تأكيد الخروج إلى مكان ما من خريطة هذه البلاد التي ما عادت كما كانت. تختصرُ هذه الجملة المشهد السريالي بأكمله، إذ يؤمن معظم هؤلاء الخارجين، وأنا منهم، أنهم سيكونون وحيدين بعد خروجهم من حمص، وأن هذه الخريطة فعلاً ما عادت كما كانت، وأنها قد لا تسعهم رغم كبرها وقلّة عددهم.
أستحضرُ في هذه اللحظات ذكرى التهجير الأول من الوعر، في شهر كانون الثاني من العام 2015، بعد إبرام اتفاقية حي الوعر مباشرة، التي كانت ستؤدي إلى ما يحصل الآن نفسه، التهجير القسري وتسليم آخر معقل للثورة في مدينة حمص للنظام، مع مكسبٍ لو طُبِّقَ كان سيشكل الفارق ويجعل لتسليم الحي للنظام معنىً، وهو الذي يتعلق بالإفراج عن جميع معتقلي حمص. إلا أن الاتفاقية لم تكمل طريقها آن ذاك.
أستحضرُ مع الناس هنا ذكرى التهجير الأول، ونحن على أبواب التهجير النهائي وفي أذهاننا أفكار شتى؛ منهم من يرى أنه كان من الممكن الإكمال في ذاك الاتفاق وعدم التعنت تجاه بعض البنود التي لم ينفذها النظام، والتي التفَّ حولها لاحقاً من خلال حصارٍ وقصف لا يرحم، طالما أن الخروج النهائي الذي يشهده الحي الآن هو المصير الطبيعي لمنطقة أنهكها الحصار وليس لها قدرة الإفراج عن معتقلي حمص؟
أما آخرون فيرون أن ما حصل كان محاولة لتحقيق مكاسب أكبر، خصوصاً أن ما التفَّ حوله النظام هو بند المعتقلين، والسبب في هذا الخروج ليس الإصرار على ملفٍ خاسر، إنما تخاذل العالم عن نجدة حيٍ لا تزيد مساحته عن أربعة كيلومترات مربعة، حوصر لمدة أربع سنوات، وقُصِفَ ليل نهار بشتى أنواع الأسلحة.
حصاران، وقصفٌ نحو التهجير النهائي
وقعت لجنة تفاوض الحي مع ممثلي النظام اتفاقية حي الوعر في الأول من كانون الأول 2015، إلا أنه سرعان ما أوقفها النظام في الثلث الأول من شهر آذار 2016، تهرباً من تنفيذ التزاماته واستحقاقاته، محاولاً تجاوزها والقفز فوقها، وتتمثل تلك الالتزامات بتقديم لوائح المعتقلين، وتبيان وضعهم والإفراج عن غير المحالين للقضاء منهم.
عدم قبول الحاضنة الشعبية في الحي ومن خلفها العسكريون لهذا الالتفاف صعّدَ من الموقف، إذ فرض النظام حصاراً منع إدخال الدواء والغذاء من خضار وخبز ومواد غذائية أساسية، إضافة إلى قصف مستمر بلغ ذروته في شهر آب، قصف فيه النظام الحي بالطيران الحربي عبر 38 غارة جوية على مدى 48 ساعة فقط، كانت كافية لتفرض على لجنة تفاوض الحي القيام باتصالات جديدة مع النظام، نتجَ عنها اتفاقٌ مرجعيته بنود الاتفاقية الموقعة أواخر العام 2015، مع تغيير في آليات التنفيذ.
فُكَّ الحصار من جديد عن الحي وتم إطلاق سراح 200 معتقل فقط من أصل سبعة آلاف ونيف، مقابل تهجير 200 عائلة إلى ريف حمص الشمالي، كما سلّمت لجنة التفاوض بداية الشهر العاشر بعض الأسلحة المتفق على تسليمها وفق شروط الاتفاقية الأساسية، وقدم النظام لائحة بأوضاع ما يقارب ألفي معتقل في سجونه فقط، وكان من المفترض أن يقدم لائحة جديدة ومن ثم يبدأ الإفراج عن عدد معين من المعتقلين يتم الاتفاق على أسمائهم وأعدادهم بين لجنة تفاوض الحي والنظام، ومن ثم يتم إخراج دفعة ثانية من أهالي الحي، إلا أن النظام تهرب من ذلك مجدداً، فجُمِّدَ الاتفاق بين الطرفين في الثلث الأخير من الشهر العاشر، وفرض النظام حصاراً هو الثاني على الحي في السنة نفسها، وذلك بتاريخ 22/10/2016.
لم يكتفِ النظام بالحصار، إنما قام بتصعيد عسكري بلغ ذروته في شهر شباط 2017، خصوصاً بعد تفجيري أمن الدولة والأمن العسكري في حمص الذي كان الوعر المحاصر شماعته. زاد التصعيد بعد هذه الحادثة، وتدخل الروس الذين فرضوا على أهالي الوعر إما الموت حصاراً وطيراناً أو التهجير القسري وتسليم الحي، فكان الخيار الثاني أهون الشريّن.
التهجير… الحريّة
تاريخ اليوم هو الأول من نيسان 2017، ليس كذبةً ما أراه، لا أبداً. دخلتْ الباصات الخضراء داخل الحي منذ الساعة الرابعة فجراً لبدء عملية نقل المُهجَّرين، تجمّعَ الناس عند مدينة المعارض التي تعتبر هندسياً أول بناء معدني في مدينة حمص، تحوّلَ بفعل القصف إلى حديد صدئ. الناس هنا بالآلاف إما للخروج أو للوداع ورؤية مصيرهم الذي ينتظرهم بعد أسبوع واحد أو أسبوعين، هذه المرة دفعة التهجير إلى إدلب، الوجهة التي اخترتها وأصدقائي.
هي الدفعة الثالثة من دفعات التهجير، الأولى والثانية كانتا إلى مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي، والثالثة التي أنا فيها الآن إلى إدلب، وجهةُ التهجير حسب الاتفاقية تخضع لاختيار المُهجَّر! إلى جرابلس أو إدلب أو ريف حمص الشمالي، كل ما علينا الآن أن نختار وجهتنا، والنظام –بصدرٍ رحب- سيتكفل بالأمر.
بدأ الناس بالتجمع الآن، الحقائب أكثر من البشر، ودموع المودِّعات لأبنائهن تغطي كامل المشهد، الانتظار مع هذه الدموع لا يقاس بالوقت.
بلغت الساعة الآن 11:29 ظهراً، جاء دورنا واقتربت لحظة الخروج، ركبنا الباص الأخضر باتجاه حاجز الشؤون الفنية على مدخل حي الوعر. رأينا وجهوهم لأول مرة منذ أربع سنوات، لم يقم أحد بأي ردة فعل كما كنت أتوقع، كان هم الجميع هو الخلاص من الموقف الأصعب، المدنيون في جهة ومن يحملون قطع السلاح في جهة أخرى، والطرفان للتفتيش، الذي لم يكن إلا تفتيشاً شكلياً وكأنهم يقولون لك: أسرع… حمص لنا.
ركبنا البولمان رقم 29 الذي انطلق باتجاه تحويلة حمص- طرطوس التي تبعد كيلومتر واحد، لم نصدق ما يحدث، وأخيراً خرجنا من الوعر التي ضاقت على أهلها وعلينا في الفترة الأخيرة، نزلنا من البولمان إلى المرج الأخضر على جانب الطريق بانتظار بقية البولمانات لاكتمال القافلة التي يصل عددها إلى 50 بولمان.
بعد ساعتين وصلت بقية البولمانات إلى تحويلة حمص-طرطوس وحان وقت الانطلاق نحو إدلب، أفكارٌ كثيرة دارت في الرأس خلال الطريق الطويل، ومشاهد كثيرة لا تمحى، إلا أن مشهداً واحداً كان فارقاً بدلالته وفجّاً واجهتهُ القوافل في طريقها بين القرى الموالية للنظام والقرى المحررة؛ الأولى استقبلت البولمانات بالبصاق، والثانية بالأكف التي تحيي المهجّرين الصامدين في حيِّهم ومدينتهم منذ سنوات أربعة! لم يترك هذا المشهد رأسي إلا لحظة وصولنا في الثانية ليلاً إلى قرية معرة الإخوان شمال إدلب، مكان المخيم المؤقت الذي أقيم لاستقبال مهجري الوعر.
خلال نزولنا من البولمانات عادت ذاكرتي إلى ساعات قليلة مضت؛ هناك على الباب، حاملاً حقيبتي في يدي، متأملاً المنزل الذي أصبح منزلي طيلة سنوات أربعة، ضحكة فراس الذي سرقته منّا اسطوانة TNT متفجرة، ضحكته الصاخبة كانت تجلجل في البيت الذي سيصبح فارغاً، سمعتُها جيداً. رأيتُ ذكريات سنوات أربعة مع أصدقاء تحولوا بفعل اللحظات الصعبة إلى أخوة، فما بيننا الآن خبزٌ وملحٌ وشهيد، كلها تركتُها ومضيت، أغلقتُ الباب ورائي قاصداً الباص الأخضر، سأكسبُ حريتي الآن، وسأخسرُ المكان الذي نبت فيه أول حلم لنا، وآخر الأحلام.