طغى الشّعر على الإنتاج الثقافي السوري خلال القرن العشرين، وكانت الثقافة السورية، في ملمحها العام، ثقافة شعرية بالدرجة الأولى، أغلبُ مثقفيها البارزين من الشعراء. وبنظرة استرجاعية إلى العقدين الأولين من القرن الماضي، اللذين تأسّست فيهما سوريا التي نعرفها بعد الاحتلال العثماني، فإن المشهد الذي نحصل عليه هو بلد ريفيّ ناشئ عاش قروناً من الاحتلال والمجاعات والحروب وفساد الولاة، ما جعل وجود الثقافة نوعاً من الترف.
لم تكن الثقافة «بمعناها المعروف اليوم» ذات أرضية شعبية آنذاك، وإنما كانت محصورة في غالبيتها بين أبناء الطبقات البرجوازية الذين بدؤوا يتلمّسون ذواتهم من خلال النهضة القومية. وبطبيعة الحال كان بين مثقفي تلك الفترة سياسيون ومفكرون ومؤرخون وصحافيون، إلا أن العدد الأوفر منهم كانوا شعراء، ولا نستغرب ذلك لكون جذور الشعر ضاربة في الثقافة العربية، وبحكم إجماع التوجهين التحديثي والتقليدي على الشعر بوصفه طريقة تعبير عن الذات. يشير تعبير الشعر السوري هنا إلى الشعر الذي كُتب في حدود سوريا الحالية، تجنباً لأي التباس مع شعراء المهجر.
عتبة قبل البداية
من الواضح أن هذه المداخلة لا تقدّم صورة شاملة لتجارب شعراء الحقب المتلاحقة في سوريا، لكنّها تتلمّس الاتجاه العام، أو المسار الأكثر بروزاً، في كلّ مرحلةٍ من المراحل، لتصل إلى الكتابة الشعرية في اللحظة الراهنة، كي تقف على ملامحها الجديدة. ولهذا يأتي اعتماد مفهوم «الجيلية»، الذي يفتقر إلى الدقّة، من باب الاستعانة على رسم خريطة ليس غير، ذلك أنّ مهمة القراءة النقدية الأساسية هي البحث في التيارات والمدارس، وفي تحولات الشعراء الفردية التي تشمل انتقالاتهم إلى مناطق فنية أخرى في مراحل تالية، من هنا بات موضوع التحقيب والتجييل الذي يُقرأ بناء على خلفية أرشيفية بحاجة إلى حسمٍ من قبل النقاد والدارسين للشّعر السوري.
بدايات شاقة
بدأ الشعر السوري في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مع شعراء مثل خير الدين الزركلي (1893 – 1976)، خليل مردم بك (1895- 1959)، بدوي الجبل/محمد سليمان الأحمد (1900 – 1981)، عمر أبو ريشة (1910 – 1990)، شفيق جبري (1898 – 1980)، أنور العطار (1908 – 1972)، وآخرين.
كان الاتجاه العام الأبرز، في بدايات الشعر السوري، يقوم على خلفية التصادم مع المحتل الأجنبي، حيث تحوّل هذا الصدام إلى معاناة نفسية واجتماعية، فلم يعد الشاعر مجرّد متفرّج يصف الحياة ويخلُص إلى مقولة، أو حكمة، كما يرى الناقد حنا عبود، بل صاحب رؤيا حضارية، تتصادم مع عدة تناقضات، أبرزها الاحتلال الأجنبي، والتأخر الاجتماعي.
ومن اللافت حقّاً أن الشعراء الكلاسيكيين، الذين نشأوا في الحقب الاستعمارية، كانوا مثقفين من العيار الثقيل، فجلّهم مارس العمل السياسي، وتعلّم اللغات الأجنبية، وكانت الثقافة بالنسبة لهم ذات مهمات رسولية اجتماعياً ووطنياً. ورغم تغيّر النظرة نحو الكتابة ودور الشاعر في المجتمع، إلا أن مشاعر التقدير والاحترام تتغلّب على كل ذلك. شفيق جبري، الملقب بـ «شاعر الشّام»، كان يتكلم عدة لغات، وقد اطلع على آدابها، وتنقل بين عدة مناصب سياسية وثقافية. كذلك هو الأمر مع بدوي الجبل الذي كان برلمانياً، وعمر أبو ريشة الذي عمل دبلوماسياً، ودرس الكيمياء، والزركلي خلّف مراجع ثقافية أساسية مثل موسوعة الأعلام، ومردم بك كتب سلسلة أدبية عن أدباء التراث العربي، صارت في وقتها مرجعاً لطلاب «البكالوريا» في أول عهدها.
توضح هذه الأمثلة المقتضبة الدورَ الثقافي والسياسي والتربوي الذي تصدّى له هؤلاء الشعراء، وسواهم بالطبع، وتؤكد على فرادة شخصياتهم، والبنية الثقافية التي تنحو نحو الموسوعية، ولأجل هذا لا بدَّ من قراءتهم كتجارب متفردة، لكل منها هوية خاصة، لا سيما أن المناهج المدرسية قد أدخلتهم في أسر من التنميط الذي يصعب تغييره.
يكتب بدوي الجبل عام 1927:
أهـذي مَغاني جِـلّقٍ والمعـالِـمُ… لكَ الخيرُ، أم هل أنتَ وسنانُ حالمُ؟
بلى هـذه أمُّ العواصـم جـلّـقٌ… وهذي ليوث الغوطتين الضراغـمُ
منعطف نزار قباني
شكّل نزار قباني (1923 – 1998) صدمةً هائلة عام 1944 عند نشره كتابه الأول قالت لي السمراء، مفارقاً بها شعراء عصره عدة مفارقات، منها أنه لم يكتب قصيدة وطنية واحدة في ذلك الديوان، ومنها ذهابه إلى جنّة الحسيّات الجسدية بجرأة نادرة، ومنها بثّه الروح النثرية في جسد القصيدة العمودية.
ظلّ صاحب طفولة نهد (1948) يتحول شعرياً وينقلب على نفسه، فكتب قصيدة التفعيلة، ولاحقاً انتقل إلى قصيدة النثر، التي يعرف قارئه أنه لم يكن بعيداً عنها، أو أنه كان مهيئاً لدخول مضمارها.
لم يُقرأ نزار قباني كما يجب، فقد كانت شهرته حِجاباً عليه، كما أن موضوع المرأة غطّى على كثيرٍ من القيم الفنية المبكّرة، التي كانت تستحق أن يؤسَّس عليها. من جهة أخرى، لا بد من التأكيد على امتيازه بالتأثر بالتحولات اللاحقة، التي يصنعها الشعراء الأصغر سنّاً، فتراه ملتحقاً بالركب دوماً، فيما سيظل آخرون يكتبون في الزمن اللاحق كما كانوا يكتبون في زمن سابق. قصيدة «في المقهى»، في ديوانه الأول، مثال على اتجاه ثوري فنيّاً في وقته:
موعداً… سيدتي! وابتسمتْ
وأشارتْ لي إلى عنوانها
وتطلعتُ فلم ألمح سوى
طبعة الحمرة في فنجانها
الخمسينيات… حقبة الصراعات
ضم جيل الخمسينيات وصفي القرنفلي (1911 – 1972)، وعبد الباسط الصوفي (1931 – 1960)، وعبد السلام عيون السود (1922 – 1954). كان الشعر ينوس بين الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، لكن هذه الحقبة ستشهد موجتين من الخارج، الأولى ثورة قصيدة التفعيلة في العراق، والثانية ثورة قصيدة النثر في لبنان. وهنا نضيف كلاً من أدونيس ومحمد الماغوط، اللذين أسهما في ثورة قصيدة النثر إسهاماً أساسياً. لكن تأثير الماغوط سيفوق كلّ تأثير، حيث سيصبح الاسم الأكثر رسوخاً في الشعر السوري، والعربيّ كذلك، وسيصبح شاعراً صانعاً للتحول الحديث، بالانتقال إلى مفردات المدينة والشفوية والتفاصيل. يقول الماغوط في قصيدة «الغجري المعلّب»:
بدون النظر إلى ساعة الحائط
أو مفكرة الجيب
أعرف مواعيد صراخي
وأنا هائم في الطرقات
أصافح هذا وأودّع ذاك
أنظر خلسة إلى الشرفات العالية
إلى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني
في الثورات المقبلة
فأنا لم أجُعْ صدفةً
ولم أتشرد ترفاً أو اعتباطاً
ما من سنبلةٍ في التاريخ
إلا وعليها قطرة من لعابي
الستينيات… جيل الهاوية
تميزت هذه المرحلة بإعلان القطيعة مع الشكل العمودي، والانتقال من التقليد إلى التجديد. الجيل الذي مثّله: ممدوح عدوان (1941 – 2004)، وعلي كنعان (1936)، وعلي الجندي (1928 – 2009)، ومحمد عمران (1943 – 1997)، ومحمود السيد (1935- 2010)، وفايز خضور (1942)؛ عانق القضايا الكبرى، بشكل خاص القضية الفلسطينية، وأعلن القطيعة مع الشكل العمودي، لكن الأهم أنهم مثلوا صعود طبقة أخرى إلى واجهة الثقافة السورية.
يقول شوقي بغدادي في دراسة بعنوان «التجربة الشعرية لجيل الستينيات في سوريا» (مجلة المعرفة 282، 1 آب/أغسطس 1985): «لقد توفّرت لعدد كبير من الشعراء الشباب وقتها فرصة لعلها لم تتوفر لأي جيل آخر قبلهم، وهي وصول طبقتهم الاجتماعية نفسها إلى السلطة، ومعظمها من البرجوازية الصغيرة والفلاحين، وهذا ما أعطاهم جرأة خاصة في تحدي التقاليد السائدة وتجاوزها، واندفع معهم الآخرون من خارج مواقع السلطة، والمشابهون لهم في المنبت الاجتماعي مثل فايز خضور ونزيه أبو عفش، والشعراء الفلسطينيون المقيمون في سوريا مثل أحمد دحبور وفواز عيد وخالد أبو خالد وغيرهم».
يعبّر بغدادي عن ميزة التفاؤل الرومانسي، التي وصلت إلى أقصى مدى مع شعراء هذا الجيل، في دراسته نفسها: «هذا التفاؤل سرعان ما تردى حين اصطدم هؤلاء الشعراء الريفيون، الحالمون بالعالم الأفضل القريب، المقبل على أيدي رفاقهم، حين اصطدموا بالمفارقة الكبرى التي نجمت عن سلطة صديقة تحمل شعارات جميلة، ولكنها تنزلق شيئاً فشيئاً نحو البيروقراطية والاستبداد والطفولة اليسارية، فانهار هذا التفاؤل، أو كاد، إلى أن وقعت نكسة حزيران عام 1967، فكانت الضربة القاضية لجميع هذه الأرواح الحالمة، ولمعظم منابع التفاؤل في أعماقهم».
يصرخ علي كنعان، في ديوانه أنهار من زبد (1970)، معلنًا خيبته:
ثم ماذا؟
موجكِ المحموم لم يقذف على شطآننا
غير المحارْ
ثم ماذا؟ أأقولْ
مأربُ انهارَ
وما زلنا نعاني غضض العيش المدمّى
تحت أنقاض السيول
كانت الإيديولوجيا دافعَ شعراء الستينيات، ومنطلقهم الأساسي، وإلى حدّ ما كان الشعر بالنسبة لهم نوعاً من الخطابة السياسية المصاغة بقالب بلاغي، وتعبيراً عن الهوية القومية، ومواجهةً ريفية مع المدينة، والأهم أن الشعر لديهم ساحة وغى لغوية للمواجهة مع المحتل. ومع النكسة يفقد هذا الشعر ذريعته، فنرى شعراءه يتحولون إلى السوداوية، أو محاولة التنفس «تحت أنقاض السيول».
مشكلة أخرى واجهت «الستينيين» وهي شكل القصيدة، فقد عمدوا إلى التركيب واستلهام الأساطير والإكثار من الإسقاطات التاريخية، وتشكيل رؤية شاملة تُعلي من الموضوعي كلياً، فاستشرى الغموض، والافتعال أحياناً، ولطالما أعاق التواصل مع قصائدهم. يكتب فايز خضور عام 1968:
معي الكتب النحاسيّة
أراكِ بها قطوف النخل بعد تيبّس الثمرِ
يلون جنازة القمرِ
فأرسم وجهكِ المطري بالقصدير أختلس الحواشي
وتنتظرين لم تفرح بك السررُ العتيقاتُ
السبعينيات… زمن الإنسان الصغير
افتُتحت السبعينيات باستلام حافظ الأسد للسلطة، وبعد قليل جاءت حرب تشرين/أكتوبر 1973، لكن الشعر الذي كان أشاح وجهه عن ذلك، في ردة فعل على الستينيات، استقر على شكل قصيدة النثر، وبات الجيل الشعري في تلك الفترة، في غالبيته، يكتب هذا الشكل مثل: بندر عبد الحميد (1949)، ومنذر مصري (1949)، وعادل محمود (1946). كان محمد الماغوط بمثابة الوجدان الفني لقسم كبير منهم، لكونه يكتب مشاعر الإنسان اليومية في المدينة ويلتقط مفرداتها، كما قرأ ذلك الناقد والباحث محمد جمال باروت في كتابه الشعر يكتب اسمه، حيث عدَّ أن الاتجاه العام الذي يميّزهم هو «القصيدة الشفوية»، التي تطرح تساؤلات المدينة المعاصرة، وتلتقط توتر الحياة اليومية. وقد وضع باروت شعراء هذا الجيل في مقابل قصيدة الرؤيا التي طوّبها شعراء العقد السابق. فالقصيدة الشفوية التي تقوم على التفاصيل، ذات بعد واحد، وصوت واحد، ونسق واحد، بينما قصيدة الرؤيا كلية، شبكية، تركيبية، متعددة الأصوات والأنساق. يكتب بندر عبد الحميد في ديوانه الضحك والكارثة الصادر عام 1990:
ثمة شجرة صغيرة في الصحراء
تشبه ظلكَ،
على الأرض التي تحبُّها
لا بد من الإشارة إلى سليم بركات (1951) الذي ظلّ خارج خرائط النقد السوري، رغم انتمائه زمنياً إلى هذه الفترة، إذ نشر كتابه الأول كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً في 1973.
على الأغلب حدث ذلك لأن نصّه العاصي كان خارج مشاغل تيار تلك المرحلة، وخارج تيارات المراحل اللاحقة، كما لو أنّه يعمل على تطويب نفسه تياراً خاصّاً. لهذا يمكن اعتباره جيلاً شعرياً بحاله، من جهة الخصوصية التي يبني بها عالمه، ومن جهة الغزارة التي تقارب إنتاجات جيل أدبي كامل.
من جانب آخر، سيظل هذا النص قابلاً للعديد من التأويلات والقراءات، وسيظل ناسفاً لها أيضاً. إنه يعطي خطوطاً أوليّة لقراءته ثم يحجبها. لعبة فريدة لا تتكرّر كثيراً في الشعريات العالمية، ولنا أن نسجّل أن ميزته الأعقد أنه يأخذ قارئ العربية إلى عربية أخرى، هي لغتنا التي نعرف بأبجديتها ومفرداتها، ولكنها لغتنا التي لم نتوقّع أبداً أن نقف حيالها كأجانب.
الثمانينيات… أصوات المقموعين
بدأت ثمانينيات القرن الماضي بمجزرة حماة، ثم جاءت حملة الاعتقالات الضارية. التغوّل الأمني الذي مارسه النظام قوبل بالخوف أو الصمت من السوريين، أما الشعراء فتابعوا مسيرة «الإنسان الصغير» وتفاصيله، بل إنهم أوغلوا في الذاتية إلى أقصاها، كرّد فعل على الجيل السابق، فالذات كانت ملاذاً أمام التهشيم الحاصل في وجه الواقع السوري، ومثله الواقع العربي الذي كان يشهد الحرب الأهلية في لبنان، واتفاقية «كامب ديفيد».
كتبت دعد حداد (1937 – 1991) مرثيّات لنفسها، وفتحت مرام مصري (1962) باب الجسد مؤسسة لخطّ شعريّ سوف تلتحق به شاعرات عديدات فيما بعد، أما خليل صويلح (1959) فيكتب باكورته افتتاحيات، راسماً فيها مشاهد أقرب ما تكون إلى منظور الفنان الانطباعي. بالإضافة إلى هؤلاء هناك شعراء «ملتقى حلب الجامعي» الذي نشط في هذه الفترة وقدّم العديد من الأصوات، من أبرزها: لقمان ديركي (1966) محمد فؤاد (1961).
لعل أبرز علامات هذا الجيل هو رياض الصالح الحسين (1954 – 1982) الذي صنع أبوّة ثانية للشّعر السوري المعاصر، بعد أبوّة الماغوط، وأصبحت قصيدته مرجعيةً للعديد من الشعراء، خصوصاً أولئك الذين يستمرئون سهولة محاكاته.
يكتب لقمان ديركي في ديوانه ضيوفٌ يثيرون الغبار الصادر 1994:
أول من يأتي إلى موعدنا أنتَ
ودائماً أتأخر
تعرف أيَّ ورد أحبُّ وتحضرُه
وتعرف أي الألوان
تنشر حولك الظلال وأنت تنتظر
فتحبكَ الظلال
وتحبك ألوان ملابسكَ
الورد في يدك يحبكَ
والمارة أيضاً وهم يرونك تنتظر
تحبك المباني حولك والسيارات العابرة
والناس الداخلون إلى مبنى البريد والخارجون
أحبكَ أيضاً وأنا أتخيلكَ تنتظرني
أحبكَ وأنا أفكر
مرة أخرى لن أستطيع المضي إليك
التسعينيات… «جيل ما بعد الفشل»
البارز في التسعينيات هو مساران، الأول تجارب أكملت القصيدة الشفوية، كما فعلت رشا عمران (1964) في وجع له شكل الحياة (1997)، وكأن منفاي جسدي (1999)، وكذلك هالة محمد (1959) في ليس للروح ذاكرة (1994)، ويمكن أن نضيف عارف حمزة (1974) إلى هذا المسار، رغم أن مجموعته الأولى حياة مكشوفة للقنص لم تظهر إلا في سنة 2000.
مثّلَ المسارَ الثاني أربعةُ شعراء، ثلاثة من مدينة السلمية هم: خضر الآغا (1963) في كتب يقول (1995) وأنوثة الإشارة (1998)، وعلي سفر (1969) في بلاغة المكان (1994) وصمت (1999)، وأكرم قطريب (1966) في آكان، أحرث جسدكِ بناي (1995) وأقليات الرغبة (1998)، وشاعر واحد من مدينة القامشلي هو محمد المطرود (1970) في باكورته ثمار العاصفة (1997).
عمل الشعراء الأربعة على تأثيث مختبر لغوي خاص، يستند إلى اللغة العالية والمجاز، ويقطع مع مسار القصيدة الشفوية. لكن ذلك لم يكن يفضي إلى شِعر دوماً، بل كثيراً ما يمضي إلى الغموض والغرابة. يكتب أكرم قطريب في أقليات الرغبة:
صدفٌ حميم في فجاج جنتي
نزعتُ عن ظنونه سفاهة مذبح رأسي
فاحتفلت بي أبواق ثمود
في كتابه النقدي، البياض المهدور- مقدمة للشعر الجديد في سوريا، (2002)، يسمي خضر الآغا الجيل الذي ينتمي إليه «جيل ما بعد الفشل»، قاصداً الفشل السوري العام الذي بدأ مع الستينيات، واكتملت ملامحه مع نهاية الثمانينيات، ويعتبر أن القيمة الأساسية لهذا الجيل هي التجريب.
تصنيع المشهد الثقافي في سوريا
إذا كانت سلطة البعث قد بدأت بحكم سوريا منذ 8 آذار/مارس 1963، باسم شعارات تحرير الأراضي المحتلة ومحاربة الإقطاع والرجعية، فإنها وجدت في مثقفي الستينيات، وبشكل رئيسي الشعراء، تعبيراً ثقافياً عنها، فأفسحت لهم المجال في المنابر، كما يذكر شوقي بغدادي أعلاه. الأمر ذاته حدث مع شعراء السبعينيات، والثمانينيات بشكل أوضح، عبر تقسيم المهمات بين وزارة الثقافة و«اتحاد الكتّاب العرب»، حيث تخصصت الوزارة بشعر قصيدة النثر، والاتحاد بشعر العمود والتفعيلة.
جاءت حقبة التسعينيات بينما كان النظام يجري عملية تغيير في مراكز الثقل الفوقية، إذ بدأ بتهميش الثقافة لصالح الاهتمام بالإعلام. فيما جاء شعراء العقد الأول من الألفية إلى مشهد ثقافي متصحر كليّاً، حيث صارت الدراما التلفزيونية هي واجهة سوريا الأولى، ولم يتبق للثقافة سوى هامش ضئيل ومُهمَل.
ولعلّ هذا يفسّر بشكلٍ ما ملاحظة حراك ثقافي في الحقب السابقة، في عيون الأجيال الجديدة، مقابل مواتٍ وتصحّر كاملين في ثقافة عقدي ما قبل اندلاع الثورة. الأمر الذي يفضي إلى نسج أساطير عن المراحل السابقة. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه يتعلّق بمدى وعي المثقفين لهذه العملية، ومدى قبول بعضهم بها!
فوضى الألفية والعبور إلى الثورة
مع دخول الألفية الثالثة، حلّت فوضى عارمة في الكتابة الشعرية لدى شعراء هذه المرحلة، فعدا عن استمرار الخطّ الشفوي الذي بات سورياً بامتياز، قدّم شعراء هذه المرحلة مقاربات للضياع الشخصي واندحار الذات، مستلهمين لغة تستمد بلاغتها من قاموس التكنولوجيا، ومن عوالم السينما والرسوم المتحركة، بالإضافة إلى تجارب لا تزال تؤمن بقصيدة التفاصيل اليومية أو بالقصيدة الرؤيوية. يمكن أن نمثل لذلك بمجموعات مثل: أنتظر الهواء لأمرّ بك (2001) لمحمّد رشّو، وأولاد الجيران (2003) لفايز حمدان، والفراغ كلب نربيه في البيت (2004) لمعتز طوبر، عما قليل (2005) لمحمد أبو لبن، والغروب الكبير (2006) لعلي جازو، وتحتانيّات وسحّاب البنطلون (2010) لفادي عزّام.
قبل انفجار الثورة السورية بقليل، حدث انفجار شعريّ كبير، من حيث الكمّ، وجد في الفيسبوك منبراً، بعد عقود كانت الاتجاهات الشعرية فيها تولد في المجلات الأدبية، وسورياً نشر شعراء بدايات القرن العشرين قصائدهم في المقتبس والمجمع العلمي العربي ومجلة الثقافة وغيرها. ولاحقاً انقسموا بين مجلتي شعر والآداب في الخمسينيات، أما في الستينيات فكانت مجلة المعرفة، التي تصدرها وزارة الثقافة السورية، منبراً لشعراء هذه الحقبة، ونشر شعراء السبعينيات في الملحق الثقافي لجريدة الثورة حين كان يرأس تحريره الشاعر محمد عمران. وفي بداية التسعينيات ظهرت مجلة ألف التي لم تستطع الاستمرار لأكثر من عامين. وغام المشهد كثيراً حتى ظهر الملحق الثقافي «أبواب»، في جريدة تشرين، الذي كان يحرّره الروائي والشاعر خليل صويلح، ويعدّ آخر منبر ثقافي في سوريا ما قبل الثورة، وقد حقّق حضوراً وتميزاً بجمع مجموعة من الأصوات الجديدة إلى جوار مثقفي الأجيال السابقة.
ومع اشتعال الثورة سيتحول عدد كبير من هؤلاء إلى معبّرين عنها، وناطقين باسمها، معيدين بذلك أخطاء الأجيال السابقة، لا سيما جيل الستينيات، عبر ربط الشعر والفنّ بقضية سياسية. هكذا سنجد في أعوام الثورة شعراء يكتبون بحساسية تعود إلى نصف قرن، لكنك لا تستطيع إقناع أحدٍ أن الثورة ليست قضية شعرية، ولا تستطيع إقناعهم أنّ آخر ما تحتاجه هو الشعر.
من المجموعات الشعرية المميزة التي نشرت خلال سنوات الثورة: اسمه أحمد وظلّه النار (2014) لمحمد المطرود، وكما لو أني نجوت (2015) لتمّام هنيدي، وبجرّة حربٍ واحدة (2015) لنسرين خوري. تقول قصيدة «شتات» للمطرود:
يحمل صليبَ الجهات ويمضي، (لم يزد سعة الأرضِ). كل جهةٍ جثة العائلة
علامتا زمن الثورة
من بين كل التجارب التي ظهرت، أو التي كانت موجودة واستمرت خلال سنوات الثورة، يبرز اسما غياث المدهون (1979) وجولان حاجي (1977) كشاعرين يحملان مشروعين بملامح شديدة الوضوح. نرى ذلك في لا أستطيع الحضور (2014) وأدرينالين (2017) للمدهون، وميزان الأذى (2017) لحاجي.
يرسم الشاعران أفقاً جديداً لا يسلّم لما هو ناجز وقارّ في المدونة السورية، وفي الوقت نفسه يبقيان في مسافة أمان مع الحدث، بحيث لا تلتاث الشعرية بالمباشرة والخطابية. ولأجل التوضيح لا بد من الوقوف عند كل منهما على حدة.
غياث المدهون… المنفى حرب شخصية
تمتلئ قصيدة غياث المدهون بالمفارقات والأخبار والمعلومات العلمية والتاريخية، وتضجّ بأسماء العَلَم. هي قصيدة ذات شهية مفتوحة للقول، تريد أن ترافع، لكنّها لا تفعل ذلك بمباشرة، بل تبدو أقرب إلى استلهام أدوات الفنون المعاصرة، لا سيما فن التجهيز «Installation»، حيث تُخرج من جملة المفردات والمعاني المتفرقة سردية شعرية، تجمع السحري والواقعي، الشرقي والغربي، السؤال والجواب.
غادر غياث سوريا قبلنا. حدث ذلك لأنّ انتماءه إلى فلسطينيي 1967 حرمه حتى من امتلاك وثيقة السفر الفلسطينية. عن هذه اللعنة الشخصية يقول:
ما أجمل الحياة
لو أن في جيبي هوية شخصية
أسافر بها إلى أمّي في درعا
دون أن أشرح للشرطي القادم من إدلب
الفرق بين فلسطينيي الـ48 وفلسطينيي الـ67
أو لكي أضيّعها كما يفعل أصدقائي
استقرّ في السويد وراح يؤسس نصّه في المنفى الجديد، «مثل شجرة زيتون في القطب الشمالي» على حد تعبيره، لكنّ المفارقة التي ستحدث له، والتي لن يكون صانعها هذه المرة، أنه بينما كان يصارع صقيع الشمال وحيداً، بات بعد الخروج السوري الكبير، أشبه بمضيف في بيت المنفى الذي وضع ملامحه الأولى، يكتب في لا أستطيع الحضور:
في الشمال، بالقربِ من سياج الله، مستمتعاً بالتطور الحضاري وسحر التكنولوجيا، وبآخر ما توصلتْ إليه البشرية من أساليب التمدن، وتحت التأثير المخدّر الذي يمنحه الأمان والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي وحرية التعبير، أتمددُ تحت شمس الصيف كأنني رجلٌ أبيض، وأفكرُ بالجنوب، مختلقاً أعذاراً تبرر غيابي.
كان «شعراء المهجر» قد أخذوا على أنفسهم هماً نهضوياً، واتسمت تجاربهم الشعرية بلوعة الحنين، لكنهم لم يقدموا نماذج عن البيئات والصراعات التي خاضوها في تلك المنافي، وهذا ما نجده في مدونة صاحب «كلما اتسعت المدينة ضاقت غرفتي»، حيث تواجه قصيدته، لا سيما في كتابيه الأخيرين، أسئلة تشتبك مع فكرة المركزية الأوروبية، ولنا نحن الذين التحقنا بركابه إلى الشمال أن نرى واقعية ذلك الصراع، حيث تواجه الإنسان حزمة كاملة من الصور النمطية، التي يمكن تلخيصها في الآتي: العداء للإسلام، العداء للعرب، كراهية الفلسطينيين من قبل داعمي إسرائيل، كراهية المواطنين – الذين قد لا يحملون عداء للإسلام أو العرب- للمهاجرين، نقمة المهاجرين القدامى على اللاجئين الجدد بسبب الخوف على الامتيازات. وإذا نجا المرء من ذلك كلّه فأمامه المطب الذي لا نجاة منه: كراهية الذكور الشرقيين، فأن تكون ذكراً شرقياً في الغرب يعني أنك تحتقر النساء، وتسعى لجمع الزوجات كالجواري.
على حافة هذه النصال الحادة، يقف الشاعر مواجهاً، ويحوّل هذا الصراع إلى مادة شعرية، تسأل عن الحق الفلسطيني، وتدين البحر المتوسط الذي تحوّل إلى «حيوان مفترس».
رغم كل الخلفيات السياسية، لا يكتب غياث شعراً سياسياً، بل يكتب عن حياة يعرفها، صحيح أنّ سمتها العنف والإرهاب والاستبداد واللجوء، لكنه ينبش فيها بحثاً عن أفق الحياة الممكنة.
جولان حاجي… حياة داخلية
لا يساوم جولان حاجي على الشعر في ميزان الأذى، ولذلك لن تجد في نصّه ما يشير إلى الألم السوري العام، كما ينتظر البعض من توظيف إعلامي للشعر في عصور الثورات. هناك ألَمُ شخص ينظر إلى الحياة بعيون من يودّع، ويحصي بهما الخسائر، محاولاً تلمّس ما أمكنه من الصور التي يتركها الفقدان، وهي تسير بالمشهد من الامتلاء إلى الفراغ.
تقول نصوص المجموعة إن السارد يرى بعينين مغمضتين، ويتحدّث اللغات كلّها بفم أخرس. يحدث ذلك وهو ينبش في الحياة الداخلية التي تخزّن الحيوات الخارجية كلها، وفي زوايا وقيعان تلك الحياة، التي نمت في داخل الفرد بمشيئة خياله وتأملاته، تحدث أكثر من حياة، سوف يعاد اكتشافها لاحقاً حين يمرّ الإنسان بصورة أو مشهد، فحتى لو لم يكن يعرفه، أو لم يره من قبل، سيجد أنّه يشترك معه بشيء ما. الفكرة في العمق هي أن العالم ذاكرتنا، حتى لو كانت ذاكرة لاحقة، أي ذاكرة لم تحدث بعد. ثمة تذكّر يحدث الآن لأشياء ستقع فيما بعد، أو عمّا قليل. في المقطع الأول من قصيدة «عطلات قلقة»، الذي يحمل اسم «أوسترليتز»، يكتب:
غادرتُ الأمس إلى أمسٍ آخر
جائعاً كضيف سكران
تشرّد في فجر نفسه.
على الطريق
أستلقي تحت أشجار الكستناء الشاهقة
كطفلٍ يتخفّى تحت سرير ستغطيه الغيوم
«أوسترليتز» هي إحدى محطات القطار في باريس، لكن الاسم يشير إلى المعركة التي حدثت بين الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية، وقد وصفها تولستوي في الحرب والسلام، وهناك رواية لـ و.ج. زيبالد تحمل الاسم نفسه. بهذه اللمحة يتضح المعنى المضمّر في «أمس آخر»، ومن قبله يتلاشى الغموض حول آلية عمل الحياة الداخلية التي تضمر أخرى. ولعل الأمس سيصبح ذا معنى شديد التوهّج حين نرى كيف أنه يجعلنا أطفالاً على الدوام.
تفصح قصيدة «ضوء في الماء» عن ولع بالصّور، حيث يعاملها ككلماتٍ لها نحوُها وصرفُها وإملاؤها. تضيء إشارة في نهاية الكتاب إلى أن القصيدة مكتوبة إثر زيارة معرض الفنان البصري بيل فايولا، في القصر الكبير في باريس. ثمة حوار بين صور فايولا التي تولّد سكينة وقلقاً في اللحظة ذاتها، وبين صور الحياة الداخلية، يقول:
أكان المشهد كله يجري في مرآة؟ أيّ فارق الآن بين الأصل والنسخة، بين الصورة وانعكاسها، بين النوم واليقظة؟
تتراصّ طبقات الصور المبتكرة في «درامات» صغيرة، مسرحها حياة خفية، تأخذ من الجوهري في الواقع الضاري؛ الفقدان، وتمضي به إلى الأقاصي.
لكن ما هو «ميزان الأذى»؟ لنقل إن إحدى إشارات أو دلالات كلمة «ميزان» هي العدالة، والأذى هو المادة التي يريد هذا الميزان أن يروزها بالكلمات، لتعيينه أولاً، والتخلّص منه تالياً، لكن المعضلة أن الأذى سوف يظل مستمراً، ومعه -وربما بسببه- تستمرّ الكتابة، لأنّ العدل وميزانه غائبان. تلك هي مسألة جولان.
هامش
يطمح اختيار هذين الشاعرين بالذات إلى أن يشكّل شهادة شخصية، لكوني من الجيل ذاته وأعيش سؤاله وقلقه، ولأنّ الاطلاع على تجربتيهما يشكّل مقاربة لصورة الشعر السوري الجديد الآن، لما في نصوصهما من إشارات دالّة على الحالة العامة من جهة، ولما تحتويه من تفرّد يخصّ كلّاً منهما من جهة أخرى.
شعرية الشتات
شكّلت الثورة السورية، وما تبعها من مآسٍ، نقطة فارقة في تاريخ سوريا وحياة أبنائها، ومثل كلّ المآسي الأخرى، كمواجهة المحتل والنكسة… إلخ؛ تعيد تشكيل الوعي العام، وتفتح بداية جديدة تطال كلّ تشكيلات المجتمع. كذلك تفتحنا على مراجعة أخرى، تخصّ التحوّل النوعيّ الذي لم يسبق أن حدث من قبل، فيما يخص اتساع الهوّة بين الشعراء بعضهم البعض في النظر إلى هذه المأساة، البعض على خلفية ارتمائه في حضن النظام، والبعض الآخر على خلفية ارتمائه في حضن الطوائف والتكوين الهوياتي الضيّق، على عكس الرؤيا الواضحة لدى شعراء فترة ما بين الحربين العالميتين في سوريا، إذ كان الواقع مقروءً لكون ملامحه بارزة ومحددة في سلطة أجنبية عليها الرحيل.
تفرّقُ الشعراء أيادي سبأ أضافَ شتاتاً على الشتات المكانيّ الذي بعثر السوريين في جهات الأرض. لكن الشتات نفسه سيطبع سوريا بطابعه، وستكون تأثيراته من القوة بحيث يصبح من المستحيل حصر الشعر السوري في مفهوم محدّد مستقبلاً.