1

احترتُ في طريقة البدء مع مديرتي لإخبارها عن رغبتي بترك العمل الذي أسّسناه سويةً، ولم أكن متأكداً من صواب قراري، فلديّ نجاحُ العمل والراتبُ الوافر. كنتُ في حديثي أستعدُ للتحايل على الرفض المتوقع، فالعمل الذي في أوج تناميه، وأجواؤه الودية، أمورٌ تجعل تقدير قبولٍ سهلٍ أمراً صعباً. حين وصلتُ في مقدمتي إلى القول إن كثيرين يجيدون إدارة فرع المؤسسة، بينما لا يوجد هنا من يهتم بالكتابة غيري وبضعة أشخاص، قالت لي: توقعتُ هذا من قبل، وأحترمه. سنتحدث عن ترتيبات الفريق قبل رحيلك. دعنا نقرأ لك.

أزعمُ أنها لم تكن «مستقلعة». لقد حمّلتْني همّاً أكبر نحو الكتابة التي تتناقض مشاعري نحو ضرورتها وعدميتها. وقد يساعد في شرح ذلك وصفُ أي حالٍ ذاك الذي يعيشه من يقتنع أن الكتابة ضرورية في غوطة دمشق الشرقية، فيجعله غير متحمّسٍ لجدواها، وأي واقعٍ مثقل بالمشاغل الحياتية اليومية، التي لا تترك له مجال التفكير بمعنىً للكتابة سوى كحلم، بدءً من واجبات حمل مياه الشرب إلى البيت وتقطيع الحطب بالفأس، وصولاً إلى الأحوال العسكرية والسياسية العامة المثقلة بالخطر الوجودي. أنا الذي لم أُكثِر من الكتابة يوماً سوى لأسدّد ديون زواجنا أنا وتهامة.

2

فتحَت لنا الثورة محرّمات لم نكن نستطيع الاقتراب من معظمها، ولا بزوايا مدورة: الكتابة والنقاش في شؤوننا العامة على مستوى الحكم والمجتمع وتاريخنا، ومسعانا في نقلها إلى ظرف أفضل وأكثر عدالة. الإحباط في المسعى كفّرَ الكتابة، والأخيرة لا يُرى فيها إلا مخرجاً من الأول. كخوارزمية أورويل اللانهائية: لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا.

عشتُ هذا التناقض على الدوام، ووجدتُ في شروط الكتابة القاسية مبرراً لزيادة حدته. منذ انتقالي إلى الغوطة عام 2012 بدأتُ عدة مقالات ودراسات لم أكملها. كان منحنيا الجَلَد على الكتابة والتركيز شديدا التغير، وفي كثير من الأوقات احتجتُ إلى الإنترنت لأراجع معلومات لازمة، ولا يمكن وصف حال الحاجة له حين بدأ الحصار الشديد نهاية 2013. لا كهرباء سوى لساعة وربع يومياً، إضافة لساعة ونصف لبطارية اللابتوب. اعتمدتُ أكثرَ على الكتابة بالقلم، والانتقال للتنضيد بعدها. لكن حين أحتاج لشيء من الإنترنت، قد أستغرق في البحث عدة ساعات لبطء سرعته، ولا أنهيه إلا بعد عدة أيام. كنتُ أشتم الكتابة والقرّاء وأعزف عن الإكمال. ولخوفي، اعتمدتُ على الإيميل لتجميع بعض الكتابات، لئلاّ تقع بيد أحد، وبسبب قلة الإنترنت والكهرباء، كنت أفتحه في فترات متباعدة وأضع فيه ما جمعتُه. بعد فترة اكتشفتُ أنني نسيت كلمة السر، ورغم كل المحاولات لاستعادته لم أنجح. كان ذلك مبرراً إضافياً لإحباطي ودفعي كي أعزف عن الكتابة مرة أخرى.

لم أخبر ياسين الحاج صالح، الذي طلبَ مني إرسال كل ما أكتبه إليه، بما حدث. كنت أقول له إن هناك صديقاً مشتركاً اتفقتُ وإياه على هذه المهمة، ولم يكن ذلك صحيحاً. كنت أخجلُ من أن يقرأ أحد نصوصي الأولية «الساذجة وغير الناضجة».

مرةً، تواعدت على الإنترنت مع صديق لنقوم بورشة كتابة بحث اتفقنا عليه. اعتقدتُ أنّ ذلك قد يجعل الأمور أسهل. وقبل الموعد بدقائق أخبرتني تهامة أن مياه الخزان قد نفدت. ركبتُ دراجتي الهوائية وبدأت البحث عن صهريج مياه. دخلتُ بعد الانتهاء وأرسلتُ إلى صديقي: ساعة ونصف من أجل تعبئة خزان المياه. وبدأت أعُدُّ له ما قد يواجهني يومياً لتأمين المستلزمات، وكلها بطرق بدائية، وكم تستغرق من وقتٍ وجهدٍ وتذمّرٍ مني، وكم أعاني في البحث عن أمور بسيطة وضرورية لزوجتي الحامل، وأخبرته أنني لا أريد كتابة البحث.

كنت محاطاً بالدلال الذي لم يسعف قدرتي على تخطي صدمة الحصار وقسوة العيش غير المتوقعة، وتغيّر واقع الثورة مع صعود تيارات سلفية وجهادية، وزيادة انكشاف تدخل الدول وتحكُّمها، وأصوات القصف والطيران المستمرة يومياً، ومشاهدة جثثٍ لأطفال ونساء ومسنين وشباب في عملي في المشافي الميدانية. واحتمال موتي في أي لحظة.

3

ما الذي تقدرُ الكتابة على تغييره في كل هذا؟ من سيقرأ سوانا نحن المهتمين بالقراءة والكتابة؟ لا السياسيون ولا العسكريون ولا الناس سيقرؤون.

يقال إن الكتابة هي المنجى الذاتي حين لا يعود للتعقل مكان في كل ما يحدث حولك. لكن النزق حينها، قد يطغى على ما تكتب. وقد تتمادى ذاتيتك لتصبح «الموضوعية المنشودة للجميع»، وتلجأ إلى مُثُلٍ قرأتَها، هرباً من الواقع، فلا تنتج شيئاً أصيلاً. لا منجى حتمياً إذن. إنها أيضاً مكانٌ آخر محتمل للسقوط.

وكم من كتابةٍ لم تغيّر من وحش الواقع في القارئ شيئاً، وكم من كتابة مضادةٍ تهوى ذلك الوحش القوي.

لمن نكتب؟ قالها أكثر من أن يُعدَّوا. وأجابوا عنها، لأحدٍ غيري.

4

لا يعني ذلك أنني انقطعت عن الكتابة في أي شهر، فلا بدّ من جرعة مسكّن دورية بما أدمنه. تستهويني النواحي الاجتماعية أكثر من غيرها، لكن لم أنجز سوى بحث واحد فيها، كان بعنوان العلمانية في المجتمعات الأهلية. كتبتُ عن الحصار، وعن مجزرة الكيماوي. كتبتُ عن أصدقائي المخطوفين، رزان وسميرة وناظم ووائل. وكتبتُ بعض المقالات القصيرة التي يصرُّ عليَّ بعض المحررين لإنجازها. وحين يسألونني عنها، أقول لهم إنني أعمل عليها، والحقيقة أنني أماطل حتى اقتراب انتهاء موعد التسليم، وأنجزها في ساعة أو نصف ساعة، وأنتظر ردهم بنفاد صبر خوفاً من اكتشافهم أنها كتابة من «قفا إيدي». الحمد لله، لم يكتشفوا ذلك أي مرة.

«ما حدا بيفشلّي غلّي غيرك»، «أنت أكتر شخص الشغل معه ممتع»، «ليش هديك المادة اللي نشرتها بالموقع الفلاني ما بعتلنا ياها». يا للهول، هل محقٌّ حلمي أن أكتب في يومٍ ما أفضل من حازم صاغية؟! تنفع هذه المتعة في زيادة جرعة المخدّر، ليس إلّا.

5

الكتابة بحاجة للقراءة. وقبل الحصار كان من الصعب توفير الكتب الورقية. لا توجد مكتبات. والكتب التي يهرّبها أصدقائي من دمشق لم تكن تكفيني، فاعتمدتُ على القراءة من موبايلي الصغير. كثيرٌ من الكتب أنهيتها وأنا مرابط على خطوط الجبهة حينها. لكنّ أروعها كان رواية أطفال منتصف الليل، التي أنهيتُ قراءتها على جبهة دير سلمان.

قبل أن يأتي دوري للذهاب إلى تلك الجبهة المريعة، كان بعض الشباب يعودون مصفرّي الوجوه، وبعضهم يُظهر رباطة جأشه المتعالية، وبعضهم لم يرجع. وحين ذهبتُ وعشتُ يومين بين القذائف وتمشيط الرشاشات الثقيلة في كل لحظة – والتعبير غير مبالغ فيه – دون وجود أي مكان يمكن اعتباره شبه آمن، قرّرتُ ألّا أموت سوى مبتسماً كما أحاول دوماً. أنهيتُ الرواية في فترة نومي، بعدها وضعت السماعات في أذنيّ ورفعت صوت الأطلال إلى أعلى حدّ، ولم أعد أسمع صوت القذائف التي تسقط حولنا… «واثق الخطوة يمشي ملكاً… ظالم الحسن، شهي الكبرياء» هو ما كنت أسمعه… وروحي تطير معها.

بعد عودتي بدأت كتابة مادة عنونتها «الملاءة المثقوبة»، عنوان أول فصل من تلك الرواية البديعة، بما يحمله من رمزية لم أستطع تجاوز سحرها دون أن أجعل منه عنواناً لمادة تحاول رصد التحولات الاجتماعية والسياسية التي نتجت عن الثورة. ضاعت المادة في الإيميل الضائع… وسقطت دير سلمان.

مع بدء الحصار بدأت تنتشر بسطات الكتب في كل مكان، إلى جانب كل شيء آخر يقوم الناس ببيعه من بيوتهم أو من بيوت الناس الذين نزحوا عن الحياة المأساوية تحت القصف وبين المعارك، ودون توفر الغذاء أو الماء أو الدواء أو أي من مستلزمات المعيشة الأساسية. أغلى كتاب كان سعره 200 ليرة (1.25 $ حينها)، بينما كان سعر كيلو السكر 3800 ليرة (24 $ حينها). وجدتُ أشياء لم أكن أتوقع أن أجدها: العددين الأول والثاني من مجلة شعر، دواوين لرياض الصالح الحسين، كتباً لنصر حامد أبو زيد وتشومسكي وراسل وأركون وغيرهم. وجدتُ كتاب حين انحدر الجمل من السقيفة لنبيل فياض متصدراً أحد البسطات، وعندما أشرت لصديقي عليه ضحكنا. لم نفكر بشرائه طبعاً. لكن لا أحد من هؤلاء الذين يضيّقون الحياة ويعتدون على حريات المختلفين عنهم وحيواتهم يكترث للكتب أو يعرفها. جيد!

حين وجدتُ كتاب فلسفة التأويل لأبو زيد سألت عن سعره صاحبَ البسطة الفارغة من أي شيء عليه القيمة بالنسبة لي سوى هذا الكتاب. فأمسكه ليرى سماكته ويقرر كم يسعّره، وأجابني: 100 ليرة. حينها أعطيته ما طلب وأدرت ظهري، قبل أن أعود إليه لأقول: لو طلبتَ 1000 ليرة ثمناً له لأعطيتك. كنتُ سعيداً بإغاظته، قبل أن أشعر بالندم حين قال لي صديقي إن هذا التعالي على شخص يعتبر الألف ليرة ثروةً، وقد يكون لا يجيد القراءة، تصرفٌ بشع.

توقفتُ عن شراء الكتب بعد تذمّر طفيف من تهامة، فمدخولنا حينها كان لا يكفي بالنسبة لفحش أسعار الغذائيات وباقي الاحتياجات في ذروة الحصار، رغم عملي كطبيب أسنان وموظف في مؤسسة، وعملها كممرضة.

6

في أوقات كثيرة كنت أقول لنفسي: كيف أفضّلُ الكتابة التي قد تكون جدواها شبه معدومة على العمل المباشر لهؤلاء الناس الذين اخترتُ البقاء بينهم؟ عليّ تسخير كل طاقتي لمساعدتهم على مقاومة هذه الكارثة. كانت الكتابة بمقدوري لو أنني اخترت مغادرة سوريا. صحيح أنني كنت سأصبح حينها كاتباً كغيري، فبقائي هنا هو السبب الأول لما يمنحني إياه المحررون من اهتمام، وليس مستوى كتابتي الذي أراه متواضعاً أمام شباب مميزين يعيشون خارج سوريا. لكن هناك كثيراً من المبادئ والخدمات التي يجب العمل عليها: الديموقراطية والمساواة ومشاركة الناس ورفع الظلم عن المرأة وتقديم الخدمات المعيشية.

كنتُ أجري المقارنات الأخلاقية في ذهني، الكتابة أم العمل الميداني من أجل مبادئ الثورة ومساعدة الناس؟ هل يمكن أن أوازن بينهما؟ لكنّ الواقع جرّني إلى الأمان المعيشيّ أولاً، وهو ما عنى استهلاك كل وقتي للمؤسسات التي أعمل معها وتمنحني الراتب الثابت، إضافة إلى وقت العائلة: تهامة وسموّ، طفلتنا.

كثيرٌ من الجهد والطاقة ومراكمة العمل، لم ينتج سوى تقدم طفيف في المجال المدني للثورة. ما زلنا حتى الآن نعاني من أجل اعتماد الانتخابات العامة للمجالس المحلية والهيئة العامة للغوطة، ومن أجل مشاركة المرأة، ومن أجل الشفافية مع السكان، ومن أجل فصل السلطات.

أتحدثُ مع أسامة نصّار، رفيق النضال، عما نعرفه من فقداننا لأي قدرة في التحكم بمصائرنا، ومحدودية احتمال تأثيرنا في هذه القضايا، وأنها قضايا الثورة الأساسية التي لا أمل بسواها، وسوى الصبر من أجلها. لكنني كنتُ أقولُ لنفسي: إن لم تفعلوا ما سيكتبه التاريخ، فسأكتبُ عنكم أيضاً، لأدمّر احتمال مزاوداتكم «بنضالكم الثوري».

7

عشتُ ما يمكن لثائر أن يعيشه في الثورة، عدا الاعتقال الذي تمنيتُ أن أموت على أن يحدث. شاركتُ في التحضير للثورة وعملتُ في التنسيقيات. أصبتُ إصابةً طفيفة. انضممتُ للعمل العسكري وتنقلتُ بين عدة كتائب، كان آخرها خياراً وحيداً ومرًّا، لم أتحمّله طويلاً فتركت السلاح نهائياً.

تنقّلتُ بين ثلاث محافظات. شهدتُ تحوّلات الثورة ميدانياً. عايشتُ وحشية النظام يومياً والكوارث والآلام التي سبّبها. عرفتُ كثيرين، لكلٍ منهم مأساتهم. عملتُ في المشافي الميدانية. شاركتُ في أعمال تنظيم مؤسسات ثورية واسعة، لم يسلَمْ أيّ منها من التجيير لمصالح شخصية. شهدتُ خطف الثائرين من المستبدين الجدد. شهدتُ اقتتالات داخلية بين الفصائل بعد أن كانوا شركاء للكتائب التي كنتُ فيها – ولم يعد لها وجود اليوم – في معارك تحرير الغوطة. عشنا تفلّت قضيتنا من أيدينا رويداً رويداً. لم نكن متفرجين إذا صحّ التعبير، بل نعيش تأثير ذلك علينا يومياً بكل تفاصيله. وأكثر من ذلك، شهدتُ أحداثاً كبرى كان الفارق بين أن تحدث أو يحدث نقيضها… شعرة.

تعقدت الأمور أكثر مما يستطيع الإنسان فيه الحفاظ على توازنه النفسي، وأصبح كل السوريين يتمنون أن يعرفوا فقط ما الذي سيُقرَّر بأمرهم. أن يعرفوا فقط، لا أن يشاركوا.

8

قد تصبح الكتابة فعل المقاومة الأخير لئلاّ تموت بصمت. لئن تحفر وجودك رغماً عن كل قاتليك. وقد تُضيئ الكتابة شيئاً حول فهم الإنسان، فلا يوجد أفضل منها الآن من أجل قضيتنا، إذ سوريا اليوم هي صورة العالم الذي نعيش فيه.

وقد تساعدنا الكتابة في تفكيك كل العقد رويداً رويداً. في الفهم والإحاطة بعد عملٍ دؤوبٍ على تناول المعطيات وتحليلها ومقاربة أسبابها وإمكانات التأثير للجذب نحو مركز العدل. وكيف نعمل لدفع اليائسين من أجل استعادة أحلامهم وآمالهم الكريمة، عبر إخراجهم من حالة العجز وعدم الفهم إلى عمل محدد من أجل خرق ثقوب أكثر في الملاءة التي رُفعت أمام وجوههم. فحين تكثر الثقوب، لن تعود للملاءة وظيفتها، وستسقط.

يبدو أنه كان عليَّ كتابة هذه المادة منذ زمن، وأن أصدّقَ ما يدندنه لي الشيخ إمام كل يوم:

إذا الشمس غرقت في بحر الغمام

ومدت على الدنيا موجة ظلام

ومات البصر في العيون والبصاير

وغاب الطريق في الخطوط والدواير

يا ثاير

يا داير

يا بو المفهومية

ما فيش لك دليل غير… عيون الكلام