لم تحظَ الرقة يوماً بكمّية الخرائط عالية الدقّة للتداول العام كالتي نجدها اليوم في مختلف وسائل الإعلام، المحلّية والعربية والعالمية. الأكثرُ حرفيّة، تلك التي تُظهِرُ كلّ الشوارع والأحياء والأزقة، متوفرةٌ بشكل أساسي باللغة الإنكليزية. ومواقعُ تتبّع النزاعات المسلّحة ومراصد العمليات العسكرية التي انتشرت بكثرة خلال السنوات الماضية، تُقدِّمُ تحديثات على مدار الساعة على شكل تغيّرٍ في ألوان الشوارع والأحياء على وقع تقدّم قوّات سوريا الديمقراطية، المدعومة من التحالف الدولي ضد داعش، وتراجع هذه الأخيرة إلى المناطق المركزية من المدينة.
يجد متفحّص تسميات الشوارع والأحياء في هذه الخرائط مزيجاً من التسميات الشائعة لدى أهل البلد والتسميات الرسميّة، تلك الموجودة على اللوحات الزرقاء التي علّقتها بلدية الرقّة نهاية القرن الماضي، والتي قلّما تُستخدم فعلياً في المدينة. هذه الأخيرة، أي التسميات الرسمية، يعرفها الخبراء العسكريون والتقنيون في التحالف الدولي أكثر منّا، نحن أهل البلد الذين نفتح الخريطة كي نتأكد من مكان حيّ يرد اسمه الرسمي في الأخبار، ونتلمّس موقعه في دوّامة الألوان المتبدّلة ونحن نستدل بشارعٍ نعرف امتداده ونتوقّع موقع الحيّ استناداً لذلك.
يعرف الخبراء العسكريون والتقنيون أيضاً ما لا يعرفه أغلبنا على الإطلاق، أي «إحداثيات» مباني وشوارع معيّنة، وربما مواقع تمركز قوّات داعش أو مخازن أسلحتها. لا نعرف نحن إلا مواقع بيوتنا وبيوت أقربائنا وأصدقائنا، ومدارسنا ومصالحنا التجارية والصناعية، وحدائق وساحات، وحتى مطبّات خالدة في الطرقات لا نعرف أن ندلّ عليها أو نعبّر عنها بتقاطع أرقام طول وعرض… لسنا خبراء عسكريين.
كذلك، يعرف الخبراء العسكريون والتقنيون، ومعهم سياسيون وأكاديميون وصحفيون، وعموم الجمهور، أشياء كثيرة ارتكبتها داعش في المدينة. جميعهم شاهد صور الصلب والجلد وقطع الأطراف والذبح التي بثّتها داعش بدقّة عالية، تكاد تنافس دقّة خرائط الوضع العسكري الراهن في وضوحها، ورأوا وسمعوا أيضاً منّا قصصاً كثيرة، وأقبلوا عليها بحماسٍ يعرفه من قابل صحفيين وخبراء (وربما سياسيين) يودّون أن يحكي لهم أهل الرقة عن عصبة الرعب والقتل الداعشيّة. ربما لا يعرفون أننا حين نتحدث عن خطف أحدٍ نقول إن «الدواعش شالوه» أو حين نتناقل خبر ذبح أحد أبناء بلدنا نقول إنهم «قصّوه»، ولا أحد يترجم هذه المصطلحات بحرفيّتها إلى الانكليزيّة. بعض هؤلاء يعرف أسماء شهدائنا ومفقودينا بفعل الملل من سماعها منّا، لكن أغلبهم لا يعرفها لأنه لم يهتم. الصور، أكانت عالية الدقّة أو مأخوذة بموبايل مهزوز، تُظهر لحماً، وليس للحم اسم، ولا شخصية، ولا أقرباء وأهل وأصدقاء وجيران. دورة حياة اللحم المُشاهد عبر البِكسل قصيرة للغاية، بالكاد ثوانٍ معدودة.
لكن الجمهور العالمي، وأروقة السياسة والعسكرة الدولية، تسمع وتتحدث وترى عن «معقل الخلافة» كثيراً، حدّ الإشباع والتخمة. منذ سنوات والأخبار عنها تملأ الصحف والتلفزيونات، بالذات كلّما ارتكبت داعش عملاً إرهابياً هناك، في باريس أو لندن أو بروكسل. تلتهب الإحداثيات المتوزّعة في الخرائط عالية الدقّة وتصير حمراء مستفزّة، لتتلقى الصفعات الجوّية عقاباً لداعش في عقر «عاصمتها».
للرقة تاريخٌ في عُرف أروقة السياسة والعسكرة عمره نحو أربع سنوات، أي من عمر «عاصمة الخلافة». ولِدت الرقة كمعلومات أولية عامة عن «قصر المحافظة»، معقل داعش الرهيب، ونضجت كشبكة إحداثيات كثيفة. هناك لحمٌ كثير عالق في هذه الشبكة، لحمٌ لم يُساوَى يوماً بضحايا الإرهاب في باريس ولندن وبروكسل، لأن للضحيّة كياناً ووضعاً لا يتناسب مع قاطن «معقل داعش».
الضحية مزعجة، تحتاجُ إن بقيت على قيد الحياة، ويحتاجُ ذووها إن ماتت، مواساةً وحناناً وحداداً وتكريماً، ولاحقاً مساعدةً لينهض من بقي حيّاً من وضعه الأليم وينجو من محنته باتجاه المستقبل. هذا كثير! كلّ ما سنتلقّاه هو اعترافٌ جزئي بنا كـ Collateral Damage في تقارير عسكرية تعترف بموت المئات من المدنيين في قصف التحالف، أو بالضربات المدفعية لقوّات سوريا الديمقراطية. الاسم بالانكليزية أكثر أناقة وأقل «دراما» بما لا يُقاس من «شالوه» أو «قصّوه» أو «صار بيتهم بالقاع».
لم يُعتَرف بنا كمساوين في المعاناة (رغم أن معاناتنا هي الأكبر)، ولم يُعترَف لنا بالمساواة في المعنى والقيمة. المساواة عدوّة الواقعية الفاعلة، وتُصعِّبُ المعركة كثيراً. المساواة تعني أننا شركاء، وهذا ما لا تحتمله متطلّبات معركة إنهاء هذا التنظيم الإرهابي الفظيع. تخسر داعش المعركة الآن، وستفقد «معقلها» بعد حين في حربٍ لم يُرَد لنا أن نكون -كما نحن- شركاء فيها، بل أُمرنا أن نكون هلاماً صامتاً سلبياً، يقبع في السكون إلى أن يؤمر بالرحيل إلى معسكراتٍ لا ندري كم ستدوم، ولا ندري من سيعود منها إلى بيته -إن بقي له بيت يعود إليه- وحيث سيُطالَب بإثبات أنه ليس داعشياً. لقد كانت أربع سنواتٍ ثقيلة، و«عقدة ستوكهولم» ربما حوّلتنا لقاطعي رؤوس نتماهى مع من «قصّ» أهلنا وأصدقاءنا.
بين شارعي المعتز والوادي سلسلة حارات ضيّقة ومتشابكة، تُسمّى «السبع دربات» أو «السبع حارات». أغلب بيوتها قديمة وبطابق واحد، تطلّ على شوارع ضيّقة بالكاد تعبرها سيارة صغيرة دون مناورة. تلقّت هذه المنطقة قبل أيام رشقة صواريخ أدّت لاستشهاد عائلة كاملة. لا نعلم إحداثيات «السبع دربات»، ولذلك نعجز حتى عن المحاججة «الواقعية» حول الجدوى العسكرية لضربها، ونضطر لكبت ألمنا كي لا تُلامِسنا شبهة الدعشنة المحلِّقة فوق رؤوسٍ سَبَقَ أن أينع قطاف كثيرٍ منها لدى الدواعش؛ لا نعلم كذلك إحداثيات عبّارة السعدو، نعلم أنها تقع جنوب شارع المنصور، في منطقة ذات كثافة سكانية عالية، وأنها تلقّت بدورها دفعة من القصف. لعائلة السعدو شهيدان أخوان شابان سقطا على يد الإرهاب الداعشي. أولهما، محمد، ضحية إرهاب برعم داعش أوائل تشكّله أثناء عمله كمسعف، والثاني، بِشر، ذُبِحَ انتقاماً من نشاطه الإعلامي ضد التنظيم الإجرامي.
أيضاً، لا نعلم إحداثيات الهوتة، التجويف الطبيعي الذي استخدمته داعش لرمي جثث ضحاياها، رقاويين وغير رقاويين، مدنيين ومقاتلين، أكراداً وعرباً، والذي خرجت منطقته عن سيطرة داعش قبل شهورٍ طويلة، كي نلفت انتباه العالم، ذو التحالف، إلى أننا بحاجة لمساعدة في كشف مصير مئاتٍ من مفقودينا الذين «شالهم» داعش من بين ذويهم.
لا نعرف قراءة الإحداثيات في الخرائط… هذا ذنبنا. لكن السدود التي سقطت تباعاً بيد قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي لا تحتاج لإحداثيات للدلالة عليها، وجميعها استُخدمت كسجون، نعلم ذلك من رواية أهل البلد من الذين حالفهم الحظ وخرجوا أحياء منها، وتعرف الصحافة العالمية ذلك لأنها اعتُبِرَت أماكن محتملة لاحتجاز الرهائن الغربيين من صحفيين وناشطين. لم يبدر من التحالف الدولي أي تصريحٍ بخصوص تفتيشها والتحقيق في المعلومات والآثار الموجودة فيها، ولم تُظهَر أي صور أو بيانات، ولم يُستَشَر ذوو المفقودين بغرض أيّ نوعٍ من أنواع التحقيق.
ستفقد داعش «معقلها» بعد حين، وسيكون خبراً عالميّ الأبعاد. كلّ هزيمة لداعش هي خبر مفرح للعالم، ولنا أيضاً. لكن ثمّة غياب في تساوي معادلة فقدان داعش لـ «عاصمتها» واستعادة أهل الرقة لمدينتهم بما تعنيه الكلمة من معنى، غيابٌ سرعان ما يُتّهم المُشير إليه باهتزاز كرهه للتنظيم الإرهابي الذي جثم على صدر حياته وحياة مدينته. لم نكن فقط فاقدي الأهليّة لأن نكون شركاء في معركة مصيرنا، بل وكنا من الإزعاج بحيث وُجِدَت عائلاتنا وبيوتنا ومصالحنا وذكرياتنا وحياتنا في المكان الخطأ، مُزعجة ومُربكة بين خيوط الإحداثيات.
لسنا مرئيين خلف شبكة الإحداثيات الكثيفة. بالكاد يُرى لحمٌ صامت ومزعج، ولد عام 2014، وسيموت مع فقدان داعش «معقله». لسنا لحماً، وولدنا قبل داعش، ونريد أن نعيش بعدها بكثير، ونريد أن نعيش بكرامة. ما هي إحداثيات الكرامة؟