حين وقفتُ أمام معبر باب الهوى الحدودي كي «أزور» سوريا، كنتُ أتأرجحُ بين الأصوات العالية وغباشة الرؤيا، ذلك أن الليل كان يُطبِقُ على المكان، وصوتُ نغمات الواتس آب المتلاحقة وحده ينخر رأسي ليعيدني إلى حقيقة أنني ما زلتُ على الأراضي التركية، قبل أن يتجاوز قلبي الأمتار القليلة التي تفصلني عن بلادي.
لكنني هذه المرة لن أكتبَ عن رحلة إلى مدينتي، إلى حلب، لأنه لم يبقَ لي مدينة الآن منذ أن استولى عليها النظام أواخر العام الماضي، لتتحول قرى النزوح ومخيماته إلى مدنٍ جديدةٍ بذاكرةٍ يجهلها أهالي حلب، أمّا أنا فأرسمها بصورة ملامح أمي، وبصورٍ قليلةٍ من ذاكرتي الصغيرة عن قريتنا الأصلية في جبل الزاوية في ريف إدلب، التي نزح إليها من بقي في البلاد من أفراد عائلتي بعد خروجهم من حصار حلب.
الطريق من كيليس إلى باب الهوى في مدينة الريحانية التركية لم يستغرق سوى ساعتين، وعلى الرغم من فتح معبر باب السلامة الذي يبعد كيلو مترات خمسة عن كيليس، فإنني آثرتُ الذهابَ عبر باب الهوى، لأن وجهتي حيث أمي ومن بقي من أهلي هي جبل الزاوية في ريف إدلب، ولأنكَ إذا ذهبتَ من باب السلامة، عليكَ أن تمرَّ بـ «دولٍ» كثيرة كي تستطيع الوصول (تركيا – إعزاز- عفرين – ريف حلب الغربي – ريف ادلب- جبل الزاوية)، وعليكَ أن تنتظر لساعات طوال، ربما يوم كامل، في كرم زيتونٍ يمثّلُ الحدَّ الفاصلَ بين عفرين وإعزاز، حتى تستطيع الوصول إلى الضفة الأخرى من مناطق سيطرة الثوار في ريف حلب الغربي. هذا بالإضافة إلى الشائعات الكثيرة التي ربما يكون جزءٌ منها حقيقياً، كما أنها يمكن تكون مجرد شائعات، بأن جنوداً للأسد يقفون على المعابر هناك. الأمر ليس مغامرةً وربما لا يستحق المغامرة، لذلك سرعان ما تنفضُ عن مخيلتكَ مجرد التفكير بالمرور من عفرين.
كان عليَّ الوصولُ باكراً لأحجز مكاناً لي بالقرب من جدار المعبر، تحت الخيمة التي أُعِدَّت لنا لتحمينا من الشمس. تتسع الخيمة لنحو 300 شخصٍ وقوفاً، وعندما وصلتُ في الثانية ليلاً كان العدد لا يتجاوز مئتي شخص، وكان الناس يخرجون من الخيمة ليجلسوا بعيداً ويمارسوا هواياتهم في التدخين وإثارة الشائعات.
بالقرب منهم أشعلت سيجارتي، لأستمعَ إلى صوت أحدهم يشرح لنا «كيفية الدخول»، ويُتبِعَ ذلك بزفرةٍ قال بعدها: «سمعت أنو الأتراك ممكن ما يرجعوا يدخلونا، هني طولوا المدة 3 شهور حتى يعملوا هيك»، فيقول له آخرٌ خائف: «صلي عالنبي يا رجل… كل عيد بيرجعوا الناس، بعدين لو بدهون يقلعونا بيقلعونا بدون زيارة عيد، دولتهون وهني أحرار». أما أكثر الشائعات تداولاً فقد كانت عن «فقدان حظك في نيل الجنسية التركية إن دخلت إلى سوريا، لماذا سيعطونك جنسيتهم وما زال قلبك معلقاً بعيداً عنها، هناك حيث جذورك الممتدة في مكانٍ آخر».
لم يكن عنديَ الجَلَدُ الكافي للدخول في النقاش، ففضلّتُ الاستماع إلى الحديث الذي راح يأخذ أبعاداً أخرى، عن مناطق خفض التوتر والمناطق الآمنة وتجاوز ذلك لقرارات الأمم المتحدة، وعن الأزمة القطرية السعودية وتأثيرها، وعن القرارات التركية بدخول مدينة إدلب وتشكيل الجيش الوطني، وعن رفض هيئة تحرير الشام لذلك، وعن احتمال الاقتتال جراء هذا الأمر، وعن البصمة التي قِيلَ إن المعبر التركي سيفرضها على العائدين، وعن جهل الجميع بأسبابها.
مرَّ عناصر حفظ النظام الأتراك فسكتَ الجميع وابتسموا، وكان بعض الناس يوزعون الماء والكعك على الموجودين في المعبر لمن يودّ السحور، معظمنا تناول الكعك والماء، ثم أشعلَ سيجارته بعد أذان الفجر.
الوقت كان يمشي طويلاً ثقيلاً، ورغبتي بالزيارة لم تتأثر كثيراً بالكلام الذي سمعته، رغم أنه قد أخذ جزءً من تفكيري. آلافُ الرجال والنساء يجلسون على حقائبهم بانتظار السماح بالدخول، كلٌ منهم يتفقد نفسه كمن نسيَ كلَّ شيء، هويته التركية «الكيملك» كانت وطنه الجديد. حين طُلِبَ إلينا التقدم إلى الساحة الفارغة التي تسبق باب المعبر الأبيض، كان العدد قد تجاوز الخمسة آلاف شخص، لا أعرف من أين أتوا، ولكنهم ظهروا فجأة. الممر الوحيد الذي مدخله بعرض 35 سم لم يكن يتسع لأكثر من شخص واحد، والخيمة التي تتسع لـ 300 شخص وقوفاً تجاوز عدد الناس فيها الألف، أما باقي الأشخاص فيزاحمون ليضعوا قدماً واحدة داخل خيمة «الحياة»، الجندرما التركية تصرخُ بنا لنقف في الدور، وفقط البسطاء والفقراء والدراويش وأصحاب الأدوار الأولى كانوا يخافون فيقفون في دورهم، ليتجاوزهم من يدفع 100 ليرة تركية.
على بعد أمتار من الزحام كان يجلس أبو محمد، رجلٌ خمسينيٌ من قرية دير شرقي في ريف معرة النعمان، يحرك بيده عوداً وجده في الأرض. وكعادتنا نحن أهل القرى، جلستُ بجانبه، أردتُ أن أكسر حاجز صمته، سألتُه: «لحالك؟»، التفتَ إليَّ وهزَّ رأسه بالإيجاب، ربما أراد أن يكملَ لكنني التفتُّ إلى الخيمة التي بدت كرغوة الصابون، كلما مرَّ من الممر الضيق شخصٌ ازداد انتفاخها.
ابتسم أبو محمد ثم تكلم مع نفسه بصوتٍ عالٍ، ربما رأى لهفتي للدخول وخوفي من الزحام، فقال: «بتدخل لا تخاف، الكل بدو يدخل». كلامُ الرجل أشعرني بالراحة، لولا أنه أكمل: «بعد سبع سنين ثورة، خلوا أحلام الناس كلها متعلقة بـ 35 سم، وبقي بشار الأسد بمكانو. اطلَّع عالوجوه، كأنو يوم القيامة، الرجّال ترك مرتو، والمرة عايفة إبنها، وبس دخلوا بيصيروا يدوروا على بعض».
أن تُختَصَرَ أحلامنا بـ 35 سم، وهي المسافة الفاصلة بين عمودين من الحديد، تدخلُ منها إلى المكان الذي ولدتَ فيه، زائراً. أليس من المجحف حقاً أن تُقتَل أحلام البشر وثوراتهم في زحام هذه الحرب؟ قانعين بحلم واحد لا يتجاوز أمده ساعات قليلة، عالقين في منتصف الطريق حين يكون البقاء والعودة لهما طعم المرار نفسه في الحلوق. ولكن للحقيقة، وحين وصلتُ إلى الجانب السوري من المعبر وراقبتُ الوجوه، كانت الابتسامة تعلوها، وكان الناس يركضون وكأنهم يرتكبون الحياة هذه المرة بإرادتهم، متمسكين بالتراب، وأنظارهُم هائمةٌ تبحث في الفضاء عن علّةٍ لخوفهم. ربما كان البحث عن طائرة حربية توقع لهم صك البراءة في المغادرة هو ضالتهم، حاملين أكياسهم وحقائب سفرٍ تكفيهم لزمن لا يريدون تجاوزه، بعد أن قسّموا حياتهم بين مكانين وذاكرتين. هم لا يصدقون أن أقدامهم الآن ثابتة في المكان الذي لا يشعرون فيه بالغربة، ولا بمرارة المنافي، ولا يحملون صفة لاجئ أو أجنبي، وفي الوقت نفسه يشعرون بالحنين لتلك المنافي وكأنها غدت أوطانهم فعلاً.
في الكراج القريب من معبر باب الهوى على بعد 2 كيلو متر تقريباً، كانت الحافلات والسيارات الخاصة تملأ المكان، سألني أحدهم «لوين معلم؟» فأجبته «إلى أمي». ركبتُ السيارة الصغيرة أنا وثلاثة ركاب من عائلة واحدة، كان طريقنا واحداً إلى جبل الزاوية، وكان على كل شخص أن يدفع مبلغ خمسة آلاف ليرة. حين انطلق بنا السائق ودخلنا إلى مدينة سرمدا، استرعت انتباهي الأبنية الجديدة التي ملأت المدينة، ومشاريع الأبنية الطابقية، وسوق السيارات الأوروبية. كان المكان ضاجاً، قلتُ في نفسي وأنا أراقب ما يحدث، لعل اتفاق خفض التوتر كان السبب وراء استعادة فكرة بناء حلم، والتفكير في مستقبل، خاصةً أن المستقبل كان يعني لنا نحن السوريين أن يمتلك الواحد منا بيتاً ووظيفة، ثم تتعطل أحلامه الأخرى ليكملَ طفله ما بدأ به، وينتهي به المطاف أيضاً في المكان نفسه.
الصمتُ كان مطبقاً علينا طوال الطريق، دهشتي عند مروري أمام كل مبنى يُعاد إعماره أشعرتني بالخجل، سألتُ نفسي إن كان ذلك الأمر يشعرني بالحزن. هل وددتُ فعلاً أن أمرَّ بتلك القرى لأرى فيها الناس تقطن مجموعة من البيوت المهدمة أو الخيام المهترئة؟ لأكمل بعدها جلسات حزني، وكتابتي المؤلمة، وشفقتي على من يعيشون في الداخل، أم ان إرادة الحياة عند الناس عرَّت عجزي، ووصمتني بالخوف والهرب، حين اعتبرتُ أن الحياة في هذه البلاد لم تعد ممكنة، وأن عليَّ النجاة بعائلتي من هذا الجحيم.
في منتصف ساحة القرية في جبل الزاوية وإلى جهة الشمال، كانت بسطات من الحلويات والفاكهة وبعض الألبسة قد نُصِبَت بانتظار العيد، هذا المشهد الذي غاب في السنوات الستة الماضية، وعلى الطرف المقابل كانت أرجوحة حديدية صدئة قد احتلت مكاناً كان في السابق، قبل أن يتحول إلى أنقاض بفعل القصف، دكاناً أمامه مصطبة اعتاد العجائز تمضية وقت الظهيرة في فيئه، وفي المساء كان المكانَ المحببَ للشبان المراهقين الذي يتلصصون على المارة. تلفتُّ في المكان الذي لم أزره منذ ثلاث سنوات، لم تكن هناك فروق كثيرة قد طرأت عليه، بعض الشظايا كانت قد ثقبت واجهات المحال، والبيت المهدم الذي احتلت مكانه الأرجوحة هو كل ما تغير.
أمام دكّة البيت كانت أمي تجلس مع أحفادها، حين رأتني وقفَت، أمي التي بدَت قصيرةً جداً هذه المرة، وخَلَت عيناها من الكحل الحجري الذي رافقها منذ وعيتُ وجهها أول مرة، وكانت كلما مازحتُها «متكحلة يا حجة؟»، تهربُ بخجلها لتقول: «عيوني عبيوجعوني». احتضنتني، وحين رافقتُها إلى داخل البيت كانت قلائد من «كعك الزرد» قد عُلِّقَت على جدران الغرفة ربما ترحيباً بقدومي. اكتفَت بالصمت، وحين هممتُ باستدراجها للحديث قالت: «كنت كل يوم عبشرب القهوة مع أسماءكون وصوركون»، ونظرَت إلى صورة أخي المعتقل التي تصدّرَت وسط الدار ثم أجهشت بالبكاء. هكذا هنَّ الأمهات، يعبرن عن فرحهن وحزنهن بطريقة واحدة.
في قريتي، كما كل القرى التي مررتُ بها، كانت مسحةٌ من الحياة قد بدأت بالظهور على كل شيء. الأسواق بدت منتعشة، وقال لي أبو علي صاحب الدكان الكبير في القرية إن قدوم الزائرين من تركيا قد ساهمَ كثيراً في انتعاش الأسواق، وأنه اضطُرَ خلال الأيام الماضية مرتين للذهاب إلى إدلب لشراء حلوى العيد، وتوابل الكعك، بالإضافة إلى أن الطائرات لم تَزُر القرية منذ ثلاثة أشهر.
أهلُ القرية كانوا منقسمين حتى في استقبالهم للعائدين، الأحاديثُ كانت تدور حول العودة إلى سوريا بشكل نهائي، فهناك وبحسب احصائيات معبر باب الهوى 5% لم يأخذوا قسيمة العودة إلى تركيا، وهناك كثيرٌ من الناس أخّروا موعد عودتهم ليختبروا الحياة في البلاد قبل حسم قرارهم بالبقاء. بعض الناس كان يرون أنه بعد أن خفتت أصوات القتال بين الفصائل، ودخلت المنطقة في التهدئة مع نظام الأسد، فإن على الجميع أن يعود: «ما الذي نفعله في تركيا؟»، وبعضهم الآخر كان يرى أن العائدين هاربون، وربما خونة. أما اليائسون من الثورة بعد سيطرة قوات الأسد على حلب وتهجير أهلها وأهل مناطق كثيرة من دمشق وحمص، فقد كانوا يحسدون الذين استطاعوا الدخول إلى تركيا وتأمين عمل فيها، ويطالبوهم بالبقاء وعدم العودة، وأخذ الجنسية إن استطاعوا، فلم يبقَ في الوطن ما يستحق، خاصةً مع ظهور الخلافات الحادة بين الفصائل، فالأهالي وعلى الرغم من الهدوء السائد في الأجواء، إلاّ أنهم بدوا وكأنهم يجلسون على رمادٍ تحته جمر، بعضهم يرى وجوبَ انتهاء الحركات الإسلامية ودخولها في الجيش الوطني الذي صار الحديث عن تشكيله أمراً واقعاً، في حين يرى آخرون أن أصدقاء الثورة، وخصوصاً السعودية وتركيا، هم من سلّموا حلب، ويسعون الآن لتسليم إدلب وإنهاء حلم الثورة.
هذه الخلافات انعكست على نظرة المجتمع المحلي حتى لأهاليهم القادمين من تركيا، وساعدَ في تعزيز هذه النظرة تصرفات كثيرٍ من الزوار الذين ظهروا وكأنهم سياح، عادوا إلى المكان لتفقد آثاره وأخذ صور السيلفي، حاملين معهم علب دخان «المارلبورو» متباهين ببعض الكلمات التركية التي لا يستخدمونها حتى في تركيا نفسها، يرشقونها كيفما اتفق، مظهرين كثيراً من الشفقة على الأوضاع التي آلت إليها البلاد التي تعيش بلا كهرباء ولا ماء ولا حدائق ولا مدارس، ليقفَ المرء أمام سؤالٍ عصيٍّ على الإجابة: هل يستطيع الإنسان أن يحلَّ ضيفاً على نفسه، وكيف يُستبدَلُ شعور الانتماء بالشفقة؟
في السنة الماضية كان عيد أمي في مدينة حلب قبل أن تسقط، كانت يدها أقوى، وقلبها أكبر. معظم الذين خرجوا من مدينة حلب وقابلتُهم في زيارتي كانوا «يترحمون على أيام الحصار»، كان ينقصهم الفرح رغم كل مظاهر العيد والأمان النسبي الذي شعروا به في الأشهر الأخيرة. كل ذلك لم يكن لينسيهم غربتهم والبيوت التي تركوها هناك، وقبورَ أولادهم التي يبست في انتظار أعواد الريحان بعد تكبيرات العيد، وثورتهم التي بدأت تخبو مع تصاعد الحديث عن التقسيم، الذي وبطبيعة الحال سيحولهم إلى نازحين دائماً، ويقتلُ ما تبقى من أمل في داخلهم بالعودة.
تذكرتُ كلام الرجل المسن عند باب الدخول عن أحلام البشر التي ضاقت، لكن في الطرف المقابل أخَذَت أحلام كثيرين شكلاً آخر: الشبابُ يحلمون بجمع كلفة طريق التهريب نحو أي بلد للهروب من حالة اليأس التي يعيشونها، وتتركز معظم أسئلتهم حول ذلك، وحول إمكانية الوصول إلى أوروبا أو حتى إلى تركيا بأي طريقة. والأطفالُ يحلمون بدورٍ على الأرجوحة الصدئة، التي بات الجلوس فيها لعشر دقائق يحتاج لمبلغ 100 ليرة. والنساءُ تحلُمنَ بعودة الكهرباء ولو لساعتين في اليوم، كي يُرِحنَ أيديهنَ المتعبة من عناء الغسيل بالماء البارد. والعجائزُ ينتظرنَ عودة أبنائهن إلى الحياة من جديد. والشيوخُ ينتظرون أن تعود دكة الظهيرة، ليجلسوا عليها منتظرين قَدَرَهم. أما السائحون فينتظرون دورهم للعودة عبر ممرٍّ حديديٍ مدخله بعرض 35 سم.