كانت البداية عندما اضطررتُ لزيارة أحد الأصدقاء في الدويلعة، وهو حي دمشقي شعبي يندر أن أذهب إليه. استقلّيتُ سيارة أجرة وأخبرتُ السائق عن وجهتي، وللوصول إلى الحي المذكور، كان علينا التوجه إلى شرق المدينة وصولاً إلى حي باب شرقي، لتنعطف بنا السيارة يساراً في الطريق الذي تؤدي نهايته إلى أسواق الخير وعين ترما، ونمرَّ على حاجزٍ لم يكن مهتماً كثيراً بتفتيش السيارة أو برؤية من بداخلها، ثم ندخلَ بعدها يميناً نحو حي الكبّاس، الذي أذكرُ أنني كنتُ أمرُّ به في بعض الأحيان عند ذهابي وعودتي من مدينة جرمانا القريبة مع بعض الأصدقاء أو الأقرباء، وهنا بدأت الحكاية، عندما دخلنا أحد «أسواق الحرامية» في دمشق.

مئات الأبواب الخشبية، أكوام من الثياب، أوعية مطبخ، سيراميك، وعشرات الأغراض الأخرى الموضوعة على بسطات منتشرة على طول الطريق يميناً ويساراً. لم يُتَح لي الوقت لتأملِ المشهد، إذ سرعان ما وصلتُ وجهتي في حي الدويلعة وترجلتُ من السيارة، لكنني قررت العودة بعد أيام لأعرف أكثر عن هذا السوق، الذي سمعتُ أن مختلف مفروشات ومقتنيات المناطق التي «يحررها» الجيش السوري من «الإرهابيين» تباع فيه بأرخص الأسعار، الأمر الذي وجدته مضحكاً ومحزناً في آن معاً؛ محزنةٌ رؤية ممتلكات آلاف العائلات الفارة من جحيم الحرب مسروقةً ومعروضةً على قارعة الطريق للبيع، ومضحكةٌ الصراحة والعلنية واللامبالاة التي تُعرض وتُباع بها تلك الأغراض.

يقع السوق المذكور، الذي يطلق عليه اسم «سوق الحرامية» أو «سوق الجمعة» على أوتوستراد المتحلق الجنوبي بعد الجسر المعروف بجسر الكبّاس، ويمتد من مفرق عين ترما حتى دوار الكبّاس، وهو لا يختلف كثيراً عن سوق الحرامية الذي اشتُهِرَ في شارع الثورة وسط دمشق. يعود تاريخ سوق الكبّاس إلى سنوات خلت، حيث اعتاد بائعو المفروشات القديمة والخرداوات والملابس المستعملة التي يطلق عليها اسم «بالة» التجمّع بشكل عشوائي وعرض بضائعهم إلى جانب أصحاب بسطات يبيعون أغراضاً قديمة ومستخدمة، واعتاد الناس بدورهم تسوق البضائع الرخيصة والمستعملة كل يوم جمعة من هناك. أما سوق شارع الثورة، الذي يمتد من جسر الثورة حتى سوق الهال القديم، فتباع فيه أغراض مستعملة تتنوع بين الأدوات الكهربائية والهواتف المحمولة والأثاث والملابس، وقد تأسس السوق منذ أكثر من عشرين سنة، إذ يروي سكان المدينة بأنه بدأ كنقطة تجمّع لبعض اللصوص والنشالين بهدف تبادل مسروقاتهم، وتحوّلَ مع الأيام إلى سوق كبير منظم يعمل فيه عشرات الباعة ويرتاده المئات يومياً.

يصعب التأكد من مصدر البضائع التي تباع في أسواق الحرامية، فهناك من يقول إنها مسروقة، وآخرون يؤكدون أن أصحابها غير الراغبين بها يبيعونها لهؤلاء التجار بأرخص الأثمان. كما لا يمكن التأكد من أصل تسمية هذه الأسواق، ففي حين يرجّح البعض أنها ناتجة عن مصدر ما يُباع فيها، يقول آخرون بأن بيع تلك البضائع بأسعار غالية نسبياً رغم شرائها بأثمان بخسة، دفعت مرتادي الأسواق لوصف الباعة بـ «الحرامية». ولا يمكن الجزم بأن البضائع التي تباع فيها مسروقة ومعروضة بشكل علني ودون رقيب، لكنها مستعملة على أي حال.

ولهذه الأسواق قوانينها الخاصة التي لا تشبه بقية أسواق المدينة، فما يباع فيها لا يُرد ولا يُبدل، وهو ما يسمى «بيع على البحر»، كما أنها تتبع قانون «بورصة سوق الحرامية»، حيث يتفق الباعة على سعر محدد لكل قطعة، وخاصة الهواتف المحمولة، يُمنع تجاوزه ضمنياً، ويمكن لمن يخالف هذه البورصة أن يتعرض لمضايقات تصل حد دفع غرامات للبائعين الآخرين.

ازدهرت حركة البيع في أسواق الحرامية خلال الأعوام السابقة للثورة السورية، فيما يمكن النظر إليه على أنه مؤشر لتدهور الوضع الاقتصادي لآلاف العائلات التي تقطن دمشق والعشوائيات المحيطة بها. خلال العامين 2009 و2010، تنوعت البضائع التي تباع في سوق الكبّاس وازداد عددها، لتشمل الخضراوات والفواكه من النوعية السيئة، الطيور والحيوانات التي يمكن أن تكون ضائعة أو مسروقة، وصولاً إلى بعض ما يمكن الحصول عليه من حاويات قمامة الأحياء الراقية. واتسع السوق ليمتد فوق الطريق المخصص لمرور السيارات، ويتسبب بازدحام طالما اشتكى منه المارة وسكان المناطق المجاورة، التي تشمل أحياء الدويلعة وكشكول ومدينة جرمانا بشكل رئيسي. وتتحدث مواقع سورية رسمية عن مخطط كان من المزمع تنفيذه قبيل انطلاق الثورة السورية لإزالة سوق الحرامية، الأمر الذي أثار استهجان آلاف العائلات التي يُعدُّ العمل في السوق مصدر رزقها الوحيد، أو مصدر حصولها على بضائع رخيصة.

بعد اندلاع الثورة في سوريا، ومع احتدام المعارك في محيط دمشق الشرقي وفي المناطق القريبة من سوق الكبّاس مثل عين ترما وجوبر، تصدّرَ اسم سوق الحرامية بعض نشرات الأخبار خلال العامين 2012 و2013 عند العثور على جثث مجهولة الهوية فيه، أو عند حرق بسطاته وبضائعه على أيدي مجهولين، وذلك نتيجة قربه من مناطق الاشتباكات والمعارك خاصة في بلدة عين ترما. كما تحولت أحياء الكبّاس وكشكول والدخانية المجاورة إلى مسارح لمعارك عنيفة عند تقدم مقاتلي المعارضة المتواجدين شرق العاصمة إلى تلك المناطق أواخر العام 2014، ثم تراجعهم بعد أيام. لم يعد أحد يتحدث عن مخطط إزالة السوق، واستمرَّ العمل فيه رغم خطورة موقعه، لكن مع مصادر جديدة للبضائع، وهي العمليات التي تعرف بالتعفيش.

بدأ مصطلح التعفيش بالانتشار في دمشق مع خروج بعض المناطق عن سيطرة النظام السوري لصالح المعارضة المسلحة، واحتدام المعارك بين الطرفين ليستعيد النظام السيطرة وزمام الأمور، ويدخل مقاتلوه إلى الأحياء «المحررة» لنهب كافة محتوياتها: أجهزة كهربائية كالغسالات والبرادات والتفلزيونات والحواسب، مفروشات، أدوات مطبخ، سيراميك، كتب، مستلزمات صغيرة كالبراغي والمسامير وحتى العلب الفارغة على اختلاف أنواعها. ويتغير المصطلح بحسب المنطقة، فهناك من يسمي هذه العملية «التعفيش» وهي مشتقة من الكلمة العامية «عفش» وتعني مفروشات، وآخرون يطلقون عليها «تعشيب»، وهي مرادفة لكلمة «تشويل» المستخدمة في الشمال السوري. وغالباً ما تعتبر عملية التعفيش جزءً من أحقية الطرف المنتصر في الحصول على غنائم حربٍ خاضها واضعاً روحه على كفه في سبيل الانتصار، فهي حقٌ وليست اعتداءً على حقوق أطراف أخرى.

بالنسبة لأصحاب تلك المقتنيات، كثيراً ما سمعنا عن عثورهم على مفروشاتهم وأغراضهم في سوق الحرامية. منهم من يشتريها من جديد، ومنهم من يقرر تركها. أما مشترو تلك الأغراض فتختلف ردود أفعالهم. البعض يشتريها على مضض لكنه يقبل بها باعتبارها أقل سعراً من بضائع الأسواق الأخرى، وآخرون لا يرون مشكلة في شراء أغراض مسروقة، ما داموا يدفعون ثمنها من مالهم الحلال، وما دام غيرهم سيشتريها بكل الأحوال.

جانب من سواق الحرامية في الكبّاس في أطراف دمشق
جانب من سواق الحرامية في الكبّاس في أطراف دمشق

مع معرفتي بكل ذلك، ويقيني أن مقتنيات أهالي أحياء شرق دمشق، القابون وتشرين وحرستا الغربية، تباع الآن في سوق الحرامية بعد دخول قوات النظام السوري لتلك المناطق منذ حوالي شهر وخلوها شبه التام من سكانها، وهو ما وثّقه ناشطون من خلال صور ومقاطع فيديو بينت عمليات السرقة وترحيل الممتلكات، توجهتُ للسوق بحجة البحث عن باب خشبي، بعد التأكد من مقاسات أبواب منزلي، كي أبدو منطقية أثناء تجوالي هناك.

أمضيتُ الطريق وأنا أحاول صياغة الأسئلة التي سأوجهها لأصحاب البسطات، في محاولة لمعرفة مصدر تلك البضائع. إن سألتهم: «من وين هاد الباب؟»، سيبدو سؤالي مباشراً ولا بدَّ أن يثير الشك. سأسألهم إذن: «شغل وين هاد الباب؟»، فإن انزعجوا من سؤالي يمكنني شرحه على أنني أتساءل عن مصدر الخشب، هل هو وطني أم أجنبي؟

أصلُ وأترجّلُ من سيارة الأجرة لأبدأ تجوالي في السوق، وأصواتُ القصف والاشتباكات في وادي عين ترما وحي جوبر الملاصقين تُسمَعُ بكل وضوح مع استمرار العملية العسكرية فيهما منذ أكثر من أسبوعين، وتجعلُ الازدحام أقل من العادة. أكوامٌ من مقتنيات متنوعة تُعرَض بأكبر قدر ممكن من الترتيب على جوانب طريقين واسعين متوازيين، وأمامها أو بجانبها يجلس باعة يرتدي معظمهم الزي العسكري دون أن يكونوا بالضرورة مقاتلين أو متطوعين في قوات النظام، إذ أن الزي العسكري، وخاصة البنطال، بات منتشراً ويمكن شراؤه من العديد من محال الملابس كآخر صيحات الموضة. لا يهتم الباعة بالمناداة على معروضاتهم، ويستلقي بعضهم على فرشات قذرة مثقوبة أو قطع قماشية أو بلاستيكية، وآثار الحرّ والضجر بادية على وجوههم، لكنهم يتلقفون أي زبون يقترب باهتمام، ويحفظون أسعار ومواصفات بضائعهم عن ظهر قلب.

يستقبلني أحد الباعة حيث يقف ويقترب ليسألني عما أبحث، فأصف له شكل ومقاسات الباب الخشبي الذي أريده. «طلبك عندي أختي»، ويسير أمامي في طريق يحفظه جيداً ليصل إلى زاوية اصطفت فيها عشرات الأبواب الخشبية تحت غطاء قماشي رُسِمَ عليه شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ويخرج «المازورة» ويبدأ بقياس كل منها بحثاً عما أطلبه.

أستجمع قواي وأسأله: «شغل وين هاد معلم؟ وأديش سعرو؟». «شغل القابون»، كان جوابه الصريح والمباشر مفاجئاً إلى درجة الذهول بالنسبة لي. يكمل: «سعرو 10 آلاف ليرة. العساكر بيبيعونا ياه بـ 7 أو 8 آلاف ليرة، وأنا ما فيي بيعو بأقل من هيك». أحاولُ التفوه بأي حجج تُظهر عدم اقتناعي وإعجابي بالباب الممتلئ غباراً، وأكملُ سيري نحو البسطة التالية. أغراض مطبخ مستخدمة وغير منظفة، حتى أن آثار الاستعمال لا تزال بادية عليها. طنجرة بخمسمئة ليرة. إبريق خزفي بمئتي ليرة. «بس وين الغطا؟»، أسألُ العسكري. «إي مو مشكلة أختي، خديه بلا غطا، استعمليه مزهرية». أُفكر: «ماذا لو اشتريت الإبريق كنوع من الذكرى؟»، وأتذكر أحد الأصدقاء وقد عُرِضَ عليه شراء معدات كاملة لمحل بيع دجاج مشوي بسعر زهيد لا يتجاوز 600 دولار أمريكي: «المعدات من حي القابون، أعتقدُ بأنني لو وافقتُ على الشراء ووضعتُ هذه المعدات في محلي لاحترق بي على الفور. لا يمكننا ألا نفكر بوجود عقاب إلهي». عند البسطة التالية يجلس ثلاثة رجال يدخنون «الأرجيلة»، وقد لوّحت الشمس وجوههم، ويبيعون أدوات خردة وأجهزة حاسب قديمة ومعدات صناعية لا أعرف ماهيتها. «هل تشترون أجهزة قديمة؟»، أبادرُ بالسؤال. «حسب أديش قديمة. إذا كتير قديمة ما ألها سوق أختي»، يجيبني أحدهم دون اهتمام.

يحاول باعة آخرون جذبي، أكرر كذبة بحثي عن الباب الخشبي. يؤكد لي أحدهم وجود بضاعة نخب أول وثاني وثالث، لكن عليَّ العودة مساء لرؤية البضاعة الجيدة حين يحضر صاحبها. لا أشعرُ بالرغبة في متابعة الحديث، أو معرفة مصدر تلك الأبواب أو الأدوات الكهربائية أو أدوات المطبخ التي تستلقي بحزنٍ على قطع قماشية قذرة تحت أشعة الشمس الحارقة.

حدثتني إحدى الصديقات عن عمليات التعفيش المريعة التي حدثت في حي القابون على مدار الأسابيع الفائتة، إذ كانت شاهدةً من منزلها القريب على خروج عشرات الشاحنات المحملة بمحتويات لا تعدّ ولا تحصى. «إنها أكبر عملية تعفيش منذ سنوات»، تقول. أهزُّ رأسي وأفكر في قرارة نفسي بأنني لا أعلم إن كانت فعلاً الأكبر، ولست متأكدةً أي الأمرين أسوأ، التعفيش كفعل، أم اعتيادنا نحن سكان المدينة على هذا الفعل الذي يحدث على بعد مئات الأمتار ليس إلا.

أخرجُ من السوق بعد أن وعدت ثلاثةً من الباعة بأن أعود في اليوم التالي لأشتري الباب الخشبي، وعلى مدخل السوق من الجهة الثانية أرى حاجزين للنظام يفتشان السيارات والباصات بلا مبالاة، وبعدهما تنتشر على مدّ النظر كتل اسمنتية قبيحة هي عبارة عن مئات البيوت العشوائية في واحدة من أكثر مناطق دمشق فقراً وبؤساً.

بعد أيام من زيارتي لسوق الكبّاس، قرأتُ خبراً يتحدث عن إحراقه بالكامل، وإزالة كافة البسطات منه. البعض تحدّثَ عن خلافات على تقاسم الأرباح والزبائن بين أصحاب البسطات، أو بينهم وبين الحواجز القريبة والميليشيات المنتشرة في المنطقة، أو عن مشاكل بسبب إغلاق الطرق نتيجة الكميات الكبيرة من البضائع المعروضة، وآخرون أكدوا بأن السوق لم يُحرَق وإنما انتقل إلى منطقة كشكول المجاورة، ولم تُحرَق سوى مخلفات البسطات وما تركه الباعة وراءهم، وتحدَّثَت روايات أخرى عن مصادرة محافظة دمشق كميات كبيرة من البضائع التي لم ينجُ منها سوى القليل.

عدتُ لزيارة المكان في اليوم التالي، لأعثرَ على بعض أكوام النفايات والأغراض المحروقة، وأجدَ الشارع خالياً تماماً من الباعة. توجهتُ للحاجز المجاور وسألت العسكري: «أين ذهب سوق الأغراض المستعملة؟»، فأجابني بابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه الصفراء: «قصدك سوق التعفيش؟ تأخرتي كتير. السوق شالوه. على كل جربي شوفي بالحارات بكشكول»، مشيراً بيده إلى المنطقة المقابلة. قطعت الطريق وتوجهت إلى كشكول، وهي منطقة شعبية ذات تركيبة سكانية مختلطة بين سوريين وفلسطينيين وعراقيين، وسألتُ العساكر الواقفين في بداية الشارع عن سوق الأغراض المستعملة. «تالت شارع على اليسار». تابعتُ السير ووصلتُ إلى حارات ضيقة تتوزع على أطرافها بعض المفروشات والأغراض. لا زبائن بعد، والباعة منشغلون بترتيب بسطاتهم. لا أحد يتحدث عن حرق السوق، الكل مجمعٌ على رواية «نقل السوق. هكذا أفضل». لم أجد الباعة الذين وعدتهم بالقدوم لشراء الباب الخشبي، لعلّهم انتقلوا إلى مكان آخر، أو فقدوا بضائعهم وعليهم انتظار عملية التعفيش التالية كي يتمكنوا من العودة للعمل.