ولدتُ وسطَ أسرة عريقة محلياً، لكنها من الفرع «رقيق الحال» بالنسبة إلى باقي فروع العائلة، بين أب وأم ليس بينهما أي وئام أو تفاهم أو حب، ومع ذلك أنجبا سبعة من الأولاد والبنات. أبٌ نَكِد، مُحبَط ليس لديه أي طموح تستدعيه تربية سبعة من الأطفال. موظفٌ بسيط بمرتب ضئيل يتلاشى قبل انقضاء أسبوع من الشهر. في مثل هذه الأجواء، التفكيرُ في الكتب والقراءة ترفٌ يتعادل مع مرتبة الكفر، والقراءة مضيعةٌ للوقت وكسلٌ غير مقبول. ولا أحد منها يهتم ولو قليلاً بالقراءة. ولكن كيف العمل عندما يظهر وسط أفرادها ابن لا صِلة له بالواقع، وحياته أحلام ورؤى عجائبية لا تُشبِعُها إلا القراءة والرحيل إلى أجواء تبعده عن الواقع الذي لا يرى فيه، هو الحسّاس بدرجة مَرَضيّة، إلا الرعب والحرمان والحزن.
كانت الكتب بالنسبة إليّ مهرباً وجنّةً مُحرّمةً لا يمكن مقاومة إغرائها. الحكاية والخيال الجامح هما مصدر الحياة الوحيد بالنسبة إليّ، بما أن كل شيء مُحرَّم على أرض الواقع. أحببتُ القراءة حتى قبل أنْ أتعلّمها، وتتبّعت الأحرف حتى قبل أنْ أفكّ طلسمها. أحرف اللغة الأجنبية كانت أعمدة وأقواساً ورموزاً سحرية أُطلقُ العنان لمخيلتي كي تحيك حولها قصصاً وأجواء وأراضٍ بعيدة، نائية.
بعد أنْ تعلّمتُ القراءة كان انجذابي إلى الكتب الأجنبية أقوى، لأنها كانت تضم بالنسبة إليّ الخيال الأرحب، والتنوُّع الأوسع. قرأتُ الدون الهادئ وأنا في الخامسة عشرة، والمولان الكبير وأنا في السابعة عشرة، والأخوة كارامازوف وأنا في العشرين. في ذلك الوقت كنتُ أعتقد أنَّ كل الكتب الأجنبية مترجمة إلى اللغة العربية، وسرعان ما اكتشفت سذاجة هذا الاعتقاد.
بعد تعلّم اللغة بدأتُ أكتشف حقائق صادمة. كنتُ أقرأ كتاباً مترجماً فأجد أسلوبه صعباً ومبهماً وبعيداً عن السلاسة، وأتساءل تُرى هل الكتاب الأصلي صعبٌ هكذا أم أنَّ هناك شيئاً ضاع في الترجمة – وفي الجامعة اكتشفت السبب اليقيني: السرّ كله يكمن في الترجمة، ففي حين أنَّ همنغواي كان في أسلوبه رقراقاً، وممتعاً، وسلساً، لم تكن ترجمته إلى العربية ترقى أبداً إلى أسلوبه وضاع أفضل ما فيه.
من هنا بدأت التفكير في محاولة المساهمة في وضع الأمور في نِصابها، وإعادة الاعتبار إلى الترجمة وإلى اللغة العربية وسلاستها. إذ ينبغي ألا تقلّ الترجمة العربية في مستواها عن النص الأصلي، وعلى المترجم أنْ يضع نُصب عينيه طوال الوقت المُحافظة على ذلك المستوى قدر استطاعته.
محاولاتي الأولى كانت مترددة وغير واثقة ومتمهلة. كنتُ أختبرُ ثقتي في نفسي وصبري ومقدرتي على تحمل الصعاب والاستمرار. استغرق ذلك مني وقتاً طويلاً، مع المحاولة. وعند نقطة ما كان لا بدَّ لي أنْ أقرر إنْ كنتُ سأواصلُ المشوار أم ألتفتُ إلى مجال آخر. كان القرار صعباً، ولكن ما سهّل الأمر عليّ أنني قررتُ أنْ أكون صادقاً مع نفسي رغم كل شيء.
لا شك في أنَّ انتقاء الترجمة لتكون مصدراً لكسب الرزق شيءٌ جنوني، فالجميع يعلمون أنَّ هذا العمل الراقي لا يدر ربحاً يُذكَر، وأنَّ اختياره ليكون عملاً دائماً هو عملية فدائية، ولا يمكن أنْ يسير فيه إلا أصحاب المبادئ والرسائل الأدبية وبمبادرة شخصية جداً.
أفضّل كثيراً أنْ أنتقي الكتب التي أترجمها، لأكون على اطلاع كاف على أدب الكاتب وأسلوبه، لأستطيع أنْ أنقله بأمانة أشد. والترجمة عموماً، كما أراها، ليست سهلة على الإطلاق، كما يظن كثيرٌ ممّن يترجمون. الأمر أكثر من نقل كلمات وجُمَل. إذا لم يتفاعل المترجم مع الكاتب وأحاسيسه وأفكاره، فإنَّ النقص سوف يبدو جلياً في الترجمة؛ الترجمة هي إعادة معايشة الكتاب، انفعالاته، منعطفات مساره، تناغُم الانتقال بين الفقرات والجمل، والتعاطف مع روحه. إنها مسؤولية ليس من السهل قبول شروط تحمّلها.
مع كل كتاب جديد أبدأ بترجمته، أشعرُ كأنني أترجم للمرة الأولى، فكل كتاب مغامرةٌ جديدة، خاصةً عندما يختلف في أسلوبه عن سابقه، ولكل كتاب مفرداته، وكذلك كل كاتب.
بدأتُ بترجمة ميللر لأنَّ أسلوبه ومدخله إلى مواضيعه حفّزتني على ذلك؛ فقد وجدته جريئاً، غير تقليديّ، ويقول ما يريد قوله دون مواربة أو مقدمات طويلة، على الرغم من أنه أحياناً لا يعرف بالضبط ماذا يريد أنْ يقول. وليس لأنه كاتب أدب مكشوف، كما اعتقدَ البعض. ما حثّني كان نبضه السريع والواضح، وآراؤه غير التقليدية والمتحررة من الأوهام.
الترجمة هي دائماً نافذة نحو المعرفة، وكل كتاب نترجمه يُدخِلنا إلى عالم جديد، وأفكار جديدة، ومشاعر جديدة وردود أفعال جديدة. وكل كاتب ننقل أدبه إنما ننقل عالماً كاملاً خاصاً به. ليس هناك من كتاب لا يصلح للترجمة، لأنَّ كل كتاب هو كتلة من التجارب لشخصياته، وتجاربُ الآخرين دائماً مفيدة ومُغنية لتجاربنا الخاصة، بل وتوفر علينا أنْ نجتاز تك التجارب مرة أخرى. إنَّ المرء لن يعيش إلا مرة واحدة بزمن يسيرُ في اتجاه واحد، لا يتمهّل ولا يتكرر، في حين أنَّ أي رواية هي مجموعة من التجارب لشخصياتها، وكل منها يُغني حياتنا الواحدة الضيقة. ما أضيق العيش من دون تجارب الآخرين!
لماذا اخترتُ الترجمة مهنة لي؟ لأنني أحبّ أنْ أتحكم في عملي من ألفه إلى يائه؛ لا أستطيعُ أنْ أعمل تحت إمرة أحد، أو أنْ أتعاون مع أحد، بغض النظر عن فائدة ذلك التعاون؛ لا أضع ثقتي إلا في العمل الذي خرج من تحت يدي، وتشكّلَ من عملي الحر. الترجمة توفر هذه العناصر؛ هي عملك وحدك ويعكس موهبتك، وأحياناً قد يعكس جزءً من شخصيتك، وكذلك الأمر مع المواضيع التي أنتقيها قدر الإمكان، وحسب توفر الكتب.
إنَّ نقل الكتب من لغة إلى لغة عمل راقٍ ونبيل وسام، لأنه تطوير للغة نفسها وللمفاهيم ولوجهات النظر، وفي الوقت نفسه هو دراسةٌ للغة الأخرى ومعرفةٌ لسراديبها وإضاءةٌ للّغة المنقولِ إليها النص.
إنَّ انتقاء الكتب لترجمتها أمر ليس بالسهل، إذ ينبغي أنْ يعي المترجم _ والناشر أيضاً– ما هي التيارات الفكرية والأدبية التي يحتاجها القارئ للّغة المنقول إليها الكتاب، وإنْ كانت ترجمة أي كتاب هي إضافة وإغناء للفكر وللذائقة الأدبية. عند نقطة معيّنة من مسيرتي المهنية، كنتُ أنتقي ما أعتبره لازماً للقارئ العربي، ولكن بعد ذلك وجدتُ هذا أمراً غير معقول، لأنَّ كل كتاب يُضاف إلى المكتبة عبر الترجمة هو ربح ومكسب للغة، ولذلك فإنَّ حركة الترجمة بحد ذاتها هي التي يجب المُحافظة عليها قبل كل شيء.
يبدو أنَّ إشكالية الصِلة بين المترجم والناشر سوف تبقى إلى الأبد؛ فالناشر دائماً ينظر إلى الأمر من وجهة نظر تجارية في المقام الأول، إذ أنَّ الكتاب في النهاية هو سلعة مادية كغيرها من السلع، من حيث أنها تتألف من مواد كالورق والحبر والآلات والعمال، وهذا أمر يجب حسابه بدقّة لمعرفة ميزان الربح والخسارة. في حين أنَّ المترجم ينظر إلى الأمر في المقام الأول نظرة مثالية غير مادية، بوصفه صاحب رسالة تنوير. ولكن نعود فنقول إنه سوف يتلقّى أجراً عن عمله لكي يعيش، وبالتالي فإنَّ الناحية المادية لا يمكن حذفها حتماً.
لا يشفع للمترجم أنه مُجيدٌ في عمله، ومهما بلغت براعته في الترجمة، فإنَّ ذلك لن ينعكس -غالباً – على مردوده المادي، لأنَّ دور النشر تتفق فيما بينها على أنْ تستغله أفضل استغلال لصالحها، دون أنْ تتكلّف إلا بدفع أقل مبلغ ممكن للمترجم. وهكذا مهما ربحت الدار من عمل المترجم فإنه لن يستفيد من ذلك، ويبقى يتلقى الأجر المُتفق عليه أصلاً.
لهذا السبب يبقى عمل الترجمة أشبه بالعملية الفدائية، التي يُضحي فيها المترجم الذي كرّس نفسه لعمله بحياته، دون مقابل حقيقي يُعادل جهده المبذول وإبداعه غير المُعترَف به غالباً.
أنا أحب الكتب وأؤمن بأنها مصدر الثقافة والتنوير الأول، مهما تعددت الوسائل الإلكترونية الحديثة، وسوف تبقى كذلك. لقد تعلمنا عبر العصور ومنذ اكتشاف الأبجدية الأولى أنَّ الكلمة المكتوبة هي التي لها البقاء. الكلمة المكتوبة يمكن انتقالها ونسخها والاحتفاظ بها مادياً مدة طويلة، ثم إعادة نسخها بأشكال متعددة وبأحرف مختلفة، ويمكن حملها باليد وبالجيب. وتكلفتها هي الأرخص والأكثر حميمية من الوسائل الأخرى.
لقد بدأتُ رحلتي مع الترجمة كمهنة قبلتها لنفسي رغم صعوباتها ومجازفاتها كلها قبل أربعين عاماً ونيف، وكنتُ دائماً جاداً في مسعاي ولم أتهاون قدر استطاعتي في تنكب هذه المسؤولية. لعلي لم أكن دائماً على مستواها المطلوب، لكنني لم أتنازل بالقدر الذي أخجلُ منه، وأتمنى من الله تعالى أنْ يمدّني بالقوة للاستمرار حتى آخر رمق في صدري.