لم أصدق أن الانتخابات في سقبا ستكون عامة لكل السكان، وبالشكل الذي جرت عليه، إلا حين شَهدتُها. لا تشكيكاً بقدرة مجتمعنا على السير في طريق الديموقراطية، ولا إقراراً بسيطرة البنى قبل المواطنية على أي نتائج ستصدر عن مثل هكذا خطوة، ولا حتى تعبيراً عن كمالها، ولكن لأن ظروف الحرب والقصف والحصار، والانكشاف والتخلي التام، جعلتها تبدو خطوةً كبيرةً إلى الأمام.

ستتناول المقالة الآليات والتنظيمات التحضيرية والتنفيذية لهذه الانتخابات، وستنتقل بعدها لتحليل بعض المؤثرات والتجاذبات السياسية والاجتماعية.

***

مع انتهاء مدة ولاية المجلس المحلي في نيسان الماضي، المحددة بعام واحد، بدأت اجتماعات ناشطي المدينة للبحث في كيفية تشكيل مجلس جديد. وفي السابق كان الوجهاء والناشطون والمشايخ وأصحاب الكفاءات الجامعية، يقومون بجمع بضع مئات في صالة ليقوموا بالاختيار بين المرشحين. ونادراً ما كان المدعوون يعلمون من هم المرشحون قبل أن يحضروا إلى الاجتماع، ولم يكن كل الراغبين في الترشح يعلمون كيف يمكنهم ذلك، وكثيرون منهم لا يجرؤون على خوض عملية لا يعرفون توازناتها أو ترتيباتها.

في العام الماضي دُعِيَ 700 شخص لانتخاب المجلس، لم يحضر منهم إلا 350 تقريباً. وفي العام الذي سبقه تمت دعوة 300 شخص، وحضر 200 فقط. كان التبليغ عن الاجتماع يتم قبل يوم أو في اليوم نفسه، وهو ما يجعل غالبية العازمين على الحضور ممن لديهم تحضيرات مسبقة.

في هذا العام تقرَّرَ إنشاء أمانة عامة للمدينة، تم تشكيلها من 60 شخصاً عبر توافق الناشطين، واختارت الأمانة لجنة انتخابية من 5 أشخاص، تركت لهم تقديم تصور عن كيفية إجراء انتخابات المجلس المحلي ليتم التصويت عليها ضمن الأمانة. طرحت اللجنة فكرة الانتخابات العامة وتصوراً مختصراً عن كيفية تنفيذها، وذلك بعد نقاش لأسابيع بين أعضائها. ولعل الاسم الأبرز الذي دفع باتجاه تجاوز التقليد القديم لاختيار المجلس هو فادي هارون، المحامي والعسكري المنشق، وشقيق شادي وهادي، اللذين اعتُقِلَا أثناء التظاهرات السلمية وحُكِم عليهما مؤخراً بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً. الإخوة مثقفون ولديهم مكتبة يندر وجودها في بيت في سقبا، ووالدتهم، المربية وصال الطويل، تحمل عدة شهادات جامعية وعلماً قد لا تحمله امرأة غيرها في المدينة.

احتاج إقرار الانتخابات العامة عدة اجتماعات للأمانة العامة، انتهت بالتصويت لصالحها. لكن كوادر المكاتب التعليمي والطبي والشرعي اختاروا أن يكون انتخابهم ضمن الاختصاصات لكل مكتب، أي للمدرسين والأطباء والمشايخ، وهو ما تم تمريره لهم، مع العلم أن المكتب الشرعي يعد وجاهياً أكثر من كونه صاحب سلطة فعلية. وهكذا أصبح المطروح للانتخابات العامة هو كرسي رئاسة المجلس وإدارة المكاتب الخدمي والإغاثي والزراعي والعلاقات العامة. أما مكتب المرأة فسنتناوله في فقرة تالية.

تم تحديد الناخبين بأن يكونوا من أهالي المدينة أو من القاطنين فيها لمدة تزيد على سبع سنوات، وممن تزيد أعمارهم على 20 عاماً. وحددت شروطاً مقبولة للترشح، بأن يزيد عمر المرشح على 28 عاماً، وأن يكون غير مدان بجرم شائن في القضاء، وأن يكون من المعروفين بانحيازهم للثورة، إضافة إلى تحديد أمر الشهادات المطلوبة لكل موقع.

ووضعت خطة تنفيذية للانتخابات، تضمنت الإعلان عمّا سبق، وإنشاء لجنةٍ للطعون، ونشر إعلانات تحض الناس على المشاركة، وتحديد عدد المراكز وتوزعها، وتجهيز لوائح الشطب في كل مركز، وطريقة تعيين رؤساء المراكز ومعاونيهم والمراقبين فيها، وإنشاء غرفتين سريتين في كل مركز، ووضع عناصر من مخفر المدينة أمام كل مركز، وأن تتركز الحملات الانتخابية على برنامج كل مرشح وسبب أفضليته، دون اتهام المنافسين بالسرقة أو بارتكاب جرم ما. وقد قام بعض المرشحين بنشر دعاياتهم الانتخابية وبرامجهم، ونظموا اجتماعات لعرض خططهم ووعودهم وحشد التأييد، لا تشبه بالطبع تلك التي كان يجري فيها الهتاف لافتداء بشار وأبيه بالدم والروح أكثر من أي كلام مفيد.

كانت الانتخابات حديثَ الشارع، إلى درجة أن تسمع كادحين يعملون من مطلع الفجر حتى آخر الليل لتأمين الطعام اليومي في ظل الغلاء الفاحش جرّاء الحصار المستمر، يتحدثون عن الانتخابات ويمزحون عن خسارة المجلس لأحدهم لأنه رفض الترشح، مروراً بجميع ناشطي المدينة الذين شغلتهم الانتخابات بأحاديثها لأيام، وصولاً إلى النساء اللاتي قدمن عريضة للأمانة العامة يطالبن فيها بعدم استثنائهن من الانتخاب، وهو ما سنأتي عليه.

قبل يومين من الانتخابات، لم ينم أحد تقريباً من اللجنة الانتخابية والمكتب الإداري للأمانة العامة، الذي عاون اللجنة في الحمل الكبير الذي يقع على عاتقها لضبط عملية الانتخاب وضمان تنظيمها كما هو مخطط. ويستحق أنس الكرش، المحامي والقاضي السابق وعضو المكتب الإداري، أن يتم ذكرُ ما قدمه من خبرته وسلامة تفكيره حول كيفية تنظيم الإجراءات وضبطها، وإبداع الحلول للمعوقات التي واجهت العملية الانتخابية.

بدأ الانتخاب في الساعة التاسعة صباحاً من يوم 25 تموز 2017، ويومها نزلتُ إلى الشوارع ظهراً لأرصدَ ردَّ فعل الناس. وقفتُ مع بائع بنزين أحادثه بعد أن عرفتُ أنه انتخب، ودمعت عيناه وهو يحدثني عن روعة ما شاهد من احترام وتنظيم. شاهدتُ شباباً يَبدون أنهم عمّالٌ بطرف المدينة، فصعدوا معي في السيارة لأوصلهم، وقالوا لي كلاماً لم أكن أتوقع سماعه، أخبروني أنهم انتخبوا وأنهم عرفوا أخيراً لماذا قامت الثورة، فالثورة من أجل الناس ومشاركتهم واحترامهم، ودون رأي الناس ومشاركتهم لا توجد ثورة. ذُهلت، وبقيت صامتاً أسمعهم.

في المراكز كان هناك من يرصد رأي الناخبين. مسنٌّ قال إنه لم ينتخب منذ أيام شكري القوتلي، وآخر سُئِلَ عن شعوره فقال: أشعرُ الآن أني مواطن. ووردت كلمة الديموقراطية على لسان كثيرين ممن لم يكونوا يجرؤون على قولها أيام حكم الأسد أو أثناء صعود داعش أو النصرة في الغوطة الشرقية، وأيام كان جيش الإسلام وقادته يضعون الديموقراطية تحت أقدامهم، ويكفّر شرعيوه القائلين بها.

انتهى الانتخاب في الثالثة عصراً، ونُقِلَت الصناديق إلى مركز فرز الأصوات الذي بدأ عمله في الساعة الرابعة وانتهى في الحادية عشر ليلاً، واختتم بقراءة بيانٍ بنتائج الانتخابات التي فاز فيها المهندس ياسر عبيد برئاسة المجلس، ومساعد المهندس منصور عبيد في المكتب الخدمي، والشاب علاء السن في المكتب الإغاثي، وخريج الاقتصاد محمد البشاش في مكتب العلاقات العامة، فيما نجح الطبيب البيطري عبد الإله شاغوري في المكتب الزراعي بعد انسحاب منافسه الوحيد. بلغت نسبة المشاركة ربع الذين يحق لهم التصويت، وهي نسبة لم تكن متوقعة، فمن أصل 6000 شخص يحق لهم الانتخاب حضر ما يقارب 1500 شخص، مقابل حوالي 5% من الناخبين وقت دعوتهم إلى اجتماعات اختيار المجلس في الأعوام الماضية. أما الانتخابات الاختصاصية للمكاتب المذكورة أعلاه فقد جرت قبل الانتخابات العامة، ونتج عنها انتخاب الدكتور سامي الشيخ في المكتب الطبي، والشيخ تيسير السن في المكتب الشرعي، فيما سيعاد انتخاب مدير المكتب التعليمي بعد الطعن بنتائج الانتخابات بسبب استثناء المدرسين الذين يعملون في المدارس التابعة لمنظمات المجتمع المدني من التصويت، واقتصاره على العاملين في المدارس العامة.

بعد تلاوة اللجنة البيان الختامي بدأ الشباب يغنون أغاني الثورة: جنوا جنوا البعثية، حر حر حرية، ويلعن روحك يا حافظ بمختلف ألحانها. لم يشأ أحد العودة إلى البيوت للنوم بعد التعب والمعاناة من حر الصيف في مكان مغلق لا توجد فيه كهرباء لمروحة سبع ساعات، بل خرجوا مجموعات ليكملوا سهراتهم بالفرح، وبنشوة ما تحقق.

***

في تفاصيل الانتخابات أمور يجدر الحديث عنها، وسنحاول باختصار أن نوفي ما يتعلق في هذا المقام حقه من الرصد والتحليل:

العسكر

لم يكن لفيلق الرحمن تدخل في انتخابات سقبا، عكس ما فعل جيش الإسلام في آخر انتخابات في دوما. وقد أعلن الملازم عبد الناصر شمير، قائد الفيلق، في اجتماع مع ناشطين مدنيين مؤخراً، أنه مع الديموقراطية والمساواة بين المواطنين، وأن الفيلق لا يتدخل في المؤسسات المدنية وشؤونها. وبعيداً عن تجاوزات نقضت هذا القول الأخير في مواضع ليس هنا محل ذكرها، وخصوصاً أثناء الاقتتال الأخير، إلا أن الفيلق لم يتدخل بالفعل في انتخابات المجلس المحلي في سقبا، لا من قريب ولا من بعيد.

العائلية

بين أهالي سقبا يكثر كلام غير فاعل عن عائلات المدينة، أي أنه يبقى ضمن الأحاديث التي لا تخلو من نفور تجاه بعض العائلات، لكنه لا ينتقل إلى مجال التأثير العام.

أكبر عائلة في المدينة هي عائلة عبيد، وككل عائلة كبيرة في مجتمع أهلي، تكثر نقمة العائلات الصغيرة عليها بسبب وجودها في كل مكان، وارتفاع فرصها بسبب كثرة الكفاءات في شتى المجالات نتيجة عددها الكبير. لكن ذلك لم يمنع كثيرين من خارج هذه العائلة من التصويت للمهندس ياسر عبيد مقابل منافسه الأستاذ الشيخ علاء خميس، حامل الماجستير في الاقتصاد، وإمام مسجد ومدير مؤسسة تعليمية. حصد المهندس ضعف أصوات الشيخ، وأزعم أن غالبية أصوات المهندس لم تكن من عائلة عبيد. أحد الذين قابلتهم من العائلات الصغيرة قال: صوتت لأبو علاء عبيد، صحيح هو من بيت عبيد، بس الزلمة محترم ومهندس وهاد مكانه.

ومن جهة أخرى، لم ينجح المحامي فراس عبيد أمام منافسه محمد البشاش خريج الاقتصاد في انتخاب مكتب العلاقات العامة. ومع أن الشابين خلوقان وسيرتهما حسنة وكلاهما من كفاءات المدينة، لكني أنحازُ إلى أن ابن عائلة عبيد الذي لم يفز، كان أجدر من محمد البشاش.

نستطيع القول إن العائلية انحسرت إلى موروث كلامي يضمحل باطراد، وأن نتائج هذه الانتخابات تساعد في تجاوزها أكثر.

المشايخ

للحديث عن علاقة مشايخ مدينة سقبا بالشأن العام شجون طويلة، لكنّ ما يجدر ذكره هنا هو أن نتائج الانتخابات، وما سمعتُه من العشرات المتنوعين في فئاتهم، أكّد أن السكان لا يفضلون اختيارهم. اثنان اعترضا على جعل انتخاب المكتب الشرعي ضمن المشايخ فقط، وقالا إنه يجب أن يكون أيضاً عمومياً لكل المواطنين، وكأنهما يريدان أن يقولا إن السلطة المحددة للمشايخ يجب أن تكون بأيدي الناس، لا متروكة لهم أنفسهم.

ويبدو أن هذا كان عاملاً آخر لرجحان كفة المهندس على الشيخ، رغم أن الشيخ ليس شيخاً فقط، بل يتمتع بمؤهلات تكفي ليكون في موقع رئاسة المجلس.

الطبقية

كان للطبقية تأثيرها غير الحاسم، فرغم أن الأحياء الفقيرة صوتت بأغلبية أكثر من ساحقة لصالح المهندس ياسر عبيد، (تعدّ عائلة خميس أغنى عائلات المدينة)، لكن نسبة التصويت المنخفضة في الأحياء الفقيرة نسبة إلى بقية الأحياء لم تكن كافية لحسم فوز المهندس. ولا يمكن اعتبار هذا العامل شديد التأثير مع وجود عوامل أخرى قد تكون ساهمت أكثر منه في حسم النتيجة.

المرأة

رغم مشاركتها في النهاية، فقد كان هناك تجنٍّ واضح على دور المرأة وحقها في المشاركة. لم تُذكَر المبررات المتطرفة مثل «الحرمانية» أو عدم أهليتها أو أن هذه شؤون الرجال، بل قُدِّمَت حجج الخطر الأمني وعدم وجود قوائم لنساء المدينة وصعوبة تحضيرها. طَرحُ هذه الحجج البديلة إيجابيٌ جزئياً، إذ جرى استبدال موانع لوجستية أو براغماتية بتلك الجذرية، وهو ما يمكن تجاوزه مع الوقت والجهد.

في المجلس المحلي يوجد مكتبٌ للمرأة تم تأسيسه منذ ثلاثة أشهر، ولم يكن المجلس القديم متجاوباً مع المكتب الذي بدا مفروضاً عليه، فطلب من النساء فيه أن يبحثن عن مكان آخر لهنّ خارج بناء المجلس، وهو ما فَعلنَه. ومع إجراء الانتخابات العامة تم استثناؤه منها لأنه لم تمضِ عليه إلا مدة قصيرة، لكنّ نساء المكتب لم يقبلَن بتجاوز المرأة في انتخابات المجلس العامة، فقدّمن عريضة للأمانة العامة تطالب بالسماح لهنَّ بالمشاركة. وبعد أخذ ورد وتمنع وتذرع بالحجج السابق ذكرها، وجهد كبير من مؤيدي مشاركة المرأة ضمن اللجنة الانتخابية والأمانة العامة، تم تأسيس مركز انتخابي نسائي واحد أخيراً، إذ لا يتطلب المركز الواحد وجود لوائح شطب ويمكن الاكتفاء بالهوية. لكن خبر السماح للمرأة بالمشاركة لم ينتشر بين النساء والناخبين، ولذلك لم يتجاوز عدد الناخبات ستين امرأة. فيما شاركت المرأة في انتخابات المكتب التعليمي، الذي تشكل فيه المدرسات ثلاثة أرباع الكادر التدريسي تقريباً.

***

في الختام، يمكن القول إن الانتخابات العامة للمجلس المحلي في مدينة سقبا، كما ذكرت، خطوة كبيرة إلى الأمام، رغم عدم وصولها إلى مستوى الطموح، ورغم ما شابها بخصوص مشاركة المرأة تحديداً. ومن المقدر أن انتخاب المجلس المحلي بهذه الطريقة سينعكس على عمله، بدل اختياره من حلقة ضيقة تجعل احتمالية سلوك المختارين لإدارة المجلس منحىً يبتعد عن الإدارة الرشيدة والحوكمة أكبر، ويتعزز ذلك حين يكون هناك من يجلس في الخلف ليحمي وجودهم. أما مع قرار الناس الحرّ فستكون هناك مسؤولية تجاه هؤلاء الناس، بدل المسؤولية أمام جزء من حلقة ضيقة.

هذه الخطوة ضرورية وغير كافية لوحدها، وما يمكن المساهمة به للتقدم أكثر نحو عودة الفاعلية للمواطنين هو تعميم تجربة سقبا، وقبلها سراقب، على عموم سوريا، لتعود للثورة أهدافها.