عندما بدأت دبابات جيش النظام السوري دخول حماة فجر الحادي والثلاثين من تموز عام 2011، كان واضحاً أن هدفها هو احتلال ساحة الاحتجاج العام الأكبر في تاريخ سوريا. ومنذ ذلك اليوم لم يتمكن أي متظاهرين من الوصول إلى ساحة العاصي، لكن الصور المهيبة للحشود في تلك الساحة طيلة شهرين سبقا ذلك اليوم، ستبقى شاهداً لا سبيل إلى دحضه على أن مصدر «شرعية» نظام الأسد هو الدبابة والقوة العسكرية العارية:

– قبل بداية الثورة السورية في منتصف آذار 2011، كانت حماة حاضرة في كل نقاش حول إمكانية واحتمالات امتداد الثورات العربية إلى سوريا. قال كثيرون إن النظام جاهزٌ لتكرار مذبحة حماة، وقال آخرون إنه لن يستطيع ذلك في زمن سرعة انتقال المعلومات وزمن وسائل التواصل الاجتماعي. قال مترددون إننا لا نريد أن يكون مصيرنا كمصير حماة، وقال متحمسون إن دماء أهل حماة التي نزفت عام 1982 ليست أغلى من دمائنا.

– خلافاً لما توقع كثيرون، فإن الشرارة لم تأتِ من حماة، بل من درعا، لكن حماة التي تريّثَ أبناؤها قليلاً، لم تتأخر كثيراً عن الانضمام إلى المدن والبلدات والقرى المنتفضة. كان أبناؤها يحملون في ذاكرتهم جراحاً أعمق من جراح غيرهم، وذاكرة مليئة بالدم والدماء وأسماء آلاف الضحايا والمغيبين، ولعل هذا قادها إلى مسار مختلفٍ عن المسارات التي سلكتها غيرها من حواضر البلاد الثائرة.

– كانت أولى مظاهرات حماة في الخامس والعشرين من آذار، في جمعة العزة، عندما خرج بضعة عشرات من المتظاهرين من مسجد عمر بن الخطاب في منطقة الحاضر، هاتفين للحرية.

– سار المتظاهرون بضعة مئات من الأمتار خارج المسجد، ثم تفرقوا. كان الخوف القادم من الذاكرة يخيّم على المدينة كلها.

– تتالت المظاهرات الصغيرة والمتفرقة في أيام الجمعة التالية، وخرجت من عدة مساجد في أحياء متعددة من قسمي المدينة التي يخترقها نهر العاصي، من شمال النهر المعروف بـ الحاضر، ومن جنوبه المعروف بـ السوق.

– واجه النظام تلك المظاهرات بمجموعات من عناصر الأمن وحفظ النظام الذين كانوا يفرقون تلك المظاهرات دون استخدام الرصاص الحي، كما واجهها بحملات اعتقالات وترهيب تالية لها.

– في الثاني والعشرين من نيسان، الجمعة العظيمة، تصاعدت المظاهرات في مدينة حماة، وتزايد عدد المتظاهرين حتى بلغ بضعة آلاف، والأرجح أن ذلك اليوم كان هو الذي شهد إطلاق شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» للمرة الأولى في المدينة، وفيه أيضاً أطلق عناصر النظام الرصاص الحي للمرة الأولى مباشرة نحو المتظاهرين، ما أسفر عن جرحى، وشهيد واحد على الأقل.

– تتالت المظاهرات وتصاعدت في المدينة بعدها، وبدأ المتظاهرون يصبحون أكثر تنظيماً، وباتوا يحاولون الوصول بشكل متكرر إلى ساحة العاصي، ويخوضون مواجهات مع عناصر الأمن و«الشبيحة» في محيطها.

– في الثالث من حزيران، جمعة أطفال الحرية، وصلت أعداد المتظاهرين إلى رقم غير مسبوق في حماة، وكادوا ينجحون في كسر الطوق الأمني والوصول إلى ساحة العاصي، فكانت المذبحة التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 73 متظاهراً، ومئات الجرحى.

– في اليوم التالي شيّعَ أبناء حماة شهداءهم في غياب واضح لعناصر الأمن، وتحول التشييع إلى مظاهرات غاضبة جابت أحياء المدينة وشوارعها.

– في العاشر من حزيران، ذكرى موت حافظ الأسد، أزالت أجهزة الأمن تمثاله الضخم الذي كان موجوداً وسط دوار النسر على المدخل الجنوبي للمدينة، وذلك خشية قيام المتظاهرين بتحطيمه على ما يبدو.

– منذ تلك الأيام بدأ المتظاهرون ينفذون اعتصامات ضخمة في ساحة العاصي أسبوعياً، من أبرزها اعتصام يوم جمعة سقوط الشرعية في 24 حزيران 2011، الذي بلغ عدد المتظاهرين فيه نحو 200 ألف متظاهر.

– يُقال إن محافظ حماة، أحمد عبد العزيز، كان قد تعهد للقيادات الأمنية ورأس النظام بضبط الوضع في حماة، من خلال اللقاء بالمتظاهرين وفعاليات المدينة واحتواء الموقف، ودون اللجوء إلى مزيد من العنف. وليس ثمة دليلٌ رسميٌ على صحة هذا القول، لكن الأحداث التالية تثبت أنه صحيح إلى حد بعيد، إذ تمت إقالة أحمد عبد العزيز من منصبه في الثاني من تموز، بعد يوم واحد من أكبر تظاهرة في تاريخ البلاد، عندما احتشد نحو نصف مليون متظاهر من أبناء حماة وريفها في ساحة العاصي، في جمعة إرحل.

– تم تعيين أنس الناعم محافظاً في حماة، وكان أول قرار اتخذه هو العودة إلى القمع الدموي، إذ اقتحم مئاتٌ من عناصر الأمن مدعومين بآليات الجيش المدينة وشوارعها يومي الرابع والخامس من تموز، وخاضوا مواجهات مع المتظاهرين أسفرت عن عشرات الضحايا، ونفذوا حملات اعتقال واسعة، لكنهم لم يتمكنوا من قمع الاحتجاجات، التي تصاعدت وتحولت إلى ما يشبه العصيان المدني الشامل.

– في الخامس من تموز أيضاً، تم العثور على جثة شاب مذبوح في حماة بعد إحدى اقتحامات قوات النظام، وقيل وقتها إنه ابراهيم القاشوش، أحد منشدي المدينة. وكانت أغنيات وهتافات منشدي حماة وهتّافيها قد انتشرت في كل أنحاء سوريا، حتى صارت بإيقاعاتها وكلماتها معلماً أساسياً من معالم ثورة السوريين على نظام الأسد.

– بدا واضحاً أن النظام يستعد لإقحام الجيش على نطاق أوسع في حربه على متظاهري حماة وعموم البلاد، إذ تمركزت الدبابات برفقة مئات العناصر من الجيش والأمن والشبيحة في محيط حماة، وفرضت عليها حصاراً جزئياً.

– تواصلت المظاهرات الضخمة في حماة، وتحولت إلى طقس شبه يومي، شمل المظاهرات والمهرجانات الليلية. كذلك تشكلت لجان للدفاع عن الأحياء في وجه أي اقتحامات جديدة محتملة، وتسلّحَ المحتجون بأسلحة بيضاء وأسلحة خفيفة.

– في الثامن من تموز، زار سفيرا فرنسا والولايات المتحدة حماة لمشاهدة المظاهرات عن قرب واللقاء بالمتظاهرين، وهو ما أثار غضب النظام السوري وأنصاره، وأعطى انطباعاً -تبين خطؤه لاحقاً- بأن ثمة رقابة دولية ستمنع النظام السوري من تكرار المذابح.

– لعل أضخم المظاهرات التي ستبقى حية في ذاكرة السوريين، هي مظاهرة جمعة أحفاد خالد بن الوليد يوم 22 تموز، ثم مظاهرات جمعة صمتكم يقتلنا يوم 29 تموز، وهي آخر المظاهرات الكبرى في مدينة حماة.

– فجر الحادي والثلاثين من تموز، بدأت دبابات النظام برفقة المئات من عناصر الجيش والأمن اقتحام المدينة من عدة محاور، وحاول المحتجون التصدي لها بما توفر بين أيديهم من إطارات مشتعلة وعصي وأسلحة بيضاء وأسلحة فردية خفيفة.

– أسفرت عدة أيام من العمليات العسكرية والأمنية عن عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين، وعن سيطرة جيش النظام وعناصر أمنه على شوارع المدينة الرئيسية وساحاتها ومداخل أحيائها. وفي العاشر من آب، رَفَعَ ناشطون مقطع فيديو على يوتيوب يظهر تمركز دبابات النظام في ساحة العاصي.

youtube://v/GPsChtA-tGM

– لم يتمكن المتظاهرون من العودة إلى ساحة العاصي رغم عدة محاولات دامية لاحقة كانت أعنفها في أواخر عام 2011،بعضها كان من جهة الساحة الشمالية من منطقة الحاضر، وبعضها الآخر من جهتها الجنوبية من منطقة السوق عبر شارع العلمين.

– انكفأت المظاهرات والاحتجاجات إلى داخل الأحياء تدريجياً على وقع القمع العنيف، وتركزت بشكل رئيسي في أحياء باب قبلي وجنوب الملعب والصابونية ومشاع الطيار في القسم الجنوبي من المدينة، وأحياء طريق حلب ومشاع الأربعين وضاحية كازو في قسمها الشمالي، بالإضافة إلى مظاهرات متفرقة في سائر أحياء المدينة الأخرى.

– انضم كثير من أبناء المدينة إلى مجموعات الجيش السوري الحر، لكن تواجدهم العلني واشتباكاتهم مع حواجز النظام اقتصرت على أحياء طرفية في أقصى شمال المدينة وأقصى جنوبها، وهي الأحياء المتداخلة مع ريف المدينة.

– ارتكبت قوات النظام مذبحة مروعة في حي مشاع الطيار الفقير أقصى جنوب المدينة، عندما قصفته بالصواريخ يوم 25 نيسان 2012، ما أسفر عن أكثر من 50 شهيداً وعشرات الجرحى. أما حي مشاع الأربعين الفقير أيضاً في أقصى شمال المدينة، فقد ارتكبت قوات النظام فيه عدة مذابح، قبل أن تعمد إلى هدمه وإزالته تماماً من الوجود أواخر 2012، وتشريد سكانه البالغ عددهم نحو 30 ألف نسمة.

– تراجعت المظاهرات في أحياء حماة تدريجياً مع استمرار القمع وتراجع المظاهرات في عموم البلاد، ويبدو أن فعاليات المدينة الثورية لم تُرِد إدخال أحياء المدينة الرئيسية على خط الصراع المسلح، أو أنها لم تستطع ذلك بسبب القبضة العسكرية الكبيرة على المدينة، وهو ما لا سبيل إلى التحقق منه الآن، وستبقى الإجابة عليه رهينة بانفتاح البلاد على أوضاع يستطيع السوريون فيها رواية حكاياتهم.

– لا تزال المدينة محكومة بقبضة عسكرية وأمنية مشددة، ولا تزال ساحة العاصي محتلة، فيما فشلت جميع محاولات فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية في ريف حماة الشمالي لاقتحام المدينة أو أجزاء منها، رغم اقترابها من ضواحيها الشمالية عدة مرات.

– تأكيداً على احتلاله للمدينة وعداوته لأهلها وذاكرتهم، وبالتزامن من الذكرى الخامسة والثلاثين لمذبحة حماة التي ارتكبها الأسد الأب، أعادت أجهزة النظام الأمنية نصب تمثالٍ لحافظ الأسد في وسط دوار النسر نفسه، في التاسع من شباط عام 2017.