استيقظتُ صباحاً، بل من الأفضل أن أقول، استيقظتُ في صباح يوم ما من شدة الجوع، توجهتُ نحو البرّاد، نظرتُ إلى الطعام الموجود فيه، حدقتُ داخله مطولاً. بعد ثوان سمعت أصواتاً غريبة، يبدو أن مصدرها معدتي كما لو أنها ترسل لي رسالة واضحة تطالبني بإشباعها. أغلقتُ باب البراد دون أن أسحب منه أي شيء، التفتُّ نحو ركوة القهوة، وضعتها على الغاز، وفيما كنت أنتظر غليان الماء، قامت معدتي بردة فعل شديدة، أثارت حاسة الألم عندي. تقلصات حادة، أظنها كانت نداءً مباشراً واستنكاراً منها لتجاهلي لها. أعددتُ القهوة، حملتها إلى غرفة الجلوس، القليل من الوقت، الكثير من البن، سببا تلاشي الأصوات، التقلصات والإحساس الآني بالجوع.

أعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من إحساس بالجوع، إحساس حاد متقطع، أعجز عن القيام بأي حركة لإشباعه. جوعٌ جسديٌ وذهنيٌ على حد سواء، على الرغم من توافر الطعام والأحداث. لقد حاولت مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة أن أكتب بشهية كما حاولت كثيراً أن آكل بشهية، لكن جهودي كانت عديمة النفع كلياً، عقيمة بقدر ما كانت شاقة. فقدتُ حالة الاشتهاء، بل تطور أمري إلى أكثر من ذلك، إلى الضجر من القيام بعملية فتح الفم، المضغ والبلع، إلى الضجر من المتابعة، التفكير والكتابة.

هبطت حيوتي إلى مستواها الأدنى لأول مرة بعد مضي قرابة الشهرين على سقوط حلب. يبدو أنه إحساس طبيعي بعد تعرضي كغيري من متابعي الحدث السوري مرة أخرى إلى الصدمة، الانفعال، الغضب، الترقب والانتظار، العجز، الحزن، ومن بعدها السكون المفرط الاعتيادي بعد كل حدث، إلى أن يضربنا حدث جلل آخر. إنها دائرة لا منتهية، كما لو أنها مطاردة نهاية لن تأتي.

وإليكم ما حدث بعدها. أصدرت منظمة العفو الدولية «أمنستي» تقريراً عن إعدام الآلاف في سجن صيدنايا السوري منذ 2011. التقطت وسائل الإعلام التقرير، قامت بتحويله إلى حدث هائل، إنه حدث هائل بالتأكيد، انتشله من الغياب رغم استمرارية وكثافة حدوثه في السنوات الست الأخيرة. إلا أن انتشاله بهذا الشكل أخرجه من سيرورته الزمنية، وحوّله إلى حدث آني ينهي الإعلام حدوثه عندما يريد، يحوّله إلى سبق، الى مادة استهلاكية مؤقتة، وهنا تكمن الخدعة: خداع الجماهير المقهورة التي كانت تراقب بعجز مطلق الأحداث في سوريا. ولأن الجمهور المقهور بحاجة إلى بصيص أمل، وجد في التقرير وما فعلته وسائل الإعلام أمراً قد يؤدي إلى احتمال تغييرٍ ما، فانفعل وانتظر.

يبدو أن لا مكان للشك بأن رؤية الحدث، هي رؤية تحدّها وتؤطرها الآلية الإعلامية. فالمساحة التي تتكون منها مفاهيمنا للحدث تكون فقط حين تشرع من قبل تلك الآلية‏، وكذلك عفوية التفكير كملكة إنتاجٍ للمفاهيم التي من خلالها نطلق الأحكام والأحاسيس. إلا أن وجود الحدث أو عدمه لا يقتصر فقط على الآلية الإعلامية ومكرها، بل على خضوعنا نحن لها، وذلك عبر تخلّينا عن إحساسنا الفردي تجاه الحدث السوري، وإدخاله في خلّاط الإحساس الجماعي، كما لو أن تخلينا عن فردانيتنا هو ملجأنا للهروب من لا جدوانا الفردية في مواجهة الأحداث.

انفعالاتنا وردود أفعالنا الجماعية تلك تشبه إلى حد ما تجربةً مررتُ بها يوماً، عندما كنتُ في الخامسة عشر من عمري، وذهبتُ مع مجموعة من الأصدقاء إلى مدينة الملاهي. في منتصف المدينة مجسم كبير جداً ضخم وعالٍ للغاية، مجسم شكله كالتالي: عامود حديدي طويل مثبت بشكل محكم في الأرض الإسمنتية، في وسطه عامود آخر يتحرك بشكل دائري، في طرفه الأعلى أو طرفه السفلي وذلك بحسب موقعه من حالة الدوران صحن كبير جداً، على هذا الصحن مقاعد كثيرة، لكل مقعد مجسم حديدي صغير يتم إنزاله على الجسد، الغرض منه الحماية من السقوط أثناء حالة الدوران السريعة من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس. وفوق كل مقعد وجسد ومجسم الحماية شبكٌ حديدي ثخين لمضاعفة تجنب السقوط. إذن ركوب هذه اللعبة محمي بشكل مكثف، ما دفعنا دون تردد نحوها، كل منا في مقعده.

بدأ المجسم بالدوران بشكل بطيء، الصمت والترقب يسودان الجميع، وفجأة أصبح الدوران سريعاً للغاية. لم أشعر بالخوف حينها. كانت شحنة عالية من الأدرينالين تصعق جسدي بكامله إلى تلك اللحظة التي سمعت فيها صرخة ما، يبدو أن أحدهم شعر بالخوف، صرخة أخرى من شخص آخر، صرخة ثالثة ورابعة وخامسة.

حالة خوف جماعية غريبة، وخلال ثوانٍ انتقلت إلي. صرختُ أنا أيضاً، شعرتُ بالخوف، لم يتوقف الصراخ حتى بدأنا بالهبوط بشكل بطيء. صمتَ الجميع بشكل تدريجي. وعندما ترجلتُ من المجسم، سألني أحدهم هل شعرتِ بالخوف؟ وضعت يدي على قلبي، كان ساكناً، نبضه رتيب وطبيعي.

يمكننا القول هنا أن الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر في اتجاه واحد يشكلان الخاصية الأولى للجمهور في طور تشكله، تماماً كما حدث معنا. كنا في حالة انتظار وترقب، ليتبعها بعد ذلك الصرخة الأولى ومن بعدها الثانية، السبب التحريضي الذي انتشر إلى الآخرين بواسطة العدوى، وقبلناه جميعاً، وعليه اشتعلت الهلوسة الجماعية. الجمهور ليس بحاجة لأن يكون كثير العدد كي تتراجع إمكانياته على الرؤية بشكل صحيح، ولكي تحل الهلوسات محل الوقائع الحقيقية. فيكفي أن يصرخ أربعة أو خمسة من المتواجدين لكي يشكلوا جمهوراً.

في شهر شباط 2017 قررتُ كتابة هذا النص، وذلك تماماً بعد أن هبطت حيوتي إلى مستواها الأدنى لأول مرة بعد سقوط حلب والعودة إلى السكون المفرط كما ذكرت سابقاً. دفعني التوتر والقلق، نتاج فقدان شهيتي للكتابة، نحو البحث عن أجوبة لأسئلة يصر عقلي على طرحها، أسئلة لا يستطيع تحاشيها لكنه أيضاً لا يستطيع الإجابة عنها، لذلك قررت التحدث مع كتاب\ت لبنانيين\ت. هؤلاء معنيون بالأحداث في سورية، يعيشونها من مسافة بعيدة قريبة، لكنهم لم يعيشوا صدمات مباشرة شخصية مثل الكتاب\ت السوريين\ت في السنوات الأخيرة، إلى جانب كونهم تعرضوا لتجربة طويلة مع وجود النظام السوري في لبنان، كما أنهم أيضاً أبناء حرب أهلية قاسية.

قمتُ بإجراء مقابلات مع هؤلاء في الشهر ذات، ثم كتبتُ النص في بداية الشهر الخامس أي بعد 3 أشهر. خلال هذه الفترة كنا نتلقى أحداثاً ضخمة استثنائية، واحداً تلو الآخر، ليس فقط في سوريا بل في الكوكب ككل: دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، غارة إسرائيلية على قاعدة لحزب الله بمحيط مطار دمشق، ترمب يحظر دخول مواطني 7 دول شرق أوسطية إلى الولايات المتحدة، إيران توجّه تهديدات للسعودية، كوريا الشمالية تهدد أميركا بالحرب…

أجريتُ مقابلات مع كل من حازم الأمين، ديانا مقلد، يوسف بزي، حازم صاغية، بيسان الشيخ، زياد ماجد. حازم الأمين وديانا مقلد من أوائل الصحفيين الذين التقيتهم في لبنان بعد قدومي إليه أواخر عام 2012، لألتقي بعدها بحازم صاغية ويوسف بزي وبيسان الشيخ. أما زياد ماجد، فلم ألتقِ به إلا بعد ذلك بعام أو أكثر، لكننا كنا نكتب في المكان ذاته. كان مثلهم يكتب عن الشأن السوري بشكل مكثف أسبوعي، وعاطفة جلية في تضامنها مع الثورة السورية.

الكتابة عن سورية بالنسبة لي كلبنانية هي الكتابة عن نفسي وعن حال لبنان. لا يمكن تجاهل أن لبنان كان تحت الوصاية السورية لثلاثين عاماً، «يعني حدا بعمري ما بيعرف بلده بدون النفوذ السوري فيه». وعلى هذا أعتبرُ أن موقفي اللاحق في الكتابة عن سورية هو استمرار لموقفٍ سابق، لبناني محلي. ومع الثورة السورية تحول الموقف الشخصي إلى موقف عام وانخراط مهني يومي. لكن الأمور أصبحت حادة بين الصح المطلق والخطأ المطلق، وذلك بعد تشعب الصراع وتحوله إلى نزاع مسلح، بالإضافة إلى تقلص الشق السياسي فيه وانشقاق الفصائل وتناسلها وتغير ولائها، ما جعل من وصول الصحفيين إلى الأخبار الصحيحة أمراً شبه مستحيل، وجعلَ من الكتابة عن المجريات اليومية أمراً مستعصياً.

بيسان الشيخ

 

علاقتنا مع الموضوع السوري علاقة مصيرية، أي طموحٍ إلى لبنان أفضل مرتبطٌ بشكل كبير بالوضع السوري، أي أن معاداتنا للنظام في سورية لا تقوم على أهواء ومزاج. علاقتنا مع الثورة السورية كانت جزءً من الاحتفالات اليومية بكل الثورات العربية. الثورة السورية استثناءٌ في التاريخ، وكأن أقصى أحلامنا السياسة أصبحت أمامنا. لكن للأسف اكتشفنا لاحقاً أن الأمر لم يعد بين الشعب والنظام فقط بل بين أطراف كثيرة، بدأت تظهر الفروقات بينها وتتوسع في الثورة ذاتها، لنجد أنفسنا أننا مع الثورة السورية لكننا لسنا مع طرف أو جماعة ما فيها. «كوننا لبنانيي ما بدنا نفوت بهاي التقسيمات السورية»، هذا الأمر كبح اندفاعاتنا، وأصبحنا نأخذ بعين الاعتبار كلامنا كي لا نُحسَبَ على جهة ما.

يوسف بزي

 

الثورة السورية أكدت لنا أنه ما زال هناك مكان لقضايا الحق والحرية والكرامة بعد تبخر أوهام 14 آذار ولعبة الطوائف، كما أنها وقفت في وجه المعتدي والظالم الذي قام باحتلالنا، إهانتنا وقتلنا. كذلك قدوم الكثير من الأصدقاء/الصديقات السوريين إلى لبنان خاطب فينا نرجسيتنا، بأن بيروت ما زالت تستقطب عرباً خارج ناسها، وهذا معنى بيروت، لكن كل هذا تغير بالتدريج مع تحول الثورة إلى حرب أهلية، ومع صعود الإسلام التكفيري. «وقت بلشنا نحكي سوري صار السوري يحكي لبناني»، وهذا الأمر إلى جانب كل التداعيات الأخرى محبط، على الرغم من وجود الثوابت «يلي بنبقى نذكّر نفسنا فيها»، لكن لم يعد هناك نفس الطموح والحماس على الصعيد المهني.

حازم صاغية

 

عندما تحدثوا عن الثورة السورية في عامها الأول، أحسستُ بالإنهاك، إنهاكُ استرجاعِ تتابعِ الأحداث، تماسكها وفشلها. رغبتُ في تغيير منحى الحديث نحو الحاضر الآني، هو شعور بعدم جدوى الخوض في عملية التذكر، لكني اكتشفت لاحقاً أن الحاضر مرهقٌ كالتذكر، بل أن التطلع نحو المستقبل أشد إرهاقاً مما سبق.

كانت الأحداث في أوجها مشتعلة، متتالية وضخمة، لهذا كانت تتصدر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، كما كانت المادة الرئيسية لكتاب الرأي كذلك، إلى أن تعقدت الأحداث وتشابكت من شعب في حربه ضد نظام ديكتاتوري وحشي، إلى دخول أطراف أخرى من جماعات إسلامية متطرفة مثل داعش والنصرة إلى جانب حزب الله، إيران وروسيا، ودول أخرى كان لها مصلحة في تمويل مجموعات مسلحة مع وضد النظام وأعوانه أيضاً، ليتراجع الخبر السوري في تصدره اليومي.

لم يكن التعقيد والتشابك السببَ الوحيد في ذلك التراجع، بل طول المدة الزمنية، إذ دخلنا اليوم في العام السابع، إلى جانب الجمود الدولي تجاه تفاقم الأحداث الدموية، وسقوط البدائل السياسية من جهة المعارضة، وإلى جانب دور وسائل الإعلام من خلال الانتقاء المتعمّد لبعض المشاهد والمفاهيم والكلمات والصور وتكرارها، واستبعاد غيرها.

الحدث السوري تشظى، موضوع اللاجئين، صعود اليمين، دخول روسيا، كلها بدأت بالحدث السوري، وتفرع عنها انقسامات إقليمية «ما فينا نغيب عنها»، كما أن الوسائل الإعلامية لها محاذير، وسائل لا يمكنك الكتابة فيها عن دول لها دور كبير في الأحداث في سورية. أنا منحازة للموضوع السوري، بمعنى أني أعلم أن أي حل لا يتضمن سقوط النظام لا معنى له، وموضوع داعش والإسلاميين يأتي في مرتبة ثانية بعد الأنظمة الدكتاتورية مثل النظام السوري وروسيا وغيرهم. بالتالي موضوع الكتابة والرأي الشخصي معقد، إذ تشعرين بثقل الاختيار بين ما يُسمح لنا بالكتابة عنه. هذا الأمر يؤدي إلى الانكفاء، نحن نعمل في أوضاع، الصحافيُ أسيرُ الاستقطابِ فيها، وله دور محدود في هذه المعركة.

ديانا مقلد

 

نحن معنيون بسورية «مش بس ككتاب»، بل بالمعنى العاطفي كذلك. لكن الحدث السوري تعقد وتعقدت مشاعرنا تجاهه، بين النظام والنصرة وداعش وتنظيمات إسلامية جعل من تناول الشأن السوري أمراً مربكاً، لم يعد الأمر كما في السابق، ظالم ومظلوم، مع أن هذا موجود حتى اللحظة، لكن يوجد حوله مشهد كبير ومعقد. ربما هذا الأمر صعّب الكتابة عن سورية، كما أن الأحداث تحولت في المنطقة إلى حدث واحد، لم يعد الحدث السوري سورياً فقط، وكذلك الحدث اللبناني والعراقي، إذ داعش وحزب الله خرقا ذلك، وبالتالي أصبحت الكتابة عن حزب الله في لبنان تشمل الكتابة عن سورية والعراق، والكتابة عن داعش في العراق تشمل لبنان وسورية والأردن. بالإضافة إلى كل ذلك، كشفت الأحداث في سورية أن من يشبهوننا من السوريين حلقةٌ ضعيفةٌ مثلنا تماماً.

حازم الأمين

 

العامان 2011 و2012 كانا عامي دهشة اكتشاف السوريين/ت الذين ثاروا، الشعارات وروح السخرية، الجغرافية السورية بأسمائها وناسها المغيبين، الفنون البصرية والكتابات التي واكبت الحدث. عبّرت الثورة السورية عن عودة إلى الزمن الضائع، إلى السياسة المصادرة واللغة الحية، لكنها كانت عودة صعبة وبثمن باهظ، ولم تنجح في أكثر الحالات في تثبيت نفسها أو بناء مسارات تنقل الأمور من طور إلى آخر. ما اختلفَ بعد ذلك هو أن كمّ التحوّلات والأهوال التي وقعت، وفاقت كلّ الحالات العربية الأخرى مجتمعة (وبما لا يقاس)، وحجم التدخّلات العسكرية الخارجية (الإيرانية والروسية خاصة) غيّرت من زوايا المتابعة للوضع السوري ومن المقاربات الكتابية لهذا الوضع. بعد ثلاثة أعوام من الكتابة الأسبوعية، أميَلُ منذ فترة إلى كتابة شهرية تفادياً للتكرار، أو حتى إلى كتابة ظرفية مرتبطة بقضايا أو بأحداث «استثنائية». وهذا كلّه لا يعني تغيّراً أو تبدّلاً في الموقف السياسي: فالسوء المطلق والشر المطلق الواجب إسقاطه كان وما زال، النظام الأسدي.

زياد ماجد

 

يحاول معظم الكتاب تفادي التكرار في الكتابة، يبحثون دائماً عن الحدث الاستثنائي. وكذلك المتلقي الذي لا يثيره سوى الحدث الكبير، المختلف، الجديد. الحدث الاستثنائي هو وحده من يستقطب وسائل الإعلام التي، في النهاية تهدف إلى إثارة الجماهير. لو اعتبرنا أن الأحداث في سوريا متطابقة بشكل كلي، متشابهة إلى حدٍّ لا يمكن الفصل بينها على الأقل في السنوات الأخيرة، فإن تفادي التكرار هو أحد الأسباب الرئيسية في تراجع الخبر/ الموضوع السوري.

يقول جيل دولوز في كتابه الاختلاف والتكرار: «لا تقتصر وظيفة التكرار في التعريف على الأحداث، الأشخاص والأهواء، بقدر ما هي تأصيل الأدوار وانتقاء الأقنعة». ألا يمكننا أن نجعل من تكرار الكتابة عن الحدث في سوريا على سبيل المثال أمراً مستقلاً ذاتياً، قائماً على مبدأ الحرية والانتقاء. الحرية في اختيار طريقة جديدة لعرض الحدث بشكل مختلف، ألا يمكن أن نجد في التكرار اختلافاً داخلياً؟

إلى أن قامت المعركة

حل السكون مجدداً، سكون مفرط، إلى أن جاء الخبر التالي: مئات الضحايا في خان شيخون في مجزرة ارتكبها النظام السوري مستخدماً فيها الأسلحة الكيماوية. وهنا بدأت الهستيريا، تصدّر الخبر وسائل الإعلام كافة، اجتماعات ومؤتمرات دولية، وسائل التواصل الاجتماعي تعجّ بصور المجزرة. لم تستمر تلك الهستيريا تجاه المجزرة سوى 3 أيام فقط، إذ اخترقها الخبر التالي: أمريكا تهاجم النظام السوري بـ 59 صاروخاً. لتنتقل الحالة الهستيريا ذاتها نحو الحدث الأخير، لتتحول من المجزرة وضحاياها إلى جدل حول أهمية الضربة الأميركية والإجماع والخلاف عليها، حالة الهيستريا الثانية تلاشت ومعها ضحايا مجزرة خان شيخون.

بعد مرور كل تلك الأحداث، وبمراقبة دقيقة لنفسي كمتلقية وصحافية، توصلتُ إلى التالي: تلاشت حالة الجوع تجاه الكتابة، تجاه الطعام، توقف ضجيج معدتي، ردة فعلي كانت ساكنة بشكل ثابت، فقدتُ الإحساس بالصدمة، الغضب، الحزن، العجز، ظننتُ قبل كتابتي لهذا النص بأني شفيت، لقد حدث لي شيء ما، ليس بوسعي الشك في ذلك، شيء ما انسلّ إلى المحرك داخلي وأطفأه. أحسستُ بالغرابة بعض الشيء، لكني وأثناء الكتابة الآن، شعرتُ بثقل شديد. ثقل سكون ما قبل قيام المعركة مجدداً. حينها تأكدت أن الصدمة الأولى التي دخلت حياتنا فجأة مخيفة، مخيفة إلى حدّ اليقين أن ما من طريق إلى الخارج أو إلى ما حوله أو إلى الداخل. وأن اللاحركة هي الطريق النهائي: إنه طريق الجماهير العاجزة.