في رحلة الهرب من مناطق الشرق السوري التي تشهد عمليات عسكرية ضد تنظيم الدولة الإٍسلامية «داعش»، يكون مصير الهاربين معلقاً بين عنصرٍ للتنظيم يتحين الفرصة للقبض على أي هارب أو حتى قتله، وبين مُهرّبٍ «بايعها وماشي» وفق التعبير الشعبي، فهو لا يكترث لمصيره في حال ألقى عناصر التنظيم القبض عليه، لأن كل ما في الأمر أنه سوف يُقتل ويتم صلبه في إحدى القرى بتهمة تهريب المدنيين خارج مناطق سيطرة «دولة الخلافة» !!
الرحلة التي قد يدفع الهارب روحه ثمناً لها، تتطلب منه أيضاً أن يبيع كل ما يملك لتوفير أجرة المهرب من مناطق سيطرة داعش إلى مناطق سيطرة قسد، ومن ثم دفع مبلغ للهرب من المخيمات التي تقوم قسد بوضع المدنيين النازحين إلى مناطق سيطرتها داخلها، التي هي أشبه بمعتقلات جماعية تفتقد لكثير مقومات الحياة، أضافة إلى معاملة نزلائها معاملة غير إنسانية في كثير من الحالات.
دوافع النزوح ووجهته
تُعد محافظتا الرقة ودير الزور وأجزاء من ريفي حمص وحماة الشرقيين وريف الحسكة الجنوبي، أكثر المناطق السورية التي تشهد حالات نزوح في الفترات الأخيرة، نتيجة العمليات العسكرية الدائرة والقصف الجوي الذي تتعرض له.
تتقدم قوات سوريا الديموقراطية في محافظة الرقة، وتتقدم قوات النظام في مدينة السخنة وريف حمص الشمالي الشرقي وريف حماة الشرقي وريف الرقة الشرقي، بالتزامن مع قصفٍ جويٍ مكثف من طيران قوات النظام والطيران الروسي وطيران التحالف الدولي على مناطق الاشتباكات، وعلى مجمل مناطق سيطرة داعش دون أي اكتراث بحياة المدنيين.
وبالإضافة إلى العمليات العسكرية والقصف، تأتي قوانين داعش الجائرة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية في مناطق سيطرته، وبدء فرض التجنيد الإجباري على الشباب بين عمر 18 و30 عام في مناطق سيطرته بمحافظة دير الزور.
ويتجه القسم الأكبر من النازحين إلى مناطق سيطرة قسد في محافظتي الحسكة والرقة، فيما يتجه قسمٌ آخر إلى مناطق سيطرة قوات النظام في دمشق وحماة وغيرها من المحافظات. ويقول الناشط الإعلامي عمر أبو ليلى من محافظة دير الزور إن «توجه المدنيين إلى مناطق سيطرة قسد يأتي بسبب ضيق الخيارات المتاحة، التي تنحصر في وجهتين، الأولى هي مناطق النظام، والثانية هي مناطق قسد التي يفضلها كثيرٌ من النازحين بسبب تخوفهم من الذهاب إلى مناطق تواجد النظام، خشية الاعتقال أو السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية».
خطوط التهريب إلى مناطق سيطرة قسد
يسلك المدنيون الفارون من مناطق تنظيم داعش، الذي يحاول منع الخروج، إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، أربع طرق تهريب رئيسية، اثنان منها في محافظة دير الزور واثنان في محافظة الرقة، وهناك غيرها طرق متفرقة قليلة الاستخدام، تتقاطع كلها مع هذه الطرق الرئيسة.
أول هذه الطرق في محافظة دير الزور هو طريق بادية الريف الشمالي، انطلاقاً من بلدة الصور شمال دير الزور إلى قرى الريف الجنوبي لمحافظة الحسكة، وبالتحديد إلى نقطة رجم صليبي. أما الطريق الثاني فهو خط قرة الكسرة بريف دير الزور الغربي، مروراً بالبادية الشمالية المحاذية لتلك القرى وصولاً إلى مناطق صباح الخير وأبو خشب والجزرات غرب وشمال غرب محافظة دير الزور.
أما ثالث طرق التهري وأسهلها جغرافياً، فهو طريق فيما طريق معدان وقرية أبو شهري في أقصى ريف الرقة الشرقي، الذي لا يتطلب سوى عبور الشخص من الضفة الجنوبية لنهر الفرات الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش، باتجاه الضفة الشمالية حيث قرى الجزرات التي تسيطر عليها قسد.
الطريق الرابع هو الخروج من أحياء مدينة الرقة التي يتحصن فيها تنظيم داعش وتحاصرها قسد وتتقدم داخلها، وذلك عبر الهرب من تلك الأحياء والوصول إلى نهر الفرات والعبور إلى منطقة “الكسرات” جنوب النهر، ثم التوجه بعدها أما إلى قرى خط معدان سابق الذكر بالريف الشرقي، أو التوجه نحو الشمال الغربي على طريق الطبقة، ثم معاودة عبور النهر في مناطق سيطرة قسد إلى الضفة الشمالية، ومواصلة الطريق شمالاً.
عمليات التهريب تكون صعبة للغاية، فكثيرٌ من النازحين يفقدون حياتهم أثناء محاولة الهروب، بسبب إطلاق النار عليهم من قبل عناصر التنظيم ودورياته التي تنتشر على تلك الطرق، أضافة لزرع التنظيم المئات من الألغام على طول الشريط الفاصل بين مناطق سيطرته ومناطق سيطرة قسد. ويدفع المدنيون مبالغ مادية كبيرة للمهربين فقط مقابل العبور بهم خارج أراضي سيطرة داعش، إذ تتراوح التكلفة ما بين 100$ وحتى 500$ أمريكي للشخص الواحد.
سارة من أهالي محافظة دير الزور تقول إنها دفعت 400 $ أمريكي لمهرب من أهالي قرية أبو شهري بريف الرقة الشرقي، مقابل نقلها عبر نهر الفرات إلى مناطق سيطرة قسد في قرية جزرة البوحميد، أما أولادها الذين سلكوا الطريق البري بين قرية الكسرة وأبو خشب قبلها بأيام فقد دفعوا 100 $ للشخص الواحد.
ويعود سبب ارتفاع سعر العبور من طريق معدان إلى سهولته وغياب المشقة الجسدية، إضافة إلى أن وضع مخيمات الرقة التي يدخلها العابرون من هذا الطريق من حيث توفر بعض الخدمات وإمكانية الخروج منها أفضل من مخيمات جنوب الحسكة، التي يتم نقل العابرين من طرقات بادية دير الزور الشمالية إليها.
مخيمات الموت
بمجرد نجاح المدنيين بالخروج من مناطق سيطرة تنظيم الدولة، ووصولهم إلى أول حواجز قوات قسد المنتشرة على خط الجبهة مع التنظيم، يتم تجميعهم ونقلهم إلى مخيمات أعدت في مناطق صحراوية بريفيي محافظة الحسكة والرقة، وتخضع هذه المخيمات لإشراف الإدارة الذاتية الخاضعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD.
ويتم فرز النازحين إلى المخيمات حسب نقاط عبورهم، فـالمدنيون العابرون من طرق بادية دير الزور الشمالية يتم نقلهم إلى المخيمات الموجودة في محافظة الحسكة، أما المدنيون العابرون من ريف الرقة الشرقي فيتم نقلهم إلى مخيمات ريف الرقة الشرقي والشمالي، ويتم إجبار أغلب النازحين على دخول المخيمات حتى لو كانت لديهم وجهة يقصدونها، فيما يتم السماح في حالات أخرى لبعض العابرين بمتابعة طريقهم، وليست واضحة العوامل التي تحكم هذا الأمر.
ومن نزلاء هذه المخيمات، إضافة إلى النازحين، مدنيون قامت قوات سوريا الديموقراطية بتهجيرهم بشكل قسري بعد طرد داعش من قراهم وبلداتهم، وذلك بحجة إعلانها مناطق عسكرية، كما هو حال أهالي بلدة الكرامة في ريف الرقة الشرقي.
ويوجد في مناطق سيطرة قسد بمحافظتي الحسكة والرقة ستة مخيمات رئيسية، وفيما يلي مواقعها وتعداد قاطنيها بحسب القائمين على حملة مخيمات الموت، التي سنأتي على ذكرها بعد قليل:
– مخيم رجم صليبي شرق منطقة كبيبة بريف الحسكة الجنوبي، ويبلغ عدد قاطنيه أكثر من 400 عائلة معظمهم من أهالي محافظة دير الزور، بالإضافة إلى عائلات اللاجئين العراقيين.
– مخيم الهول في منطقة الهول على بعد 55 كم جنوب شرق مدينة الحسكة، بالقرب من الحدود السورية العراقية، ويبلغ عدد قاطنيه أكثر من 4 آلاف شخص من اللاجئين العراقيين والنازحين من محافظة دير الزور.
– مخيم السد الواقع في قرية العريشة بريف الحسكة الجنوبي، ويبلغ عدد قاطنيه أكثر من 8 آلاف شخص من أهالي الرقة ودير الزور وريف حلب الشرقي ومدينة السخنة.
– مخيم المبروكة غرب مدينة رأس العين في محافظة الحسكة، ويبلغ عدد قاطنيه نحو 3 آلاف شخص من أهالي دير الزور والرقة، وبعضهم من أهالي ريف حلب الشرقي.
– مخيم عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، ويبلغ عدد قاطنيه 8 آلاف شخص من أهالي الرقة ودير الزور وريف حلب، ويحتوي على 800 خيمة صغيرة و6 خيام كبيرة.
مخيم الكرامة قرب بلدة الكرامة السابق ذكرها، على بعد 35 كم شرق مدينة الرقة، ويبلغ عدد قاطنيه 30 ألف شخص، من أهالي محافظة الرقة ودير الزور ومدينة السخنة.
ويضاف إلى ما سبق بعض المخيمات العشوائية في بادية الحسكة الجنوبية/ وفي ريف الرقة الغربي قرب مدينة الطبقة، التي تحوي آلاف من النازحين أيضاً من أهالي ريف حلب.
أوضاع مأساوية
يعيش المدنيون النازحون في تلك المخيمات أوضاعاً مأساوية، إذ تقوم الجهات الأمنية التابعة لقوات سوريا الديموقراطية بمصادرة الأوراق الثبوتية لجميع الداخلين إلى تلك المخيمات، وتمنع خروجهم منها إلا بعد قضائهم أشهراً داخلها في بعض الحالات، وبعد إجراء تحقيقات معهم، وهذا على وجه الخصوص في مخيمات محافظة الحسكة. ويمكن لنزلاء المخيمات الخروج في وقت أبكر بعد تقديم كفالات يتم تأمينها عبر سماسرة يعملون على الأرجح بالتنسيق مع قسد، وذلك مقابل مبالغ مادية تصل إلى 200 $ للشخص الواحد، وفي جميع الأحوال ولا يُسمح للمدنيين الخارجين بدخول محافظة الحسكة إلا في حال وجود كفيل كردي.
تم إنشاء هذه المخيمات في مناطق صحراوية بعيدة عن مراكز المدن، وبعضها تم بناؤه في مناطق ملوثة، مثل مخيم رجم صليبي الذي بُني على أرض كنت مخصصة لمصافي النفط البدائية على عهد تنظيم داعش، ما تسبب بانتشار الأمراض الجلدية بين النازحين وزاد من حجم معاناتهم.
تفتقد تلك المخيمات للرعاية الصحية، فمعظمها لا يوجد فيه نقاط طبية للاهتمام بالحالات المرضية، وتقتصر حالات الطبابة على بعض العيادات المتنقلة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، التي تقدم اللقاحات للأطفال فقط على الغالب.
عبد العزيز الخليفة، وهو صحفي من محافظة الحسكة، أكد للجمهورية أن «نقص الرعاية الصحية في المخيمات المتواجدة بمناطق سيطرة قسد، تسبب بوفاة 10 أشخاص في مخيم السد بريف الحسكة، كما توفي 10 أطفال أخرين في مخيم عين عيسى شمال الرقة للسبب ذاته». ويضيف الخليفة أن «قوات قسد تمنع المدنيين النازحين من إسعاف المرضى إلى المشافي في مدينة الحسكة والقامشلي وتل أبيض في كثير من الحالات».
هذا ويعاني قاطنو المخيمات من نقص في المواد الغذائية، بسبب قلة المساعدات المقدمة لهم، حتى أن البعض يعيشون على نفقتهم الخاصة، وخاصة في المخيمات المنتشرة بريف محافظة الحسكة. وتجدر الإشارة إلى أن الأوضاع في مخيمات الرقة أفضل حالاً، سواء على مستوى توفر الطعام وبعض الخدمات، أو على مستوى حرية الدخول والخروج إليها، وعلى وجه الخصوص مخيم عين عيسى.
كذلك كثيراً ما يلقى قاطنو المخيمات معاملة غير لائقة، خاصة من قبل العناصر المشرفة على المخيمات، والتي تتبع غالباً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
مناشدات للتدخل
الوضع المزري داخل المخيمات واستمرار تفاقم الأزمة الإنسانية، دفع ناشطين من محافظة الرقة والحسكة ودير الزور لإطلاق حملة مخيمات الموت، في محاولة لتسليط الضوء على الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعيشها النازحون من المنطقة الشرقية في المخيمات، سواء مخيمات الشمال في الرقة والحسكة، أو مخيمات الجنوب على الحدود الأردنية في البادية.
بدأت الحملة بتاريخ 15 آب/أغسطس الجاري، وطالب القائمون عليها المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بالتدخل والوقوف على مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، وإيجاد آلية عمل للتخفيف من تلك المعاناة.
فلك الفرج مديرة حملة مخيمات الموت قالت للجمهورية: «تتلخص مطالبنا في أربعة أمور، أولها فتح ممرات إنسانية بين مناطق سيطرة تنظيم الدولة ومناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، إضافة إلى ضرورة وجود إشراف دولي من هيئة الأمم المتحدة على المخيمات، وضمان سلامة وحرية تنقل الأفراد في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، وتأمين مقومات الحياة والاحتياجات الضرورية للنازحين».
وتقول الفرج إنه حتى الآن لم تتواصل معهم أي منظمات دولية معنية بشؤون النازحين، إلا أن «الحملة مستمرة حتى تغيير واقع أهلنا في مخيمات الموت».