في نهايات صيف العام 1987 كان الإعلام السوري يفاخر بأن كل دول البحر الأبيض المتوسط حاضرة في سوريا رياضياً، للمشاركة بدورة ألعاب المتوسط في مدينة اللاذقية. في تلك الفترة تماماً، قامت السلطات السورية بهدوء إعلامي بالغ، باعتقال أكثر من ألف معارض سياسي، لتضيفهم إلى آلاف كانوا لسنوات سابقة يتعفنون في السجون السورية وأقبية المخابرات. تمت حملة الاعتقالات تلك ضمن صمت عالمي شبه تام، والحقيقة أنني يومها لم أعتب على الإعلام العالمي والأوروبي تحديداً، وخمّنت أن هذا التقصير ربما كان بسبب انشغال دول المنطقة ووسائل إعلامها بإحصاء الميداليات الذهبية.

 في إحدى أماسي تلك الفترة، وكنت من بين الضيوف الجدد على الفرع 235 «فرع فلسطين» التابع للمخابرات العسكرية بالعاصمة السورية دمشق، تصادفَ لي أن كنت في غرفة التحقيق معصوب العينين أخضع لواحدٍ من الاستجوابات المتكررة التي خضعتُ لها كغيري من الأصدقاء. بدا لي أن المحقق يومها، وعلى غير عادته، يقوم بمهمته بكسل واضح، فلا ضرب ولا حتى شتائم. رغم العصابة التي كانت تغطي عينيّ إلا أنني، ومن خلال صوته، كنتُ أقدرُ أنه لا ينظر باتجاهي حتى. وفي حالة من الترف غير المعهود، لم يكن يدقق أو يناقشني في إجاباتي. في الجهة المقابلة من الغرفة كانت مجموعة من عناصر الفرع تتابع بحماس، يبلغ حدَّ الاهتياج، بثّاً مباشراً لمباراة فرنسا والجزائر ضمن دورة المتوسط تلك.

لكم أن تصدقوا، أني كنت أتابع صوت المعلق الرياضي من التلفزيون أكثر من أسئلة المحقق، ليس شغفاً بكرة القدم، كما يمكن أن يتبادر إلى أذهانكم، بل بسبب الرعب الذي ملأني تلك اللحظات من أن تحرز فرنسا هدفاً في مرمى الجزائر خلال وجودي في الغرفة. كانت تعليقات العناصر تؤكد حماسهم للفريق الجزائري، وكنتُ أنا أخمنُ وأسألُ نفسي: ماذا لو حدث ذلك لحظتها، فبمن سوف ينفّس هؤلاء غضبهم إن لم يكن بي؟ لحسن حظي يومها عدتُ إلى القبو (مقرّ إقامتي) دون أضرار جسدية إضافيّة، حتى قبل أن أعرف النتيجة النهائية للمباراة. ومن باب العرفان بالجميل، ما زلتُ حتى اليوم، أشكر للفريق الفرنسي تعثره في إحراز أي هدف خلال وجودي مع أولئك المشجعين، بروحهم الرياضية العالية التي كان جسدي قد خبرها جيداً خلال الأيام الماضية، لأني حتماً كنتُ سوف أعود إلى زنزانتي أكثر تورماً.

يومها كنتُ وأصدقائي عاتبين على الدول الأوروبية لمشاركتها في دورة رياضية تقام في بلد يحكمه ديكتاتور فظّ ومعروف، وسوف تتفهمون مني كما من أي سجين آخر أننا كنا، وباستثناءات نادرة، نعتب على الكرة الأرضية عموماً، بما فيهم أقرب الناس إلينا. ومما عزَّزَ عتبنا (من باب اللياقة وعدم فضح ما يعتمل في نفسي، سأداوم ما استطعت على وصفه بالعتب) أنه بعد ذلك بسنوات قليلة، وفي بدايات التسعينات كانت السلطات السورية تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي للحصول على قرض مالي. علمنا من السجن أن الأوربيين اشترطوا على الحكومة السورية شرطين لمنحها القرض، أولاً إطلاق سراح معتقلي الرأي، وثانياً السماح للسوريين اليهود (الممنوعين من السفر بناءً على الانتماء الديني) بمغادرة سوريا إن هم رغبوا. أسعدتنا جداً تلك الشروط، ووجدنا فيها جرعة أخلاقية تحتاجها السياسات الخارجية الأوروبية، وفعلاً بعد فترة نجا السوريون اليهود وغادروا البلاد جميعاً (وهذا سورياً ووطنياً أمرٌ مؤسف)، وحصلت الحكومة السورية على القرض، لكننا بقينا نحن سجناء الرأي في السجن!

بالعودة إلى قبو فرع فلسطين. أثناء وجودنا هناك، أُحضِر إلى قبو الفرع، ولسبب ما زلتُ أجهله، مواطنٌ أوروبي. وقد عرفنا بوجوده دون أن نراه من خلال سماع لغته الإنكليزية، وهو يتحدث إلى السجانين (دون أن يفهموه) عند نزوله من غرف التحقيق. لكن (يا للغرابة)، بعد ثلاثة أيام بدأنا نسمعه عائداً من التحقيق يصدر أصواتاً تشبه العواء.أجل كان يعوي فقط دون أي كلمة أخرى، وكنا نتأكد أن هذا العواء للسجين الأوروبي ذاته، من الشتيمة التي كان السجانون (المبتهجون لوجوده) متفقين على أن يطلقوها في وجهه مع قهقهة، ودون مللٍ منذ لحظة اعتقاله، «fuck you». شخصياً فسّرتُ الأمر يومها، أنها كانت الكلمة الأجنبية الوحيدة التي يعرفونها، ربما من ثقافة الأفلام الأمريكية.

أستطيعُ أن أخمِّنَ، وأنا مرتاح الضمير، أن هذا الرجل بصفته غربياً (هذا ما ينتبه له المحققون جيداً، كلما استطاعوا) لم يتعرض لأكثر من عُشرِ ما تعرضنا له من تعذيب. تصوروا رجلاً يعوي بعد ثلاثة أيام من التحقيق! بينما كنّا نحن السوريين نتبادل الطرائف كلما سمح الوقتُ، بين جولتي تحقيق. لكن للأمانة سوف أعلمُ فيما بعد، أن معتقلاً في سجن «المزّة» بدمشق، قد بدأ بالعواء بعد أربعة عشر عاماً قضاها في زنزانته المنفردة، ممنوعاً من الكلام إلى أي أحد، وكان أن مات بعد فترة. ستبدو المقارنة هنا عرجاء وغير منصفة، فهذا السوري احتمل ظروفه أكثر من أربعة عشر عاماً وليس لثلاثة أيام فقط. نعم، هذا صحيح، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل أن هذا السوري كان بالتأكيد أكثرنا رهافةً وحساسية، فهو على الأقل قد عوى أخيراً!

ولكن لماذا لم نعوِ نحن يوماً؟ هل يمكن حقاً أننا اكتسبنا عبر عقودٍ تلك الآليات المدهشة للتكيّف مع تلك «المَكْلَبة» التي تُدعى «سوريا الأسد»؟ وصار الخوف، بل والرعب، جزءاً أصيلاً وطبيعياً من حياتنا السورية. هل يمكن أن نكون قد وقعنا عام 2011 ضحيّة خوفٍ مُركّب؟ فخفنا من عدم تصديق وقوف دول الغرب إلى جانبنا بعد أن تورطنا وكسرنا حلقة خوفنا من الأسد. ليس غريباً أن يكون هذا ما حدث لنا نحن من أدمنّا الخوف، قد نكون خفنا فعلاً في تلك اللحظات أن نبقى وحدنا وظهرنا إلى العراء الذي لم نرغب بتخيله، فاستسلمنا وصدقنا.

بعد فترة من مغادرتي السجن، حكمت عليّ المحكمة المسلكية للعاملين في الدولة بالفصل من عملي السابق قبل السجن، بناء على حكم محكمة أمن الدولة العليا لارتكابي جناية معاداة أهداف الثورة (انقلاب 8 آذار). طبعاً أنا قبلتُ بالفصل من العمل لمعرفتي بلا جدوى الطعن في حكم هذه المحكمة. لكن وللمفارقة فإن محامية الدولة (تصوروا، كانت للدولة بكاملها محامية بمواجهتي أنا!) لم تقبل بالحكم، وطعنت به، وطلبت تعديله من الفصل إلى الطرد بدون أية تعويضات، معلّلةً السبب بارتكابي جنايةً شائنة! لم أجد من الجدوى حينها أن أسأل: على أي شيء اعتمدت محامية الدولة لتعتبر الرأي المخالف لنظام الأسد جناية شائنة؟ والجناية الشائنة في القانون السوري كما تعلمون، هي الجرم الذي يَسِمُ صاحبه بالعار الاجتماعي، من نمط السرقة والاغتصاب. يومها أدرتُ ظهري وغادرتُ المحكمة، ولم أتابع ولم أعرف حتى اليوم ماذا جرى بعد أن تم قبول الطعن.

باستثناء الاحتقار، فلم تتولّد لديّ يومها أي من مشاعر الكراهية تجاه محامية الدولة، فهي في النهاية لم تكن سوى سوريّة مذعورة، وبالتأكيد اعتبرت أنه سيكون ذا وقع طيب لدى من هم «فوق»، أن تصفَ معارضةَ الأسد بأنها فعلٌ شائن، ومن هم «فوق» في سوريا غامضون ومخيفون، ويجب على الدوام تجنب أذيتهم. نعم هي كانت موظفة سورية طبيعية، ولا تختلف عن معظم الموظفين الحكوميين الخائفين، كلٌ منهم يسعى في تصرفاته لإنجاز عمله بما يمليه عليه خوفه من الأجهزة الأمنية، فهو يعلم في قرارته أن من هم «فوق» يتحكمون بكل صغيرة وكبيرة، بما فيها حياته وحياة أبنائه ما دام يتنعم بالعيش في المزرعة المسماة «سوريا الأسد».

في فترة لاحقةٍ وبعد سنوات، فكرتُ كرجل مشاكس بطبعي، أن عليَّ القيام بما كان سيفعله أي سجين في العالم كان قد سُجن وهو بريء. نعم، قررت أن أقاضي الحكومة، مطالباً بتعويضي عن حياتي المسروقة دون وجه حق. استشرتُ بعض المحامين لأعرف أمام أية محكمة يمكن أن تُرفع هكذا دعوى. أول المحامين لم يجب على أيٍّ من أسئلتي كي لا يورط نفسه حتى ولو بجواب بسيط. محامٍ آخر قال مستنكراً وساخراً من سذاجتي: إن هكذا دعوى يمكن أن تقام في بلادٍ أخرى ولكن ليس في بلدنا. آخرهم، وكان صديقي، سيجعلني يائساً من المضي في هذه القضية. قال لي بعد أن أغلق باب المكتب: «أنت وين رايح؟ أنت مجنون لا شك، وبدّك مين يعقّلك. هيك دعاوى بتكون جماعية، وما ممكن يرفعها مجنون لوحده، وبكل الأحوال ما بهادا الزمن»، وللتوضيح فقط، فإن صديقي الأخير كان من نشطاء المجتمع المدني. هل تخبركم هذه القصة كم كنّا خائفين؟

عام 2006 جاءتني دعوة لحضور ملتقى لمعارضين سوريين مع جهات حقوقية ومدنية أوروبية وأمريكية في باريس، وأجبتُ الجهة الداعية بالموافقة. يومها أصابَ الرعبُ ابنتي، ورَجَتني ألا أُلبّيها، وكانت تحاججني وتسألني وعيونها تقطر خوفاً: ماذا لو جاؤوا إلى بيتنا أثناء غيابك؟ (طبعاً كانت تقصد المخابرات) هل تخبركم هذه اللقطة كم كان أبناؤنا خائفين؟

نعم كنا نعلم كل تفاصيل ما صارت إليه بلدنا، بلد الخوف. وأكثر من ذلك كنا نعرف ومنذ عقود أننا شعب بلا غطاء دولي يحمينا، وطبعاً بلا قوانين داخلية تمنع التجاوزات عن أعمارنا وأرواحنا، في ظل نظام استبدادي مجرم كان (وما زال) حاجةً دولية وإقليمية، حاجةً علينا نحن أن نسدد ثمنها ليستفيد الآخرون من ذوي المصالح. ولطالما شعرنا أنها معركتنا وحدنا دون أي أمل بالحماية، لكن ما الذي حدث هذه المرة (أقصد عام 2011) حتى خدعنا أنفسنا وشعرنا بالأمل، فظننا أن شيئاً ما ربما قد تغير؟ وأن التاريخ سوف ينصفنا أخيراً. وهنا إن كنتُ لا أودُّ أن أكون رومانسياً، فسأعترفُ أنه ليس لدي أي جواب أستطيعُ إقناع أحد به، فنحن كنا منذ سنوات طويلة نصرخ بمواجهة الكرة الأرضية، أننا نسجن ونموت ونواجه منظومة متكاملة من الرعب، نصرخ بصوت وحشي يشبه أصواتنا في دواليب التعذيب، عندما كنّا نتلقى لسعات الكهرباء، ولم يحدث في أي مرة أن تلقينا أي استجابة حقيقية. وها هم السوريون اليوم يكررون وظيفتهم المُكلفة بالصراخ، وهذه المرة من تحت البراميل والقنابل العنقودية، ومن بين سحب غاز السارين، دون أية استجابة. اللعنة، قد يكون مفهوماً أن السياسة ليست متطابقة مع الأخلاق، وهذا محزنٌ بالطبع، لكن الشيء الفادح، هو أن تكون عديمة الأخلاق إلى هذه الدرجة المريعة.

هل كان خطؤنا الأكبر في بداية الثورة أننا صدقنا دول العالم في تضامنها مع مطالبتنا بالحرية والكرامة، فاندفعنا أكثر؟ اللعنة مرة ثانية. ماذا طلبنا سوى الكرامة البشرية؟ ومع ذلك، كيف بالرغم من تجاربنا المريرة معهم صدقناهم؟ ونحن أساساً من منطقة لا تصدق الغرب، لا حكومات ولا حتى منظمات حقوقية أو مدنية، ولا نرى دول الغرب أبداً كما تقدّمُ نفسها. فكيف وقعنا في الفخ؟ أنا لو أردتُ أن أكون سورياً أصيلاً في بداية الثورة وأميناً لتاريخي، لوجب عليَّ ألا أصدق أن ما يقولونه اليوم سيلتزمون به صباح غدٍ. ولو أردتُ أن أكون سورياً أكثر أصالة لوجب عليَّ أن أجلس بصمت أراقب المواقف الدولية بتوجس وريبة مفكراً ومتسائلاً: في سياق أي مخطط جهنميّ يأتي ما يطرحونه؟ وبأي دوافع خفيّة يقولون ما يقولونه؟ فلطالما عرفنا تاريخياً، أن أي اهتمام دولي بالشأن السوري (خاصة سوريا الأسد) هو حالة ضغط عابرة من أجل مساومة ما (ها هو العالم أثبت ذلك اليوم أيضاً). اهتمامٌ يوحي لنا ببعض أملٍ، لكنّه يعود ليشبه (بالنسبة لنا) مرور مذنب هالي قرب كرتنا الأرضية. إنه الحدث النادر الذي طالما انتظرناه، ومع ذلك فإن مواطنينا كانوا في كل مرّة متأكدين، ولن يستطيع أيٌ كان إقناعهم بالعكس، أن صفقة ما ستمرر (كالعادة) مع نظام الأسد من تحت الطاولة، أو من تحت أنوفنا، ونبقى نحن السوريون التوّاقون للحرية والديموقراطية، ولحياة إنسانيّة طبيعية فقط، نبقى بمنتهى الخذلان، عيوننا معلقة بالفضاء، نراقب ونتابع الذيل الجميل للمذنب الذي يمضي ولن يعود إلا بعد سنوات طويلة. أما في واقع اليوم، فالثمن، يا للحسرة السورية، باهظٌ وفوق كل احتمال. فها نحن نسبح بدم مئات الآلاف من أبنائنا الذي ما زال طرياً على الأرض، وننظر في الأفق، فلا نرى أي شيء سوى المقابر تعمّ طول البلاد وعرضها.

اللعنة ثالثةً، عليَّ هذه المرة. فمن أين أتيتُ بالأمل في بداية الثورة السورية أنهم ربما قد تغيروا؟ فلطالما اعتقدتُ، وكان راسخاً لديَّ خلال وجودي في السجن، أننا كنا، وقبل كل شيء، سجناء نقطة التوافق بين الدول الكبرى المتصارعة على مناطق النفوذ في الحرب الباردة، تلك الحرب التي كانت صقيعية جداً بالنسبة لنا. وأننا ضحية الصفقات الدولية مع الأنظمة التابعة، ولذا كان الصمت مريعاً، ولو أن واحدة من الدول الكبرى امتلكت الإرادة الأخلاقية، ربما ما كنا مُغيبين في السجون كل تلك السنوات، هذا طبعاً دون أن نذكر عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين والمهجرين قسراً تلك الأيام.

اليوم تتحدث العديد من دول العالم بمنتهى النذالة، عن فترة مؤقتة (انتقالية) سيبقى الأسد فيها رئيساً. ولكن كيف للسوري أن يصدق (لو وافق مرغماً تحت ضغط نذالة الظرف الواقعي) أن ذلك سيكون مؤقتاً فعلاً؟ وفي بنيته النفسية التساؤل المشروع: من سيقنعني أن هؤلاء الضامنين الدوليين لن يبيعونا بعد غدٍ للنظام مقابل صفقةٍ ما؟ ولسوف يكون لشكوكه مشروعيةٌ ملموسة تعتمد على ذاكرتنا خلال عقود، وخاصة في سنوات الموت الأخيرة.

نعم. نحن من بلد سكانه، ومنذ قرابة النصف قرن، لم يعتادوا الكيفية الطبيعية للعيش البشري، فنظام الأسد جعل من التعذيب والإذلال والخوف ثقافة معممة مجتمعياً، ودليلي الشخصي أننا أمام كل ما واجهناه من تعذيب في السجن، ومن قتل وموت في الشوارع، لم نعوِ. ففي سوريا الأسد كان الناس لنصف قرنٍ قد تآخوا مع الرعب والقتل وتعايشوا معه، حتى أنهم كانوا يرون (قبل العام 2011) أن العدالة والحرية والديموقراطية وحق الحياة الكريمة وغيرها من حقوق الإنسان، مطالب تنطوي على الكثير من الترف. وفي كثير من الأحيان قد لا نفهم في مجتمعنا المفردات والمفاهيم التي يتحدث بها باقي سكان الكوكب في هذا السياق. وربما نكون كمواطنين من سوريا تعودنا على لغتنا الخاصة التي نحاور بها كامل مفردات حياتنا الشاذة، لغتنا التي فضحها المواطن الأوروبي بفطرته السليمة وهو يردّ على طبيعة الجحيم السوري، فبأي لغةٍ كان سيحاور واقعنا السوري المخزي سوى بالعواء؟

سيدي، الرجلُ الذي كنتَ في فرع فلسطين نهاية عام 1987، اليوم وبعد ثلاثين عاماً، لو كنتَ ما زلت حيّاً، وحدثَ بمصادفة تشبه المعجزة، أو تشبه ما يحدث في الروايات، أن قرأ أحدهم كلماتي هذه لك، أرجو منك أن تتصل بي. نعم أرجوك، فلدي من باب الفضول ما أسألكَ عنه. أنا لا يعنيني ماذا كان سبب اعتقالك، فقد تكون مهرباً أو صحفياً أو ربما اعتُقِلَت لمجرد تشابه الأسماء، وهذا لا يهم. فقط أريد أن أعرف: لمَ عويت بعد ثلاثة أيام في فرع الأمن السوري؟ وكيف أني، وقد مرَّ عليَّ كل ما مرّ ووصلتُ إلى هذا اليوم، لم أعوِ بعد؟