على المعبر التركي في باب السلامة، لم يفوّت أحدٌ فرصة لانتقاد الواقع الذي نعيش فيه، فضوليون بطبعنا، بعضنا جلس على حقائبه منتظراً الباب الجديد الذي فتحوه لنا خلف المعبر. مجرد النظر إلى الشارع الطويل الذي وقفنا فيه، وتلك الأعداد الكبيرة التي وقفت بانتظار دورها، كان يشعرني بالراحة، ذلك لشعوري أن هناك انتماء خفياً إلى تلك الأرض، على بعد أمتار قليلة.
شابَ المشهد الذي أشعرني بالراحة صوتُ امرأة بدت ودودة بلهجتها الديرية، وهي تنادي على أبنائها، نحن، وتوزع علينا ماءً بارداً بكأسٍ من الألمنيوم في ذاك اليوم الحار من أواخر شهر آب. حين شربتُ الماء نظرتُ في وجه الأم، التي بدأت تشتم رجلاً كان قد ترك أمه على باب المعبر وعاد إلى عمله في مرعش كما قالت أمه، أمه المريضة العجوز التي جلست وحيدة دون معين في هذا الزحام. الطبيعي أن يستاء الجميع من تصرف الابن الذي وصفته المرأة بـ «العاق» وشتمته، ولكن غير الطبيعي هو تحميل الثورة هذا العقوق وتلك الإساءة. بدأت المرأة بالحديث عن زمن ما قبل الثورة، دعت على الثورة والثوار الذين أوصلونا بحسب رأيها إلى هذه الحالة من الذل، نتدافع على معبر صغير بعد أن تركنا بيوتنا وعزّنا وكرامتنا، شكت إلى الله ما حلَّ بها وبنا، كان ينقصها أن تقول «منحبك» ليكتمل المشهد.
تحسستُ الماء البارد الذي شربتُه من يديها، حاولتُ أن أتقيأ، ليس لأنني ثوري بامتياز، ولكني شعرتُ وقتها بالحيف والظلم، وللحظةٍ تشنّجَ جسدي حين فكرت بأن هذا الشعور قد يكون تسرب إلينا جميعاً. أمام هذه الجموع الصامتة، لم يردَّ أحدٌ منا على المرأة، بعضنا اكتفى بهزّ رأسه، آخرون نظروا إلى الباب المغلق بانتظار أن يفتح، أما أنا فطأطأتُ رأسي واكتفيتُ بالتدخين.
الترفيق
حين شاهدتُ من منفاي الرجال والنساء في الحافلات الخضراء التي غدت سمة العام 2017، كنتُ أتساءل في نفسي، ترى أية فكرة ملّحة تسيطر على أذهانهم، بحثتُ عن كلماتهم، فلم أجد شيئاً من الشعرية فيها. الجميع، جميعنا كتاباً ومصورين ومواقع الكترونية، نقلوا الحادثة، تكلّم المهجرون عن الرحلة، عن الوجع والألم الذي عانوه خلال ساعات خروجهم، بعضهم أراد الحديث ولكن الغصة قتلت صوته، نظرات الخذلان رشقوها في وجوهنا، ليحملوا ألمهم وصدى أفكارهم معهم في مكان دفين، حيث لا نحن لنكتبَ وجعهم، ولا هم ليستريحوا من ضجيج ما يعتمل في صدورهم.
حين وصلتُ إلى عفرين، كانت وجوه من رافقوني في المعبر تملأ المكان، في استراحة صغيرة بعد تفييش الهويات الشخصية، جلسنا ننتظر السماح لنا بالخروج إلى الضفة الأخرى، النقود السورية التي صرفتها في مدينة اعزاز كانت كثيرة وبلا قيمة، القطعة التي تحمل رقم 1000 ليرة تشتري سندويشة فلافل وعلبة بيبسي وقنينة ماء، أما القطعة المهترئة التي تحمل رقم 200، فهي ثمن «قداحة يعيدها لك البائع في الاستراحة بحجة عدم وجود فراطة»، وقطعة المئة ليرة اندثرت ربما، فلم تعد صالحة لشراء شيء.
في انتظار الحافلات التي ستنقلنا، كانت القصص متناثرةً على الأحواض التي كانت سابقاً مليئة بالورد، وتحولت إلى منافض سجائر ومكبات لورق سندويش الفلافل. كل اللهجات الحاضرة في المكان كانت قد أتت من أماكن بعيدة، بعضهم قطع الطريق من دير الزور وقراها وآخرون من الرقة، من تحت سيطرة التنظيم وقصف التحالف وقوات سوريا الديموقراطية، آخرون مثلي قطعوا الحدود من تركيا، وبعضنا أتى من الريف الشرقي لمدينة حلب. لم يكن يُسمَح لأحدٍ بالدخول إلى قلب عفرين، والرحلاتُ كانت تمرّ بشوارع محاذية لها للوصول إلى الريف الغربي لحلب أو مدينة إدلب أو إلى مدينة حلب، حيث اقتلع النظام آخر أحلامنا هناك بعد أن سيطر على المدينة.
في الساعة الحادية عشرة صباحاً حُشِرتُ مع أربعة ركاب في سيارة تكسي أجرة، أخذ السائق منا بطاقاتنا الشخصية واحتفظ بها في جيبه الخلفي، لننتظر استكمال الموكب. انتظرنا ساعةً كاملةً بعد أن أخذ السائق مبلغ 4500 ليرة سورية من كل راكب، دفع 2000 ليرة كرسم مرور واحتفظ بالباقي له. السائق الذي كان يجيد العربية، قال إن البطاقات يجب أن تبقى معه حتى نصل إلى نهاية الطريق على الرغم من عدم وجود حواجز، هم يخافون أن تهربَ من الحافلة وتدخلَ إلى المدينة، في بلادك كل الناس زاهدون بك، كلهم يريد الخلاص منك. اكتمل الموكب المؤلف من 50 حافلة منتصف الظهيرة، لتبدأ رحلة الترفيق.
ربما هو الشعور ذاته الذي كنتُ قد رأيته قبلاً على شاشات التلفاز، الفارقُ الوحيد ربما أنكَ لن تستطيع رفع إشارة النصر كما فعل بعض الذين استقلّوا الحافلات الخضراء، على من ستنتصر هنا؟!
الشوارع الفارغة إلا من بعض البيوت، وبعض الأشخاص الذين يجلسون على الطرقات يراقبون موكب الترفيق. المضحك أني للحظةٍ شعرتُ بأنا أناسٌ مهمون، لأن المرافقة كانت ترتبط في ذهني دائماً بموكب الرئيس والمسؤولين، أما أنا والشباب الأربعة الذين رافقوني في سيارة التكسي فقد كنا فقراء يدفعنا الحنين أو الهرب من قدر تركناه وراءنا. هم الهاربون من تنظيم الدولة لم يكفّوا عن التدخين والصمت، وأنا الذي كنتُ أبحثُ في ذاكرتي وما قرأتُ سابقاً عن توصيف حقيقي لذلك الشعور الذي يمنع أحدنا من التوقف للتبول، وإن حدث ذلك فسيقفُ موكبنا الطويل وسيارات المرافقة ودراجات القوات الكردية لرؤيتك، كم سيضحكُ الصغار، وكم ستنالُ أنت من شتائم الكبار؟
كان الشعور مبهماً، حاولت أن أستعير قشعريرةً ما أو لحظة بكاء تريحني، ولكن الغبار الذي ملأ السيارة في الشارع الترابي، والذي اختلط بدخان السجائر الخمسة التي لا تنطفئ، أثار موجة من العطاس قضت على لحظات الحزن.
حين مررنا من كفرجنة معقل معسكرات طلائع البعث، وجدتُ ضالتي، وبدا عزيزاً عليَّ ذلك الوقتُ الذي أمضيناه باللعب والضحك حين كنا نرتدي قمصانا صفراء رُسِمت عليها خريطة الوطن العربي بالأخضر، وفولاراً بـ «جوزة» رُسِمَ عليها القائد الخالد، والكثير من الشعارات التي توحي بأنك لبنة في بناء وطن يعنى بالمواطنة، ويعرف المواطن فيه حقوقه وواجباته، قبل أن يتحول نصف رفقاء دربي إلى معتقلين وشهداء ومنفيين، ونصفهم الآخر إلى شبيحة ورجال سلطة. اختزنتُ المشهد، وكل ما خطر في بالي أن كان أرسل رسالة إلى علي بهلول الذي لا أعرفه، ولكني أردتُ أن أخبره أن التبغ لم يعد يكفي للمرور.
لافتات
حين وصلتُ إلى الضفة الأخرى ونزلتُ من السيارة، استعدتُ بطاقتي الشخصية ونظرتُ في المرآة الأمامية لأصلح هندامي، كانت هالةٌ سوداء قد ارتسمت تحت عيني، وبدا وجهي نحيلاً جداً هذه المرة. أردتُ ألّا أفكر في الطريق، وأن أستسلم للنوم حتى وصولي إلى قريتي في جبل الزاوية. بدت الطرقات ضيقة جداً وكأن المدينة تلفظُ أنفاسها، والشوارع شبه خالية. استشعرتُ ذلك وأنا مغمض العينين، فلا رائحة للبنزين المكرر محلياً تعبق في رئتيك، ولا أصوات «الزمامير» والدراجات النارية لتوقظ جفنيك. أمام هذا الهدوء فتحتُ عيني لأجد حاجزاً أمامي عند الخروج من مدينة سرمدا، وكل ما أذكره سابقاً منذ أشهر قليلة مضت، أنه كان حاجزاً لهيئة تحرير الشام، وحجارته مطلية باللون الأسود، والآن تم استبدال الأسود بالأخضر، قلت: «ينقصه ثلاث نجمات حمراء ويتحول إلى ثورة». كان السائق يحمل سيجارة لم يطفئها، فدهشتُ أيضاً، ولولا أني كنت أتابع نشرات الأخبار عن كثب، وأعرف أن هيئة تحرير الشام قد سيطرت على معظم القرى والمدن في محافظة إدلب وريف حلب الغربي بعد أن أنهت حركة أحرار الشام في المنطقة، لقلتُ إنني قد أضعتُ الطريق، تخيلتُ أن على الجميع أن يتركوا لحاهم مقدار قبضة تحت الذقن، وأن يرتدوا العمائم ويزروا ياقات القمصان، أما أن يكون مشهدي الأول ألواناً خضراء ودخّان، فذلك لم يكن في حسباني. لم يوقفنا الحاجز، ولم يسألنا عن وجهتنا، ما أوقفني حقيقةً كان تلك اللافتة السوداء التي تبعد مئات الأمتار عن الحاجز، تلمعُ تحت أشعة الشمس ومكتوبٌ عليها بدهان أبيض وبخط رقعة مريح للعين: «الديمقراطية دين الغرب».
اللافتات جزءٌ من جمالية المدن، كثيراً ما كنت أتمتع بألوانها الزاهية ورسوماتها الجميلة في شوارع حلب، أمارسُ هوايتي في قراءتها وتصحيح بعض أخطاء الهمزات عليها، أحاولُ تمييز نوع الخط المرسوم فيها، واقرأُ أرقام الهواتف المسجلة، أعرفُ أذواق أصحاب المحال التجارية من خلال الألوان المستخدمة على «القارمة»، وأعرف كرمهم من خلال طبيعة الضوء المستخدم وعدد المصابيح فيها، وتلك الأزرار الصغيرة التي ملأت حلب لتومض بشكل دوري يغريك بالانتباه.
قفزَ في ذهني ديوان «لافتات» لأحمد مطر، وكم كانت تشجيني إسقاطاته حين كنتُ أتنفس خوفي من خلال كلماته. وأيضاً الشعارات التي كُتِبَت على الجدران منذ بداية الثورة كلافتات للتعبير عن الظلم والثورة، الرجل البخاخ ورسومات الإعلامي المرح على الجدران المهدمة.
قبل أن أصحو من محبتي لقراءة اللافتات القديمة عاجلتني لافتة أخرى لها اللون والحجم نفسهما، والخط القديم نفسه أيضاً، كُتِبَ عليها: «رجولة الرجل تكتمل في لحيته»، تلمّستُ ذقني الحليقة وتلفتُّ حولي كي أخفي عيب ما ارتكبته حين حلقتها، ضِعتُ في المقعد الخلفي للسيارة، ولكن الفضول ووقع الجملة الأولى شدّاني لمتابعة كل اللافتات على الطريق. ما الذي تعنيه تلك الجملة؟ وما الذي أراده كاتبها أو كُتّابها؟ وماذا يعني دين الغرب؟
على طرفي الطريق بعد مدينة سرمدا احتلت لافتتان شارع الذهاب والإياب، كانت العبارة هذه المرة «الديمقراطية هُبَل العصر» و«الديمقراطية صنم العصر». ما الفارق بين هُبَل والصنم؟ ألم يكن هُبَل واحداً من الأصنام يعبده الناس في قريش ويحلفون باسمه ويتقربون إليه؟ ثم كيف تكون الديموقراطية كمنهج تشبه ذلك الصنم الذي لم أقرأ له أية أحكام أو تشريعات، بل كان حجراً أو تمراً يأكله الناس حين يجوعون، هل سيأكل الناسُ الديموقراطية حين يعضّهم الجوع، الجوع الذي ملأ الطرقات، حين تتصدر لافتة أخرى معلنةً: 500 ليرة سورية ثمن كيلوغرام واحد من الدراق.
هي قصة ممنهجة إذن، وعليَّ أن أتابع القصة الخبرية المصورة حتى النهاية، هذه المرة كانت «السوشيال ميديا» هي الطريقة التعبيرية الجديدة لنقل الأفكار، فهل تخلّى الحكام الجدد عن منابر المساجد وسيارات الحسبة واكتفوا باللوحات الطرقية، ألا يُعدُّ ذلك ديموقراطية؟ قلتُ في نفسي.
في الطريق كانت هناك لافتات أخرى مكتوبة بخط اليد لتدل على بائعي المازوت والبنزين، بخط سيء ولغة ركيكة، وبعضها كان يدل على مناشر للحجر أو بائع لقهوة الاكسبريس، كل اللوحات الطرقية التي كانت تدل على القرى والمسافات المقطوعة، والتي طالما كانت رفيقة رحلاتنا من حلب إلى دمشق مبينة عدد الكيلومترات المتبقية، طُليت باللون الأسود لإكمال المشهد، أو للوصول إلى «البقبق»، تلك اللعبة القديمة التي كانت غايتها عدم الوصول إلى نتيجة. أمِلتُ ألّا يكون ذلك، فقد أردتُ فعلاً أن أصل إلى نتيجة حقيقية من خلال هذه اللافتات.
بدأت التشريعات على اللافتات مجدداً منذ خروج السيارة من مدينة سراقب، بلافتةٍ كُتِبَ عليها: «الديمقراطية تصوت على الإسلام»، سراقب التي كانت قد شهدت انتخابات ديموقراطية قبل شهرين، كتجربة رائدة في الوصول إلى المجلس المحلي، لم تكتمل تلك الفرحة فيها بعد أن سيطرت هيئة تحرير الشام على المدينة، ثم خرجت بعد أن قتلت أحد ناشطيها المدنيين واعتقلت عناصر من حركة أحرار الشام، واشترطت إلغاء العمل بالقانون العربي الموحد في محكمتها على ما تواتر قوله بين أبناء المنطقة. هل تحتمل العبارة المكتوبة على اللافتة كل ما خطر في بالي من أفكار؟!!
«الديمقراطية تبيح الربا»، «الديمقراطية تبيح الزنا»، حاولت جاهداً أن أربط بين الربا والزنا، بهذا الجناس الناقص، ومفهوم الديموقراطية الذي أعرفه، فلم أجد رابطاً بينهما سوى أن «إخوانكم المجاهدون» قد ذيلوا كل لافتة كي تبدو كرسائل واضحة منهم لنا، نحن المارقون الكافرون الديموقراطيون. سيعرّفون لنا الديموقراطية بتعريفات جديدة، أغرتني للوصول إليها وخفتُ أن ينتهي طريقي قبل أن أصل.
لم يخلُ الطريق من لافتات لم تُنسَب صراحة إلى الديموقراطية كـ «الاختلاط حرام»، «التدخين حرام»، «حلق اللحية حرام»، «التبرج حرام» وإن لم تتعدَ تلك المحرمات الأربعة سوى في مرات قليلة إلى لافتات كتب عليها «العلمانية كفر». كنتُ أنتظرُ لافتات ربما ستأتي لاحقاً كما قرأت في رواية ألف شمس مشرقة عن حكومة الطالبان في أفغانستان، عن تحريم كتابة الكتب ومشاهدة الأفلام ورسم اللوحات ولعبة الشطرنج وخروج النساء من البيت والضحك وطلاء الأظافر إلى آخر القائمة، وإن كانت الرواية لم تذكر أن قائمة الممنوعات كُتِبَت على لافتات كما هي الحال اليوم هنا. عند الوصول إلى مدخل معرة النعمان، تتالت اللوحات بشكل كثيف مكررةً كل الجمل السابقة، لتأتيك اللوحة الأخيرة في مدخل المدينة: «الديمقراطية فصل الدين عن الدولة». الحقيقة أني لم أنتظر هذه الجملة لتكون نهايةَ رحلتي، تخيلتُ أن أقفَ على تعريف جديد للديموقراطية ليس مطروقاً من قبل على الأقل، أو ألّا يستخدم الحكام الجدد «كلمات الكفار» في جملهم للتعريف بما انتقدوه في لافتاتهم.
في معرة النعمان بدا المشهد مختلفاً جداً، كانت أعلام الثورة تملأ الجدران، ولافتات النصر وإسقاط النظام هي الوحيدة الباقية. على دراجة نارية خلف أحد أقربائي الذي أتى لاصطحابي إلى القرية، قال لي: «كنا معهم دائماً، الآن كل شيء انتهى»، بعدها لم أُعِر انتباهاً للافتات المكررة على جوانب الطريق، فالرسالة لم تصل من خلالها.