أبصرَ كتاب فلاحو سوريا، للباحث حنّا بطاطو، النورَ بترجمته العربية أواخر عام 2014، أي بعد قرابة 15 عاماً من صدوره بالإنكليزية. وقبل سوريا وفلاحيها كان لبطاطو اهتمامٌ بالعراق وطبقاته الاجتماعية، وذلك من خلال كتابين: الأوّل حمل عنوان العراق، ركّز على الطبقات الاجتماعية منذ العهد العثماني وحتى قيام الجمهورية، أمّا الثاني فحملَ عنوان الحزب الشيوعي. عمل بطاطو على ما يمكن تسميته ببيان وتبيين أحوال الفلاحة والفلاحين، سواء على الصعيد الأكاديمي أو التقصّي الميداني والشفوي، بيد أنّ جانباً فولكلورياً ظلّت تتحاشاه الرصانة الأكاديمية في هذه الكتب الثلاثة، وبقيت تهتمّ بجدليّة الاقتصاد والسياسة، فحسب.

هنا، في هذه المادّة، محاولةٌ لرصد أغاني الفرح الفلاحي، انطلاقاً من مستوياتها الشعبية، وعلاقة التأثّر التي تعيشها الأغنية، ليس فقط مع وصول أبناء الوجهاء الأقل شأناً إلى السلطة، كما حدث في أواسط القرن الماضي، بل لأننا اليوم وبعد عام 2011 الثوري، نعيشُ شكلاً من أشكال الانتفاضات الفلاحيّة، كان لشعب الريف فيها توزّعاتٌ سياسية خطيرة، إذ حاولت القوى السياسية المتصارعة دفع الريف إلى جانبها بأيّ ثمن.

لكن قبل البدء، لا بدَّ من عرض بعض المشكلات، منها مثلاً: السؤال إذا كان يختصرُ العرس/الفرح كلَّ أغاني الفلّاح؟ وهل للفلاح أغنيةٌ خارج العرس؟ بالتأكيد إنّ الفلاح في بلادنا أشدُّ ما خضع في النصف الثاني من القرن العشرين لسياسات الدولة الوطنية، بمؤسساتها وقوانينها، وهذا ساهم أكثر في توطينه، وعزّزَ فُرَصَ استقراره مقارنة بحاله في النُّظّم «المقاطعجية» التي كانت سائدة في العهد العثماني وأوائل القرن العشرين. إذن مع التوطين والاستقرار جاء التخلي عن جزء من منظومة قيمية عند الفلاح العراقي والشامي، حتى كدنا نجد ارتباطه بالأرض ينقص، مقابل ارتباطه بالدولة أو بالأحرى الوظيفة في الدولة، خاصّة عندما لبّت هذه الدولة طموحاتِه القَـبَليّة لا انتماءاتِه الوطنية. هنا أصبح الفلاح متعطّلاً فلم يعد بحاجة لـ «دفع الصائل» من الأقوام البدويّة وحراسة منتوجه والدفاع عنه، بعد قيام دولةٍ مركزيةٍ تحتكرُ العنف والقوة كنموذجي البعث، الصدامي والأسدي المرعبين.

مع الوقت ودخول عالم الألفية والتكنولوجيا تعزّزَ الارتباط السابق لدرجة تحوّلَ فيها المُغني الفلاحي إلى مغني «ماين ستريم» تتردد أغانيه في حانات وسط البلد البرجوازية، وتتهافت عليه شركات الإنتاج الكبرى لتروّج له، وهو بدوره يحرص على مجاراة الموضة بكل معانيها الكونية سواء من حيث الأزياء أو عمليات التجميل، خير مثال على هذا هو الانتشار الواسع والمبتذل لأغاني الساحل السوري السلطوية أو النيوــ ريفية، إن صحّ التعبير.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ اختيار العرس وأغانيه كنموذج، لا يأتي من قبيل التغني الرومانسي بعيشة الفلاح، أو حسب نظرة الزمن الجميل للفلاحين على اعتبارهم يحبّون الحياة في جوهرهم وبالضرورة! على طريقة محلاها عيشة الفلاح. كما لا يمكن التسليم في المقابل بثنائية الريف الوادع المطمئن، والمدنيّة الشريرة. وعليه يكون السبب في التركيز على أغاني العرس؛ هو أن الدولة الحديثة على علّاتها وقصورها، لم تُبقِ للفلّاح مجالاً يتغنّى به، ولا حروباً يحدو العيس والخيول المطهّمة فيها، إلا بما يخدم توجّهات رأس الدولة في ضرب العناصر المجتمعية ببعضها بعضاً. نعم استيقظ فلاحُ بلادنا الشرس يوماً فوجد أنّ أظافره قُلِّمَت، وأنّه لم يعد بإمكانه أن يكون سيّد حروبه العتيقة، فما البديل وما العمل؟ هنا ظهر العرس بوصفه مسرحاً فحولياً يلبّي بعضاً من انتصابات سلطته الهشّة، ويمدُّه بعصبية مؤسَّسة على تحالفات الدم والمني، في دولة الحزب الواحد، القاهر لكل سياسة واجتماع.

المشكلة الثانية هي مشكلةٌ ذاتيّة موسيقيّة، على عكس المشكلة الأولى، فالرتابة على مستوى المفردات والمعاني، والتماثل لدرجة الإملال في البنى اللحنية الفولكلورية، تحدُّ كثيراً مما يمكن أن تقوله أغنية العرس الفلاحي؛ فمثلاً إنّ أغنية الجزيرة السورية لا يمكن فصلُها عن امتداداتها العراقية، كما أنّ أغنية حوران لا تختلف فيها الذاتُ الجبليّة المتغنّية، عن نظيرتها في السهل وصولاً لشمالي فلسطين والأردن وليس سوريا فقط. ولا يخفى أنّ هذه الذوات (القبليّة والطائفية) تغمز بعضها من باب الطروء والعراقة، وأيهما أكثر تطابقاً مع نسختها المثالية، إذ غالباً ما تتكرر كلمة جنة في تغنياتها، حوراني حوراني جنة. أمّا إذا أرادت هذه الذوات أن تتصالح، فعندها تنظر لآخَرها كامتداد أو تابع لها، فتعود لتنشئ علاقات النّسب والمصاهرة بينها، كأفضل تقنية فلاحيّة للصلح، وقُل الشيءَ نفسه عن سائر الحساسيّات البينيّة في وادي العاصي، أو الفرات ودجلة.

من بنات لجوادي حنّا خَذينا

نال المغني الحوراني أحمد القسيم شهرته مؤخراً لأسباب سياسيّة، فبعد أنْ كانت معرفتُه حكراً على أهالي مدينته درعا؛ من خلال إحيائه لحفلات الأعراس في حدود المدينة الصغيرة، جاء تعاونُه الفني مع الملحن وائل القاق، أسطوانة نشامى: أغاني من الثورة السورية، ليوسّع شهرته على نطاق مختلف. اسمُ القسيم الذي كان ملازماً للأفراح والمناسبات، صار يرتبط بالانتفاضة السورية بعد أغنية عيني عليها التي حققّت نجاحاً باهراً لكلا الاسمين: القسيم كمغني شعبي، والقاق كملحن وموزّع شاب انتمى لهذه الانتفاضة.

لم يجد القاق بوصفه فنانا أيّ تعبير عن التزامه أصدقَ من التعاون الفني مع عازف الربابة شادي أبازيد، وأحمد القسيم، ابني درعا المدينة التي انطلقت منها الشرارة الأولى لانتفاضة السوريين. ازداد تألق القسيم وانتشر اسمه، وهو المغني الشعبي، في أوساط الموسيقى الحديثة والنخبوية، بسبب موقفه المعارض للنظام السوري. لكن للقسيمِ شهرتُه الأقدم، والتي يعيها صاحبُها من خارج الإضافات المثقّفة وتأويلاتها، فهو أوّلاً وآخراً، أشهر من أدّى أغنية الفرح الأساسية في حوران: دار داعتنا ع الفرح، واجب علينا نزورها. في هذه الأغنية تتلخّص كلّ القيم الفلاحيّة انطلاقاً من دعوة أبو رامي (أو أي «أبو» ثانية، قد تتغير حسب اسم المضيف) للضيوف على عرس ابنه، وكيف لبّى المعازيم الدعوة وعلى رأسهم القسيم الذي يشرع بالتحدّث باسمهم، ثم يوضّح الكيفية التي يتم اختيار العروس فيها، والمناقب العائلية بين الأسرتين، ثم يناجي شجرة الليمون كي تظلّل العريس رامي الفلاح، حسب وصف الأغنية له… إلخ.

يبقى السؤال، هل عاش المغني الشعبي (كالقسيم) تحوّلاً أو انقلاباً بين زمنين، زمن الأفراح قبل 2011، وزمن الانتفاضة بعدها؟ على العكس تماماً، إنّ أغنية العرس بدأت تستعيد أشياءها من أغنية الحرب الكامنة فيها بالقوة، بل إنّ العرس بحدّ ذاته صار أكثر التباساً بالقيمة المعنوية والرمزيّة، فالعرس/الثورة، والعريس/الشهيد، مؤذنة بانتهاء الزمن العربي الراكد. فدخول الفلاح على خط النار مع الدولة، واستحضار المواجهة المسلحة معها، رفع حماسة أغنية العرس عند القسيم، التي تختلط فيها، لعلعةُ الرجال الذكور، بأصوات الطّخ، ومناظر الدم.

خلقت دورة الاقتصاد المرتبط بالأرض، عزلةً جغرافيّة وفكرية عند الفلاح، ولطالما تمّت السخرية أو التحذير منها على ألسنة أدباء ومفكرين، لكن في العراق والشام يبدو الأمر مُركبّاً، فالفلاح في بلداننا لم يعد منتمياً للقبيلة فقط، وصار يمتزج وعيُه القبلي بموقعه الطائفي؛ لسبب أنّ الإقليم يشهد أعتى صراع دولي في التاريخ الراهن، وفي سبيل إذكاء الصراع يتمّ توسّل كلَّ الخطابات الهوياتية الضيقة التي تزيّف للفلاح وعيه وانتماءه الطبقي، وتحوّله إلى مقاتل طائفي يتمترس بالضد من فلاحين آخرين، فقط لأنهم من طوائف وملل أخرى. انعكس هذا على أغاني الفلاح التي لم تعد متخمة بالعوامل القبليّة؛ مع اختراق الريف من قبل التيارات الدينية والطائفية، وبذلك صار الصدى والامتداد لرموز الأغنية يتردد أبعد من الجغرافيا، فصدّام حسين مثلاً لا يظهر في أعراس الجزيرة السورية الأقرب جغرافياً إلى العراق فقط، بل يظهر أيضاً في أعراس شمالي الأردن التي يحييها المغني الحوراني أحمد القسيم ويخصّ الرئيس «الشهيد» بموال شجي. أمّا بشار الأسد، فبالرغم من أنّ أحداً لم يشاهده يوماً بزي الفلاحين، سوى بعض مثابراته السنوية كعيد الشجرة مثلاً، لكنّه يحضر بقوّة على لسان الأقوام الفلاحيّة من الأقليّات الطائفية، والذين يعبّر عنهم مغنون فلاحيون كُثر، منهم على سبيل المثال لؤي العقباني.

ينتمي المغني العقباني، الذي لا تفارقه ربابته أينما حلّ، إلى زمن يعجّ بالثورات التي خاضها قومه فلاحو جبل حوران (الدروز)، المشكلة الوحيدة لهذه الثورات الكثيرة هي أنّ كلها قابعٌ في الماضي، فشيءٌ ضد الأتراك، وأغلبها ضد الفرنسيين، ولا شيء منها ضد «سيادة الرئيس»، الذي أنشد له هذا المغني الفلاحي كثيراً من المدائح. وكما أنّ شهرة القسيم اقتحمت الدوائر النخبوية من خلال السياسة، فإنّ الشيء نفسه ينطبق على العقباني، الذي تمّ استدعاء أغنيته يا محلا شنّة الغارة من قبل نُخب عربية وفلسطينية رأت البشرى في أغنيته تلك، خاصة عندما يصل إلى قوله «وأعلامي الصهيوني منتكسي». بذلك نجد أنّ المغني الشعبي أيّاً كان اسمه، لا يتوقّف استدعاؤه على جماعته الفلاحية فحسب، بل إنّ الخزّان الدلالي الذي يستخدمه يستهوي النُّخَب الثقافية من حوله، ولا تلبث أن تَخلع عليه عباءات فضفاضة، لا تختلف كثيراً عن الحماسة الأولى التي انبثق عنها. مع العلم أنّه خارج هذه الإضافات تبقى للمغني مكانته، فالعقباني مثلاً اشتهر بحبّه للعريس «عريس الزين شوبتؤمر ياخيي، من لؤي اسمع هالغنيّة» وسهره على راحته حتى الصباح، وأنه يهديه صوتَه وجرّة قوسه وربابته، وما إلى ذلك من قيم الخير والحب الريفي المبتذل. لكنّ زمن الانقلابات لا يترك أحداً بحاله فسرعان ما يتحوّل مغني العرس الشعبي إلى مغنٍ للعرس الوطني، الشهيدة فيه هي سوريا، و«الذّكر» الوحيد المنوطة به مهمة الإنقاذ هو «سيّد الوطن»، لتجده يغني حيّوا سوريا وحيّوا بشار الأسد.

الأعراس كلّها بلون الدم

إذا صار الزمن السوري يُقسَم بين ما قبل 2011 وما بعدها، وأثر ذلك على السياسة والثقافة، ومن جملتها الموسيقى بتدرجاتها المختلفة، فإنّ الزمن العراقي بالمقابل كان أكثر تعقيداً، فمن جهة أولى حروب صدّام التي لا تنتهي، ومن جهة ثانية الاحتلال الأمريكي للعراق وانهيار الدولة فيه، ثم الاقتتال الأهلي الدامي الذي يعدّ العامل الأساس في ظهور ما يسمى الدولة الإسلامية لاحقاً. هذه العوامل خلقت عدّة مراحل مختلفة بمعانيها، لكن الأهم في هذا كله، هو كيف انعكس على أغنية الفلاح في عرسه؟

أنت الآن في هور الجبايش في سبعينات القرن الماضي، والهور مفرد أهوار، وهي مساحات مائية غير عميقة تمتد في مناطق جنوبيّ العراق، تتلخّص مهمّة الفلاح فيها بكسح قيعانها كي لا تتجمع المجروفات الملحية لنهري دجلة والفرات. يفصح المشهد عن شيء فريد، زفة مائية، فبدلاً من أرتال السيارات التي تزفّ العريس وتنقله مع عروسه إلى مكان الاحتفال. يجتمع فلاحو الأهوار في قارب كبير، تتولّى فيه النسوة التجديف والأهازيج، ولا يبدو في المقطع ظهور أي آلة موسيقية رديفة لغناء النسوة سوى قرعِ إحداهن على تنكة كبيرة. ستبتلع الحرب الإيرانية العراقية هذا الشكل من الفرح سريعاً، وسيظهر العرس بما هو زفّة من أجل الموت، لا من أجل الحياة، لتحدّثنا الأغاني عن الأمّ التي تجهّز ابنها للشهادة، وتترسّخ طويلاً صورة العرس الجنائزي. في هذا الجو التعبوي ستنمو فِـرقُ الغناء ببُعْدها الوطني الريفي، مثل فرقة الريف صاحبة الأغنية الشهيرة عرس الكاع. لكن شخصية صدام التي تجمع الشمولية بالسخرية الهمجية ذات الدم الثقيل، لن تدع الكآبة تلازم المشهد، أو ترتبط به كلياً، دون أن تضفي مسحتها الغليظة الخاصة بها، ومن هنا يأتي الظهور المتكرر لصدام في أعراس الفلاحين وهو يمسك أيديهم ويصطف معهم في حلقات الدبكة فيشاطرهم الغناء وإطلاق النار. هذا الحضور الأبوي أكثر ما يُذكّر، وإنْ بشكل غير مباشر، بعادات القَبليّين الذين كانوا يعبدون الجد الأعلى، ويفردون له مهمة افتضاض العرائس حتى قبل أن يمسّهن أزواجهن.

بعد غزو العراق واحتلاله، بدأ زمن آخر من أغاني التعبئة بطبعتها الطائفية الضيقة هذه المرة، وتمّ تحييد المغني الشعبي في الأعراس إمّا لصالح الرادود الديني، الذي ينشد أغاني كئيبة وحزينة، أو عدم ظهور كلي لملامح وتفاصيل واضحة عن الشكل البديل للمغني الشعبي، خاصة مع هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات من البلاد، واكتناف الغموض طبيعة ما يمكن أن تكون عليه أغاني الفرح في مناطق سيطرته، بعيداً عن الأساطير والخرافات الجنسية التي يتم تناقلها عن التنظيم، كإصداره فتوى بتحجيب أثداء البقر، الحيوان الأكثر ارتباطاً بحياة أي فلاح!

يبقى أن هناك عدّة مظاهر ليس من الصعب ملاحظتها طرأت على أغاني العرس الفلاحي العراقي اليوم:

1- طمس التراث الغنائي الفولكلوري في مناطق سيطرة تنظيم الدولة، كمدينة الأنبار المشهورة بالجوبي وردح الأعراس، ومدينة الموصل المعروفة بلونها الغنائي المصلاوي وأغنية اليردلي الشهيرة، التي تتصل بالأعراس بشكل مباشر، وهي أغنية غناها فنانون مشهورون ككاظم الساهر وسعدون جابر وابراهيم كيفو. وحكاية اليردلي لطيفة، تتكلّم عن قصة حب لم تكلل بالزواج، إمّا بين مسلم ومسيحية، أو بروايات أخرى بين غنية وفقير، والـ (يارـ دلي) تعني بالتركية الفتاة المدللة.

2- عودة صدام للظهور في الأعراس ليس بشخصه هذه المرة إنما بمواويل الترحّم على فحولة ضائعة، وهذا لا يقتصر على العراق بل توسع ليظهر مرّة في أعراس حوران السورية، ومرات في شمالي الأردن، نزولاً إلى الشواطئ الغزاوية.

3- انحسار التعبئة الوطنية القديمة لصالح المرثية الوطنية السطحية، التي تبكي الوطن العراقي، وتستنكر حال الاقتتال الأهلي السني الشيعي، مع الحفاظ على مسافة التوعّد والمواجهة مع الدواعش. أكثر من يعبر عنها الشعراء والمغنون الشعبيون أمثال كاطع المياحي ونعيم العراقي.

خاتمة

بين وصول الفلاحين وأبناء وجهائهم الأقل شأناً إلى سلطة العراق وسوريا، في أواسط القرن الماضي، وبين دخول عالم الألفية الثالثة وصخبها التكنولوجي، ثمّ اشتعال الانتفاضات في سنة الأحلام الخطيرة 2011، تبدّدَ كثيرٌ من الموروث الفلاحي العتيق، ومن جملته أغاني عرسه، لكنّ هذه الفئة الاجتماعية ظلّت محتفظة بحيوية ما، من قبيل التقاطها للتغيرات السياسية في المنطقة وتفاعلها معها، مقارنة مع أعراس الطبقات الوسطى المدينية التي تتقاطع أحياناً مع الريف بانكفائها على ذاتها، وبالفصل الجندري لحضورها، والإملال في معانيها الرتيبة مثل (عراضة العرس الشامي والحلبي). في حين يبدو الحال متنوّعاً مع الطبقات الوسطى الأكثر انفتاحاً، التي تحضر في أعراسها أغاني «الماين ستريم» بقوة، ابتداءً من أغنية فريد الأطرش العريقة دقوا المزاهر، وصولاً لأشهر أغاني ماجدة الرومي طلي بالأبيض، ولا ننسى الأغنية الشهيرة، الله بالخير، لصاحبة الحضور المنسي مايا يزبك.

لكن مهلاً فالتنوع قد يكون مجرّد خلطة برجوازية سخيفة للإقليمين معاً، عندها لا تخرج قبل أن يحدّثك اليوتيوب عن عرس لعراقيين في المهجر الاسكندنافي أحياه حسين الديك.