وقفنا ننتظر وصول المدنيين الهاربين من موتٍ يلاحق كلَّ من بقي داخل مدينة الرقة، في معركة لم ترحم أحداً، ولم يُراعَ فيها أي ميثاق دولي أو إنساني. كان عدد الواصلين نحو 80 ناجياً، أخذوا يصرخون «لقد نجونا من الموت، هربنا من هؤلاء الوحوش». كانوا يقولون إن الحياة هناك انتهت تماماً، وإنهم منذ أكثر من شهرين يقاومون الموت على أمل النجاة. الجميع كانوا يتحدثون عن هول الكارثة داخل المدينة، وبعد أن انتهت عملية تفتيشهم والتدقيق في أوراقهم الشخصية في إجراءٍ استغرق عدة ساعات، أخذت كل عائلة تلملمُ نفسها وتتساءل: «إلى أين سنذهب؟».

رافقتُ إحدى العائلات، لينتهي بنا المسير عند إحدى القرى القريبة، وبعد أن ارتاحوا قليلاً، بدأت إحدى الناجيات في التوجه بالحديث إلينا عمّا حلَّ بهم منذ شهرين، وحتى لحظة وصولهم إلى برّ الأمان. تقول السيدة:

كنّا نسكن في منزلنا الكائن شرقي المدينة في شارع أبو الهيس، كانت المعارك على أشدِّها بالقرب من المنطقة الصناعية، والطائرات لا تتوقف أبداً، والقذائف تتطاير في كل مكان، ورغم أن الموت كان يلاحقنا في كل مكان، لم نكن نفكر بالخروج من منزلنا رغم أنه يقع في الطابق الرابع، ولكن «تنظيم الدولة الإسلامية» لم يترك حتى المباني من شرّه، وأخذ يستخدم أسطحتها لإطلاق طائراته الصغيرة التي تحمل صاروخين صغيرين، مع علمه أن طيران التحالف يرصد مصادر إطلاق الطائرات الصغيرة، ويقوم بتدمير المكان الذي تصدر منه.

وبالفعل ردت طائرات التحالف الدولي على البناء المجاور لمنزلنا وقصفته، فقُتِلَ على الفور ثلاثة رجال ممن كانوا يقطنون بداخله، وتقطعت أوصالهم وتناثرت بين الأنقاض. رأيتهم بأم عيني وهم مقطعو الأوصال، كذلك رأيت أحد أبناء ذلك الرجل الذي قتل، وقد أخذ يرفع أحشاء والده، ويصرخ: «هذا أبي… هذه أحشاء أبي، لقد أصبح قطعاً متناثرة»، ثمَّ حمل رأس أبيه بين يديه وقد أصابته حالة من الهستيريا. أخذ يصرخ في وجه عناصر التنظيم الذين لم يهتموا للأمر، بل راحوا يجابهون صرخاته باستهانة واستصغار، ويرددون على مسامعه بتشفٍ: «أنتم جبناء، ولذلك تُقتَلون… لأنكم جبناء، ولأنكم تختبئون كالجرذان… بينما نحن لأننا مؤمنون بالله وندافع عن ديننا، لا نُقتَل».

تلك الحادثة جعلتنا نلملم حاجاتنا الضرورية جداً، والتي نستطيع حملها سريعاً، ونهرب من منزلنا إلى ملجأ بالقرب من مدرسة بلقيس. كان فيه خمس عائلات أخرى سوانا، وشرعنا فور وصولنا في محاولة التأقلم هناك على حياة مختلفة عن حياتنا داخل منزلنا الذي غادرناه إلى الأبد، ولقد أكدت لنا الأخبار التالية أن المنزل قد تم تدميره بالكامل لاحقاً.

رغم العدد الكبير المتواجد في الملجأ، كنّا نحاول أن نخفف عن أنفسنا، ونُمَنّي النفس بأمل قريب، وبأننا سنبقى أحياء ونتجاوز هذه المحنة. وقتها بدأت تزداد علينا أعباء الحياة الجديدة التي لم نكن قد تحضّرنا لها، فالقصف لا يتوقف من الجو والأرض على حدٍ سواء، وتأمين الطعام والخبز والماء بالغ الصعوبة. كنا نشتري الماء للشرب فقط، ونتزود بمياه آبار غير صالحة للشرب كان قد سبق لـ «تنظيم الدولة» أن قام بحفرها من قبل، وعمدت قوات التحالف إلى تدمير معظمها، أما ما تبقى منها فقد كان التنظيم يحتكرها لعناصره وأتباعه، وأحياناً كان يحدث عقب إلحاح متكرر منا، وبعد عويل وصراخ بعض العجائز، أن يسمحوا لنا بتعبئة برميل منها أو قليلٍ من الأوعية. رغم ذلك كانت الحياة تسير، وظلت على هذا النحو تسير، لكن القصف تركز على الملجأ، وقد انتهى إلى تدمير الطابقين العلويين، فهربنا خوفاً من مواجهة الموت داخله إلى منزل أحد أقربائنا الواقع بين شارع تل أبيض والأماسي، الذي كان يحتوي على ملجأ هو الآخر، وأهله كانوا قد جهزوا كل شيء فيه تحسباً لحصار محتمل.

كان هناك صعوبة في العثور على وسيلة نقل داخل المدينة، وثمة مخاوف تتنازعنا من قصف أي شيء متحرك، وأخيراً خرجنا إلى الملجأ الآخر وكأننا ننتقل من مدينة إلى أخرى. الطريق طويل جداً رغم قصره، وبعض الجثث ملقاة في الشوارع، والدمار حلّ في كل مكان. وصلنا إلى منزل خالتي، وكان فيه عدد من النازحين وعائلة خالتي الكبيرة، وكان المكان لا يتسع لمثل هذا العدد، ولكن لا أحد يملك خياراً آخراً أفضل، وليس أمامنا سوى البقاء معهم رغم الازدحام الكثيف، ورغم عدد الرجال الكبير، فقد أجبرنا على أن ننحشر معاً جميعاً، رجالاً ونساءً. المرأة دائماً لها خصوصياتها التي لا تستطيع الاستغناء عنها، وهي تخجل من كل شيء، ولكن في تلك اللحظات كانت هذه الخصوصية قد تلاشت. أصبحت طبيعة الأشياء عادية بالنسبة للجميع، فقد كنا نستلقي ونغطي أنفسنا بأي شرشف مما نحمله، ونحن، رجالاً ونساءً، محشورون في مكان واحد. نخرج أمام بعضنا أثناء الذهاب إلى الحمام، ولا يتساءل أحد أو يلتفت إلى أن الأمور تجري بصورة غير طبيعية. لم يعد الأمر محرجاً، كنا نخبرهم أننا ذاهبون إلى الحمام، وباتوا يعرفون أدق تفاصيل خصوصياتنا، فقد رمينا الخجل وراءنا، وأخذنا نخطط للهروب من المدينة.

الاشتباكات ليست بعيدة عنّا، والقصف لا يتوقف، والطعام نحاول تأمينه على حساب حياتنا التي قد نخسرها في أي لحظة. كان ما يزال فرن الفردوس وفرن الجزيرة يعملان في المدينة رغم كل شيء حتى ذلك الوقت، وقد حاولنا مراراً جلب الخبز من هناك رغم صعوبة تأمينه. أما الخضار الضرورية، فلم يعد شيءٌ منها موجوداً في المدينة منذ أكثر من شهرين مضيا. قبلها كنا ننتقل إلى الضفة الأخرى من النهر، إلى منطقة الكسرات، لجلب الخضار واللبن والبيض، وبعد استهداف القوارب والعبَّارات، واشتداد المعارك، ثم خروج منطقة الكسرات عن سيطرة التنظيم، فُقِدَت تلك المواد الغذائية جميعها وبشكل نهائي من المدينة.

أصبحت معظم المواد الغذائية محتكرة فقط للتنظيم وعناصره، بعد أن قاموا بالاستيلاء عليها. بل أكثر من ذلك، حتى المنازل كان يفتشوهنا، ويبحثون إن كان أهلُها قد قاموا بتخزين بعض المواد الغذائية بداخلها. كانوا أحياناً يتتبعون المنازل والحظائر التي يحتمل أن تحوي دواجن، كالدجاج بشكل مخصوص، وذلك للاستفادة من بيضها، وراحوا يصادرون الدواجن في بيوت الأهالي وهم يرددون على مسامع الجميع: «ممنوع حيازة الدجاج بالنسبة للمصلحة العامة للدولة الإسلامية».

أخذنا نسلّي أنفسنا ونحاول تمضية الوقت، حتى لا نفكر في المصير الذي كنا نتوقعه ونفكر فيه بصورة دائمة. أحياناً كنا نقضي بعض الوقت في لعب الورق، ونشترط على الخاسر الخروج من القبو في اليوم التالي لجلب مستلزماتنا. هكذا كنا نحاول نسيان ما نحن فيه، وفي ذات لحظة بدأت أصوات هدم تصل إلى مسامعنا، وكأن أحداً يهدم جدار البناء الملاصق لبيتنا، كان عناصر التنظيم يفتحون منافذ بين الأبنية، لكي تسهل عمليات تنقلهم في كامل الحي.

بعد عدة أيام فوجئنا بعناصر داعش يطلبون منّا إخلاء المبنى سريعاً، وإيجاد مكان آخر للإقامة، أخذنا نصرخ في وجوههم: «إلى أين سنذهب؟ هناك عجائز وأطفال والقصف لا يتوقف». حملوا بنادقهم ووضعوها على رؤوس الرجال، وهم يرددون: «اخرجوا وإلا قتلناكم، هذه المنطقة أصبحت منذ هذه اللحظة منطقة عسكرية». لم يمنحونا الوقت لنقل حاجياتنا، فقد قاموا برمينا في الشارع كالأثاث المهمل، وطلبوا منّا إخلاء الشارع فوراً.

بصعوبة استطعنا تأمين وسيلة نقل، واتجهنا إلى ملجأ آخر في منطقة الفردوس، وفي الطريق كانت هناك بعض الجثث مرمية على قارعة الطريق هنا وهناك كالعادة. كانت الأبنية مدمرة، وقد بدأت معركتنا ورحلتنا الجديدة ونحن بين الموت والحياة من هول ما صادَفَنا في الطرقات. دخلنا، وجميع من معنا مُهَجَّرون من منازلهم، أحدَ الملاجئ، وكان عددنا جميعاً حوالي 65 شخصاً. أقمنا داخل ذلك الملجأ الجديد ونحن نحمل ما تبقى لنا من أمتعة، كنا نريد أن نأكل في تلك اللحظات وقد عضَّنا الجوع عضاً شديداً. خرجتُ أنا وأمي، ورافقَنَا أحد أقربائنا لنجلب أي شيء يؤكل، وشرعنا في الصراخ في وجه عناصر التنظيم الذين تصادف وجودهم في وجوهنا لكي يسمحوا لنا بالعبور، ولكن ليس هؤلاء هم العناصر الذين نعرفهم بإجرامهم السابق، لا، لقد أصبحوا أكثر توحشاً مما عرفناهم فيما مضى. لقد أصبحوا يعاملون من يرونه يبادر إلى الاحتجاج على ما حلَّ بنا وبمدينتنا الهادئة الوادعة بقسوة شديدة، وغالباً ما يردون عليه بإعدامه مباشرة ودون نقاش أو مراجعة. أصبحوا لا يعتقلون أحداً ـــ كما كان عليه الحال في السابق ـــ بل راحوا ينفذون «القصاص» مباشرة، وبطلقة في الرأس، ثم يتركون الجثمان مرمياً في الشارع.

استطعنا تأمين بعض المواد وعدنا، وضعنا بابور الكاز في الطابق العلوي لإعداد طعامنا، فقد كنا في القبو لا نستطيع أن نضع أي مادة قابلة للاشتعال خوفاً من حريق مفاجئ، فما بالك باستعمال بابور كاز لغرض الطبخ، فلو سقطت علينا قذيفة أو وقع صاروخ فوق رؤوسنا بوجود مواد مشتعلة لاحترقنا مرتين بشكل مؤكد.

لم يكن بحوزتنا آنذاك سوى البرغل والعدس والمعكرونة والقليل من الرز ودبس البندورة وبعض الزيت، كانت هذه المواد هي أساسيات طعامنا، وعندما كان يتوقف القصف أحياناً، قد يصادف أن يخرج أحد الرجال لبعض الوقت خارج الملجأ لتأمين الخبز والماء اللذان استولى عليهما التنظيم وأصبح يحتكرهما ويمنعهما عن «الرعية»، فلا نحصل على نصيب منهما إلا عند خروج بعض النساء العجائز اللواتي كنَّ يبدأنَ بالعويل والنواح.

قَصَفَ الطيران فرني الفردوس والجزيرة، وعندها لم يبقَ خبز في كل المدينة. وبدأت القذائف تسقط من حولنا، تكسرت المجاري الصحية، وأخذت المياه تتسرب من كل مكان وتصل إلينا، ومعها جرذان وأنواع من القوارض لا نعرفها. أصبحنا نحن النساء لا نستطيع الحركة وسط هذا المحيط الذي يغرق بالمياه الآسنة، كنا نملأ مياه الصرف الصحي بعبوات بلاستيكية ونرميها خارجاً، ونحاول أن نبتعد عن الجرذان خوفاً من تفشي الأمراض، وإن اشتد القصف من حولنا نترك ما قمنا بطبخه فوق، في الطابق العلوي، ونسرع لنختبئ في الملجأ إلى أن يهدأ الوضع. أحياناً كان القصف يتواصل لمدة أربع وعشرين ساعة متواصلة، وعندما كان يهدأ قليلاً نخرج مرة أخرى لجلب طعامنا، الذي غالباً ما كان يفسد بسبب ارتفاع درجات الحرارة، فنقوم برميه في الشارع.

كنا نخاف أن يتعرض المبنى للقصف وأن نبقى أحياء تحت الأنقاض كما حدث في عدة ملاجئ، ففي منطقة الدرعية تم قصف أحد الملاجئ وسقط البناء على المدنيين وكانوا ما يزالون أحياء ونحن نسمع صراخهم، وكنا نصرخ لإخراجهم من تحت الأنقاض، لكن عناصر التنظيم رفضوا إخراجهم مرددين على أسماعنا: «إنه قضاء الله وقدره وحكمته». لكن في الوقت نفسه، حين تمَّ قصف جامع الثكنة وطاله الدمار الكامل، صادف أن كان بداخله أحد أمرائهم وبعض القادة، فأخذوا يرفعون الأنقاض وما خلفه الدمار ليخرجوهم من تحت الأنقاض، وقد تم إخراجهم جميعاً أحياء.

ليس هذا فقط، بل إن من كان بحاجة للإسعاف وقتها لم يكن يجد من يسعفه، فالأطباء الباقون هم المعينون من عناصر التنظيم فقط، وبتكليف منه. وبالنسبة للشهداء من المدنيين، فلقد رأينا العديد من جثامينهم ملقاة في شوارع المدينة، وليس هناك من يتولى دفنها إلا أهلهم إن وجدوا. يتم دفنهم داخل منازلهم أو في حديقة قريبة، أو في أية فسحة تراب قريبة؛ يتم حفر القبر سريعاً، وتتم عملية الدفن مباشرة.

قُصِفَ المبنى الذي كنا بداخله، وعدنا مرة أخرى إلى حمل حاجياتنا ونحن نفكر بأية وسيلة للهروب ومغادرة المدينة، ولكن كان برفقتنا سيدة مقعدة، لا تستطيع السير، وكذلك فإن عناصر داعش لن يرحمونا إن رأونا ونحن نغادر المدينة هاربين. أُغلِقَت كل الأبواب في وجهنا، وكان معنا أيضاً أختي المعوقة وخالتي العاجزة. جلسنا نخطط كيف سنتركهم؟ كنا نحمل سكاكين معنا ونحن نتجه نحو الحاجز، حيث كان يوجد ثلاثة عناصر من داعش يمكن أن يعترضوا طريقنا. فكرنا فيما بيننا: «نحن أكثر عدداً منهم، فلم لا نحاول قتلهم لنهرب، أو يقتلوننا هم ونرتاح ونخلص؟».

جهزنا أوراقنا الضرورية وثبوتياتنا، وخرجنا في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. قالت خالتي: «اذهبوا، لا تموتوا كلكم منشاني… إلي الله المابينساني». بعض الشباب قالوا لنا: «كونوا أنتم في الواجهة، ونحن سنحملها ونحمل المقعدة الأخرى»، وبالفعل حمل أحد الرجال خالتي فوق ظهره وأسرع راكضاً بها، وحمل شاب ثانٍ المرأة المقعدة، وقد تدلت قدماها النحيلتان كغصن شجرة تفرع من تحت كتفيه، بينما طوقت ذراعاها رقبته، وهكذا خرجنا.

كان الحاجز عند نزلة شحادة، والقناصة في الاتجاهين. لم يبقَ شيء أمامنا، إما أن نموت أو نصل بسلامة، أو ينفجر لغم في وجهنا، لكننا استطعنا النجاة رغم كل هذا، وقطعنا إلى الطرف الآخر مودعين مدينتنا المدمرة، وأهلنا الذين تنتشر أشلاؤهم في كل مكان.