لنبدأ بانتخابات ألمانيا الشهر الماضي. كما تعلمين أحرز حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف أفضل نتائج له على الإطلاق، حيث حلّ ثالثاً وأصبح أول حزب من أقصى اليمين يدخل البرلمان الألماني منذ ستة عقود. إلى أي درجة تعتبرين هذه الأخبار مقلقة بالنسبة لسكان ألمانيا، بما في ذلك أكثر من نصف مليون سوري مقيم هناك؟
أعتقد أن شيئاً شبيهاً حصل في بريطانيا وغيرها. لقد بلغت الحركات اليمينية أوجها مؤخراً مع وصول خطاب الكراهية إلى مستويات جديدة. أظن أن ذوي البشرة المختلفة أو الأسماء الأجنبية بدأوا يعانون فعلاً من عدة صعوبات في الحياة العامة والخاصة منذ صعود هذه الحركات وانتشار خطاب الكراهية والإهانة. أعتقد أن الأمور مقلقة حقاً. الكثير من الألمان يردون بالقول «حسناً، لقد حققوا 13% وبالتالي هناك 87% لم يصوتوا لهم». لكن أعتقد أن مبعث القلق ليس الأرقام بل ما يترتب عليها في الحياة العامة من انقسامات اجتماعية، من تحول اليمين المتطرف إلى نزعة مشروعة، ومن ارتفاع الجرعة اليمينية في خطاب الأطراف الأخرى، بما يسمح لليمين المتطرف أن يبدأ من الآن فصاعداً بتحديد أهم المواضيع التي نخوض فيها الحملات الانتخابية المنافسة. ما حدث أن الأحزاب غيرت مواقفها لكي تنافس الأحزاب الشعبوية، بدلاً من أن تقف ضدها بوضوح وتعبّر عن توجهاتها المستقلة.
السؤال التالي حول هذه النقطة تحديداً. يبدو واضحاً أن المستشارة الحالية أنجيلا ميركل ستبقى في منصبها بعد الانتخابات، لكن ليس بهامش ربح يكفي للانفراد بتشكيل الائتلاف الحكومي. وقد وافقت ميركل الاثنين الماضي على وضع حد أقصى للاجئين القادمين إلى ألمانيا، وهو ما كانت ترفضه بشدة سابقاً، وما يمكن تفسيره كتنازل، كما قلتِ، لتلك القوى المحافظة والمعادية للمهاجرين، والتي يبدو أن ميركل تسعى لتشكيل الائتلاف الحكومي الجديد معها. هل تتوقعين مزيداً من التحولات السياسية من هذا النوع تجاه اللاجئين السوريين، وربما حتى تجاه نظام الأسد والأوضاع في سوريا بشكل عام؟
حسناً، كما تعلم لا نعرف على وجه التحديد كيف سيتشكل الائتلاف الحكومي القادم. ما تزال المفاوضات مستمرة والخيارات كثيرة. لكن ربما تكمن المشكلة الكبرى داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فحليفه التقليدي حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري هو الأكثر تشدداً في مسألة وضع حد أقصى لاستيعاب اللاجئين. لذلك فهي [ميركل] تواجه مقاومة من الدوائر الأقرب لها إذا صح التعبير. سيكون اللاجئون موضوعاً ساخناً بالتأكيد في المفاوضات الحالية، لكن بالنسبة للأحزاب الأخرى هناك تحضيرات لتشكيل ائتلاف يشمل الديموقراطيين المسيحيين والليبراليين والخضر، ومثل هذا الائتلاف سيقف بشدة ضد وضع حد أقصى، وسيقول إن الأرقام غير صالحة لتحديد السياسات وإن اللاجئين بحاجة إلى جلب أسرهم. المدهش في الموضوع أن حماية الأسرة مسألة محورية بالنسبة للاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي، فكلاهما يؤكد في برامجه على أن الأسرة تعلو على أي شيء وأنها تحتل موقعاً مركزياً في سياساته. ربما ستدور الحجة حول هذه المسألة: هل يعتقدون أن هذه القضية تصلح فقط للأسر الألمانية، أم أن من الواجب أيضاً السماح للاجئين بجلب أسرهم إلى ألمانيا، من أجل السلام الاجتماعي أولاً والاتساق مع القيم التي يرفعونها ثانياً؟ ستكون هذه نقطة حاسمة في النقاشات الدائرة حالياً، لكن بالطبع هناك نقاط أخرى مهمة أيضاً ومعظمها متصل بالشؤون الداخلية.
لذلك، بالنسبة للجزء الثاني من سؤالك، من الصعب جداً توقع سياسة الائتلاف الحكومي القادم بالنسبة لسوريا ونظام الأسد. في معظم الأحيان يتم إغفال السياسة الخارجية أثناء الانتخابات، فهي لا تحتل موقعاً متقدماً على جدول أعمال المواطن الألماني. أعتقد أن هذا هو الحال في كثيرٍ من الدول الأخرى. لكن حتى الآن ما تزال الحكومة الألمانية تصرّ على أنه لا إعادة إعمار في سوريا طالما بقي الأسد في السلطة، وطالما لا إشارات جدية على انتقال سياسي حقيقي في البلاد؛ وهي الصيغة نفسها التي يستخدمها الاتحاد الأوروبي. لكن هذا يبقى خاضعاً للتأويلات طبعاً: ما هو «الانتقال السياسي الحقيقي»؟ ليس هناك شيء مضمون في المستقبل، لكني أعتقد أن الحكومة الألمانية كانت واضحة للغاية في مسألة رفض بقاء الأسد في السلطة. أتمنى أن تلتزم بذلك، وأن تنظر أيضاً في تَبِعات بقائه على جهود المساعدة، سواء المساعدات الإنسانية أو غيرها. فقد كان طريق المساعدات إلى الداخل شديدة الوعورة طوال الوقت. هناك من يعارضون هذا الموقف، تحديداً أولئك الراغبين بعودة اللاجئين في أقرب وقت ممكن؛ يقولون دعونا نجرب شيئاً آخر. سيحظى هؤلاء بفرصة التعبير عن وجهة نظرهم حول سوريا، ولكن أعتقد أن الجميع يدرك أن المسألة في سوريا ليست مادية، ليست مسألة دمار ممتلكات وبيوت؛ معظم الناس لم يغادروا بسبب ذلك، بل بسبب النظام السياسي، بسبب الرعب، وبسبب حرب الأسد على المدنيين. لذلك طالما بقي الأسد سيبقى اللاجئون لاجئين. أظن أن هذا هو تصور معظم الأطراف في الحكومة الألمانية.
لنناقش هذه النقطة أكثر. كما أشرتِ قبل قليل، هناك نظرية دارجة في هذه الأيام تعتبر إعادة الإعمار وسيلة ضغط غربية. أعتقد أن [وزير الخارجية البريطاني] بوريس جونسون اعتبرها الورقة الأخيرة التي يجب استعمالها مع نظام الأسد، أو شيء من هذا القبيل [ملاحظة المحرّر: العبارة التي استعملها جونسون هي بالحرف: «هناك ورقة أخيرة في يد رديئة الحظ يمكن استعمالها الآن، وهي الأموال التي يمكن تقديمها لإعادة إعمار سوريا»]. وبالتالي قد يكون التمويل وسيلة ناجعة لإجبار الأسد وروسيا وإيران على القدوم إلى طاولة المفاوضات. فهل كنت تقولين إن أنجيلا ميركل لا تؤمن بهذه النظرية؟
من الصعب التيقن مما تؤمن به، لكن حتى الآن لا أرى أية مؤشرات على تحول في ألمانيا بهذا الاتجاه. بالعكس، ما أكدته وزارة التنمية والإعمار، وكذلك أطراف أخرى داخل الحكومة، هو أنه لا يمكن لألمانيا أن تدعم جهود إعادة الإعمار ما لم يحدث انتقال سياسي حقيقي. لذلك فإن الاتجاه السائد في ألمانيا هو عدم تجاوز هذا الخط.
مع ذلك هناك ضغوطات جارية. هناك من يفكرون حقاً بأوضاع تسمح بعودة اللاجئين. حين تكون أمامك أزمات معقدة، حروب يصعب على الناس الإحاطة بها، سواء لأنهم لا يستطيعون أو لا يريدون أن يفهموها، فإن الحل الأسهل هو إلقاء الأموال: تحسين الظروف المادية، خلق فرص العمل، إلخ، ثم سيعود الناس تلقائياً. لكن هذا المنطق محدد جداً، وهو يفترض وجود مهاجرين وليس لاجئين باحثين عن مكان آمن. من الواضح أن القضية في سوريا ليست قضية عوامل بنيوية تحفز على الهجرة. حسب متابعتي للنقاشات الدائرة في ألمانيا، هناك قناعة واسعة بأن الأسد جزء من المشكلة وليس من من الحل.
بالنسبة لي أجد صعوبة حتى في استساغة فكرة توظيف إعادة الإعمار كوسيلة ضغط. إن كان من خلاصة واحدة حول سياسة الأسد خلال السنوات الماضية، وحتى قبل الحرب، فهي استحالة التأثير على سياساته من خلال الحوافز. هو ببساطة لا يتفاعل معها. الأمر نفسه ينطبق على الضغوطات، والتي يجب أن تكون قوية بما يكفي لإجباره على التغيّر. حتى حلفاؤه الإيرانيون والروس عبّروا في بعض الأحيان عن شعور بالإحباط إزاء قدرتهم المحدودة على تشكيل السياسات السورية. لذلك لا ينبغي أن نكون مثاليين هنا. من المتوقع أن يبدي الغرب استعداده للتمويل من باب حل المشكلة، لكني متيقنة أن ذلك لن يتيح له فرض أي شروط، لا قبل تقديم التمويل ولا بعده. في الآونة الأخيرة نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ورقة تشير إلى أن أهم شيء الآن هو تحسين الوضع داخل البلاد. طبعاً لم تقل ذلك بهذه الفظاظة، لكنها دعت بشكل عام لتأجيل طرح الأسئلة والشروط. أنا لا أعتقد أن بإمكان المساعدات الخارجية تشكيل الظروف السياسية أو وضع شروط محددة؛ هذا ما أثبتته الحرب. هناك مطالب كثيرة عبرت عنها لا الدول الكبرى فحسب بل أيضاً الأمم المتحدة، ناهيك عن الأطراف الأخرى في المفاوضات، لكن النظام السوري لم يكن مستعداً للاستجابة لأي من هذه المطالب. فلماذا وهو في نشوة الانتصار سيستجيب لمطالب جديدة؟ هو يعلم أنه قادر على التملص من أي شيء.
علينا أن نستبعد هذه الأوهام من قائمة الخيارات المتاحة حين نتحدث عن إعادة الإعمار أو أي مساعدات أخرى لسوريا.
لنبق في موضوع اللاجئين. أشارت هيومن رايتس ووتش مؤخراً أن الأردن بدأ بترحيل آلاف اللاجئين السوريين بشكل قسري إلى شمال الحدود الأردنية. وهنا في لبنان جدّد الرئيس ميشال عون من منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة دعوته إلى إعادة اللاجئين، وثمة تقارير حول محاولات شبيهة بما جرى في الأردن تجري شرقي الأراضي اللبنانية على نطاق صغير نسبياً. هل تتوقعين تصاعد هذه الأعمال هنا في لبنان على المدى القريب؟
لست متأكدة من ذلك. لأن ما حدث على نطاق صغير كانت له آثار كبيرة بما فيه الكفاية؛ أعتقد أنه أرسل رسالة قوية للغاية. معظم السوريين الذين أتحدث إليهم الآن خائفون بشدة من انقلاب الوضع هنا، لكن ما يحدث من ترحيل قسري هو تعبير عن عجز السلطات اللبنانية عن تخفيض عدد اللاجئين. وهو أيضاً محاولة لتخويف الناس ودفعهم نحو العودة الطوعية، حتى في ظل عدم تغيّر أو تحسّن الوضع داخل البلاد. أعتقد أن ما يفعله الأردن ولبنان هو هذا بالضبط. فالدولتان تدركان استحالة اتخاذ إجراءات نوعية ضد عدد كبير من اللاجئين هنا. لديك ما يقارب مليون سوري مسجل كلاجئ هنا، وقد يكون الرقم الحقيقي أكبر من ذلك. لا يمكنك وضع كل هؤلاء في باصات وإرسالهم من حيث جاءوا، مهما عبّر السياسيون عن رغبات قريبة من ذلك. لكن ترويج الفعل بحد ذاته، ونشر صور لاجئين محتجزين أو غارات تُشنّ على مخيمات غير نظامية، هذا يرسل رسالة قوية ومرعبة للناس. وهو أمر مرشّح للاستمرار.
السؤال التالي ألحّ عليه زميلي كرم نشار. هو يقول إنه سمع من الكثير من العاملين في المنظمات غير الحكومية السورية خارج سوريا، كما في اسطنبول مثلاً، أنهم يتلقون ضغوطاً من المانحين الدوليين، ولا سيما الأوروبيين، باتجاه العودة إلى دمشق، أو إلى أي أماكن أخرى داخل البلاد، تحت طائلة انقطاع التمويل؛ وذلك على أساس أن البلاد أصبحت أكثر أماناً وأن الدول المانحة غير قادرة على تمويل المجموعات في الخارج وما إلى ذلك من افتراضات… ما هي وجهة نظرك حول هذا الموضوع؟ هل ترين أن القلق مشروع بالنسبة للعاملين في المنظمات خارج سوريا؟
شخصياً لم أسمع بذلك. لكن من الناحية التقنية يبقى السؤال هو كيف يمكنهم الانتقال إلى الداخل والحصول على التمويل؟ لأنه في ظل العقوبات من الصعب جداً انتقال المنظمات، ولا أعتقد أن الإقامة في دمشق ستسهّل الأمور بأي شكل. طبعاً لا شيء مستحيل، لكن بصراحة لم أسمع شيئاً من هذا القبيل. الأمر أيضاً صعب لصعوبة تحديد من سيعود. مَن مِن العاملين في المنظمات يستطيع العودة، ومن منهم سيقبله النظام في الداخل؟ أظن أن معظم المنظمات الدولية عانت خلال السنوات الماضية من الاعتقالات العشوائية والاضطهادات والمضايقات التي طالت موظفيها والعاملين معها. لذلك لا أرى إمكانية لحدوث ذلك أو فرضه كشرط في المدى القريب.
إن كان من سبب فربما هو ذريعة لخفض التمويل، حجة سهلة…؟
ربما. لكن التمويل كان دائماً مسألة صعبة بالنسبة للمنظمات السورية، فمعظمها لم يحظَ بفرصة التسجيل في أي مكان. عدم التسجيل في سوريا مسألة بديهية بسبب قوانين المنظمات قبل عام 2011، والتي تمت صياغتها وتشكيلها ليس بهدف تسجيل منظمات «غير حكومية» حقاً. لذلك هناك منظمات كثيرة فاعلة لكن لم تحظ بفرصة التسجيل، وبعد ذلك طبعاً خرجت هذه المنظمات من البلاد وواجهت السؤال نفسه في الخارج. بعضها وجد طريقة ما، ومن جهتنا دعمناهم ببعض الدراسات القانونية حول إمكانيات التسجيل. لكن بالنسبة للكثيرين لم تكن المسألة ممكنة على الإطلاق. أظن أنه تم تطوير آلیات معينة إما للمساعدة في التسجیل أو لتنظیم شراكات یمكن من خلالھا الحصول علی تمویل، ولكن الأمر كان تحدياً دائماً. تعرفون ذلك أكثر مني عبر جهودكم في تمويل مجموعة الجمهورية. بالعموم لا أرى سبباً لخلق ذريعة لتخفيض التمويل.
لننتقل إلى موضوع آخر. أصبحت ألمانيا مؤخراً من أولى الدول التي نجحت في محاكمة وإدانة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا، جنباً إلى جنب مع السويد. تراوح هؤلاء بين عناصر في داعش وجبهة النصرة إلى مقاتلين في الجيش السوري الحر وصولاً إلى أحد جنود نظام الأسد في قضية واحدة في السويد. ما أهمية ذلك برأيك؟ هل يمكن أن يكون مقدمة لمزيد من المحاكمات المستقبلية لمجرمي حرب آخرين؟
من الجيد حقاً أن ترفع هذه الدعاوى في ألمانيا وغيرها. لكن الأهم من التعامل مع أفراد هو المقاربة التي بدأت في ألمانيا مؤخراً. لعلّك سمعت بما يقوم به المحاميان السوريان أنور البني ومازن درويش في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان من رفع دعاوى ضد مؤسسات نظام الأسد. فبالنظر إلى حجم الجرائم لن تكون ملاحقة بعض الأفراد مرضية، مهما كانت مهمة. وكما قال ستيفان راب، المدعي العام لجرائم الحرب في مكتب العدالة الجنائية الدولية، ما يجري في سوريا مقتلة بمستويات صناعية. جميعنا شهود على الانتهاكات الجسيمة والممنهجة والمتعمّدة لحقوق الإنسان. لذلك أرى أن من الضروري ملاحقة المؤسسات. نحن نتابع مجريات هذه الدعاوى في ألمانيا، ونأمل حقاً أن تنجح وأن يقوم المدعي الاتحادي العام بالتحقيق مع مسؤولين في هذه المؤسسات. حالياً هو يقوم بالاستماع إلى الشهود لتكوين فكرة أفضل حول إمكانية معالجة هذه القضايا ضمن القضاء الألماني. لكن الخطوة الأولى اتُخذت، وهي تقديم الشكاوى – واحدة ضد المخابرات الجوية، وأخرى ضد سجن صيدنايا، وثالثة ضد الاستخبارات العسكرية. من المهم حقاً التأكيد على أن هذه القضايا لا تتعلق فقط بحالات فردية شاذة مقابل أغلبية تطيع الأوامر الصحيحة القادمة من الجهات العليا. ليس الأمر كذلك على الإطلاق. ومن جهة أخرى من الضروري عرض هذه الدعاوى على الرأي العام لتوضيح حجم الانتهاكات الحاصلة في سوريا، ولا سيما الجرائم التي يرتكبها نظام وقَّعَ على كثيرٍ من الاتفاقيات الدولية التي يفترض أن تردعه عما يقوم به. النظام السوري موقّع على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب – وهو أمر يستحيل تصديقه بالنظر لما يقوم به. أرجو أن تنجح هذه الدعاوى في إثارة هذه القضية.
هل لديك فكرة إن كانت محاكمة بشار الأسد نفسه، ولو غيابياً، ممكنة في ظل الولاية القضائية الألمانية، أو غيرها؟ أم أنه محمي بالحصانة الدبلوماسية؟
لست خبيرة قانونية. لكن بالطبع من الناحية النظرية لا بد أن يكون ذلك ممكناً حسب مبدأ الولاية القضائية العالمية، المطبّق في ألمانيا بدون قيود؛ بما يشمل متابعة الجرائم وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والقبض على الجناة حتى لو كانوا رؤساء دول. لا ينبغي أن يكون هناك ما يعيق محاكمات أو أحكاماً من هذا النوع. لكن المشكلة مع هذه الدعاوى، سواء في المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم القضائية المتخصصة في ألمانيا، هي عدم القبض على الجاني بعد صدور الحكم بحقه. بكل الأحوال أمامنا طريق طويل وعلينا عدم رفع التوقعات حول ما قد يحصل في النهاية. علينا أيضاً أن ندرك أن بعض الأمور الجارية في المحاكم قد تكون إيجابية ولو لم تكن مرضية، فنحن بحاجة إلى إثباتات، إلى أدلة، وبحاجة إلى أن نبيّن أننا لسنا مثلهم. ليست القضية الآن قضية عدالة سياسية، بل قضية تحديد الجناة وإثبات مسؤوليتهم، ومن ثم الحكم عليهم. لذلك مهما بدت النتائج النهائية مخيبة للآمال، فهي تفتح المجال أمام الناس، ولا سيما الناجين وأقرباء ضحايا التعذيب، للتعبير عن مظالمهم، ولإسماع حكاياتهم، ولتوضيح حقيقة ومستوى العنف الجاري في سوريا هذه الأيام. لذلك أرى من المفيد إيجاد طرق سلمية لتحقيق العدالة. معظم السوريين لا يسعون وراء الانتقام، بل العدالة، وبرأيي من المهم للغاية وجود دول تفسح المجال للسعي نحو العدالة في سوريا مع انغلاق الآفاق داخل البلاد.
بالعودة قليلاً إلى التطورات الميدانية، يبدو أن مدينة الرقة على وشك التحرر من آخر مقاتلي داعش خلال أيام أو أسابيع قليلة، على الأقل وفقاً لما تقوله التقارير [ملاحظة المحرر: أجريت المقابلة قبل التوصل إلى صفقة إجلاء المقاتلين من المدينة]. ماذا تتوقعين للمرحلة القادمة؟ من سيحكم الرقة، وهل سيتمكن من تحقيق الاستقرار؟ كيف ترين الأمور بشكل عام؟
أعتقد أن علينا أن ننتظر قليلاً لمعرفة من سيحكم. يبدو الآن أن أبرز القوى المشاركة في الانتصارات العسكرية الجارية في الشرق السوري هي قوات سوريا الديموقراطية. هذه القوات ذات وزن كردي راجح، لكنها تضم في صفوفها عناصر عربية وعشائرية، فهي ليست مجرد قوة كردية. لكن يمكن القول إن قوة ذات أغلبية كردية تتمدد في مناطق ليس فيها سكان أكراد. لكن بحسب ما نسمعه من أهالي تلك المنطقة، ليست هذه الجزئية المسألة الكبرى في الوقت الراهن. كثيرون سعداء الآن بزوال داعش، وكثيرون سعداء أو سيسعدون بتوقف القصف. لقد أمكن تحقيق تقدم كبير خلال الأشهر الماضية بسبب قصف طائرات التحالف الدولي، والتي كانت تقتل أعداداً هائلة من المدنيين أثناء المعارك.
لكن حين يتعلق الأمر بلملمة الشظايا ومحاولة الحكم، فإن الفاتحين الذين طردوا داعش من المدينة هم أصحاب الكلمة العليا فيها، ويمكن مراقبة الأوضاع من هذه الزاوية. ستكون هناك تحديات عديدة لا تتعلق فقط بالسيطرة ولكن أيضاً بإعادة تعمير المدينة. لقد رأينا كيف قام عناصر التنظيم بمغادرة مواقعهم بعد تلغيمها؛ هم يلغّمون كل شيء وراءهم، مما يزيد من صعوبة بثّ الروح في المدن التي سبق أن حكمها التنظيم وإعادة تأسيس الحياة المدنية فيها. لذلك لا شك في جسامة التحديات التي تنتظر حكام المدينة الجدد. من جهة أخرى نحن لا نعرف ما إذا كان تحرير الرقة قوياً على الأرض كما يبدو على الإعلام. فبالنسبة للتنظيم ما تزال عقيدته على قيد الحياة، وكذلك عناصره الذين انسحبوا نحو أماكن أخرى، والأهم من ذلك أن العوامل التي أدت لصعود داعش ما تزال موجودة. لذلك لا ينبغي أن نتفاءل كثيراً بأن تحرير الرقة سيكون نهاية تنظيم الدولة. هو نهاية سيطرته الترابية، لكن ليس نهايته كمجموعة.
سؤال آخر حول الشأن الميداني. بدأ الجيش التركي نهاية الأسبوع الماضي عملية توغل بري في محافظة إدلب، في اتفاق غير مفهوم مع روسيا، حيث يفترض بالأخيرة أن تقدم الغطاء الجوي بمعزل عن جميع الخلافات السابقة بين الدولتين. هناك أيضاً كلام الآن عن استدعاء ثوار مدعومين من تركيا من محافظة حلب بداعي التصدي لهيئة تحرير الشام – وهو آخر مسميات تنظيم القاعدة في سوريا. يبدو كل ذلك عصياً على التفسير. هل لديك فكرة واضحة عما يحدث هناك؟
أنا أيضاً أجد صعوبة في تفسير ما يحدث، لأنه كما ذكرت هناك تغيرات عديدة في العلاقات بين الجهات الدولية الفاعلة في سوريا. الشيء الواضح بالنسبة لي هو أن أولوية تركيا انحصرت خلال العام الماضي بالتصدي للطموحات الكردية في سوريا وتحجيمها. فيما يتعلق بإدلب، يتمثل ذلك بمنع كانتون عفرين الذي يسيطر عليه الأكراد من الانضمام إلى الكانتونات الشرقية الأخرى التي تتشكل منها الإدارة الكردية. ثمة ممرّ في إدلب لا يسيطر عليه الأكراد حتى الآن، وأعتقد أن الاهتمام التركي ينحصر بإبقاء الوضع على ما هو عليه. لست متأكدة من سبب التدخل العسكري المباشر، ولم أفهم التوقيت والطريقة التي تم بها هذا التدخل. أعتقد أننا بحاجة لبعض الوقت قبل استيعاب ما يحدث.
يبدو التواجد العسكري في الداخل خياراً مفيداً للأتراك في الوقت الراهن، لكنه كان مسألة صعبة للغاية. حتى حين تدخلوا سابقاً لم تكن عملية سهلة على الإطلاق، وقد اعتمدوا بشدة على شركائهم السوريين ومع ذلك اعتبروها مخاطرة كبرى. من جهة أخرى لا يبدو أن القوى الأخرى المشاركة تعي النتائج المترتبة على هذه العملية على المدى الطويل.
ختاماً، كتبتِ عام 2013 كتاباً بعنوان حكمة لعبة الانتظار السورية: السياسة الخارجية السورية تحت حكم آل الأسد. هل ترين أن الأسد ما يزال يلعب لعبة الانتظار إياها؟ وهل هناك حكمة باقية في اللعبة؟ هل سينتهي انتظاره بالفوز؟
أشعر الآن بمدى حكمة العنوان الذي اخترته، وليتني كنت مخطئة. كنت أتمنى لو تحول الكتاب إلى كتاب تاريخ، وليس إلى دليل نجاة من الأزمات. لكن نعم، أعتقد أن الأسد أثبت نجاعة هذه الاستراتيجية. إذا قرأت مقدمة الكتاب سترى أني رأيت في استخدامه الأسلحة الكيماوية ورقة خاسرة، الورقة الأخيرة التي سيلعبها وستنتهي معها لعبة الانتظار. لكن لا، لقد استطاع النجاة، ويبدو أنه على وشك النجاة مرة أخرى. فبعدما اتهمته الأمم المتحدة بشكل واضح باستخدام غاز السارين في سوريا هذا العام، بالكاد نسمع صوت احتجاج دولي. ظننت لوهلة أن الضربة الكيماوية شيء خطير وانتهاك صارخ للمعايير الدولية، لكنها مرّت مرور الكرام.
تمثل محادثات جنيف المثال الأبلغ على لعبة الانتظار هذه. مرة استشهد أحدهم بكلاوزفيتز، الذي يقول إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، ليشرح لي كيف يقوم نظام الأسد بشيء مماثل، فهو يرى في الدبلوماسية استمراراً للحرب بوسائل أخرى. لعبة جنيف تناسبه للغاية، فهو لا يقدم أي تنازلات، بل يكتفي بالمشاركة، فتبدو المفاوضات وكأنها جارية على قدم وساق، في حين يواصل العمليات العسكرية بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين. وبالتالي تمثل جنيف تذكرة يمكن العبور من خلالها إلى المحافل الدولية، ولكن من الواضح تماماً أنه لم يكن مستعداً في يوم من الأيام لتقديم أي تنازل. الدبلوماسية مجرد غطاء ظاهري لإبراز الوجه الساعي نحو السلام، ورقة تين لتغطية العمليات الحربية الجارية على الأرض.