مساء الجمعة الماضية، أقرَّ مجلس الشيوخ الإسباني بغالبية ساحقة تطبيق المادة 155 من الدستور الإسباني، التي تُتيح للحكومة الإسبانيّة نزع الصلاحية عن الحكومة الإقليمية والبرلمان الكتلونيين، بعد أن قامت القوى الانفصالية بإعلان رمزي للاستقلال مساء الخميس في برلمان كتالونيا ردّاً على فشل فرص الوصول لتسوية تحفظ ماء الوجه وتتجنب الإجراءات القانونية والدستورية مُقابل الدعوة لانتخابات مُبكّرة، إعلانٌ كان بمثابة «انتحار تكتيكي» كسباً للوقت لإعادة ترتيب الأوراق بعد وصول الصراع السياسي بين مدريد وبرشلونة إلى درجات تصعيد مهولة، مُحاطة بانقسام داخلي في كتالونيا واستقطاب شعبي مُنفعل وغاضب، يملأ الشوارع بالمظاهرات كُلّ يوم.
طُبّقت أقسى إجراءات المادة الدستورية، إذ أُقيل رئيس الحكومة الكتلونية كارلس بويجديمونت وكافة أعضاء الحُكومة، بالإضافة إلى عدد كبير من موظفي الدرجة الأولى الإقليميين؛ وحُلّ البرلمان الكتلوني وتولّت سوراجا ساينث دي سانتا ماريّا، نائبة رئيس الوزراء الإسباني، صلاحيات إدارة الإقليم مؤقتاً حتى إجراء انتخابات إقليمية في الواحد والعشرين من شهر كانون الأول المقبل. بالتوازي مع ذلك، تستمر العملية القضائية ضد شخصيات الحكومة الإقليمية بتُهم التمرّد وعصيان الأوامر، عملية قد تؤدي لعزلهم سياسياً ومنع ترشّحهم، ولكن دون أن تُتخذ إجراءات ضد أحزاب الحُكم الكتلوني، الحزب الديموقراطي الأوروبي الكتلوني (يمين قومي مُحافظ) واليسار الجمهوري الكتلوني. لذلك، ربما تجد كتالونيا نفسها بعد ثلاثة أشهر أمام أغلبية انفصالية جديدة في البرلمان الإقليمي، وعودة إلى لحظة البداية، لكن هذا مؤجّل إلى ما بعد عطلة عيد الميلاد، أو هذا ما يبدو أن خطاب الانتصار يقوله بارتياح. ثمة «سياسة دولة» قائمة على تأجيل الاستحقاقات لأسابيع أو شهور بشكل متواصل.
لم «تُحلّ» أزمة كتالونيا، بل نقلت صراعها إلى لحظةٍ أخرى. يُبالغ الخطاب الدولتي الإسباني في التعبير عن ارتياحه والاحتفاء بالحزم الناجح الذي أبداه في «الحفاظ على الشرعية الدستورية ووحدة البلاد»، وهذا طبيعي إلى حدّ كبير كونه يُلائم خطابه السياسي الموجّه لأنصاره، ويُغذّي النزعة المُعادية لكتلونيا التي باتت تتعدّى طيف مجتمعه الناخب إلى قسم كبير من ناخبي أحزاب اليسار الإسباني، التي تجد نفسها في مأزق عميق جراء ذلك. من جهتها، تُراهن الأحزاب الاستقلالية الكتلونية على ترك المظلوميّة تأخذ مداها الأقصى ريثما تتوضّح آفاق رقعة اللعب الجديدة.
تركت الشهور الأخيرة وضعاً سياسياً مأزوماً في إسبانيا، وفتحت إشارات استفهام كبيرة حول قدرة النظام السياسي القائم، نظام دستور 1978، على استيعاب الأزمة وفتح مجالات لتفاهمات وتوافقات وتنازلات. ما وُلِدَ يومها كلحظة انفتاح للسياسة والتلاقي لتصريف «توازن ضعف» ما بعد وفاة فرانكو، صارَ اليوم الشعار البارز لأكثر أشكال الدولتية الجمودية الإسبانية تخشّباً. عبر مُراجعة تاريخ إسبانيا ما بعد فرانكو؛ وطريقة تشكل النظام الديموقراطي الراهن وطريقة هندسة الطيف السياسي والمسألة الاقتصادية- الاجتماعية؛ ومعضلة الجغرافيا السياسية لإسبانيا، وبدء تكوّن «المسألة الكتلونية» بشكلها الحالي، يستكمل هذا النص ما بدأ الجزء الأول بطرحه حول المشاكل البنيوية لإسبانيا المُعاصرة، تلك «المعضلة الإسبانية» المُكوّنة من مجموعة من المُفارقات التاريخية غير المحسومة.
1978
عند وفاة الجنرال فرانكو في العشرين من تشرين الثاني من عام 1975، كانت ستّ سنواتٍ قد مضت على اختياره خوان كارلوس دي بوربون خلفاً له في رئاسة الدولة، ما عنى عودة الملكية البوربونية بعد انهيارها في نيسان 1931. كانت السنوات الأخيرة من عهد فرانكو، خصوصاً بعد أن ظهرت معالم الشيخوخة المتقدمة عليه وبدا واضحاً أن «الحتمية البيولوجيّة» ستحدث قريباً، قد مرّت بين خليط من تباطؤ الاقتصاد وتعالي الاحتجاجات العُمالية والطُلابية، وتصاعد نشاط التنظيمات المسلحة المتطرفة، اليسارية منها والانفصالية (خصوصاً إيتا) ضد الجيش وقوّات الأمن، وهو الوضع الذي سيستمر حتى ما بعد أواسط الثمانينيات. على الصعيد السياسي، كانت المعارضة –وعلى رأسها الحزب الشيوعي الإسباني، المُعارض النوعي والتاريخي لنظام فرانكو- تجهّز نفسها لمرحلةٍ مقبلة مجهولة، لكنها لم تكن لوحدها، إذ كانت أجزاء من نُخب أجيال ما بعد الحرب ضمن الجهاز البيروقراطي لنظام فرانكو تُعيد اكتشاف نفسها كـ «ديمقراطية مُحافِظة» وتهيئ نفسها لتغيّر سياسي ما، لا بد وأنه سيحدث.
أحد هؤلاء «الديمقراطيين الجدد» القادمين من عمق نظام فرانكو كان أدولفو سواريث، ابن منطقة آبيلا الذي مرّ في كل مراحل سُلّم الترقّي السياسي والاجتماعي في نظام فرانكو، بدءً من سكرتاريا مكتب حاكم محافظة آبيلا وحتى إدارة التلفزيون الإسباني، ثم الأمانة العامة للحركة القومية، الحزب الأوحد ذو الهوية الكتائبية ضمن نظام فرانكو. عُيّن سواريث رئيساً للوزراء عام 1976، وكان في أواسط الأربعينيات من عمره، من قبل الملك، وكُلّف بمهمة بدت مستحيلة: نقل النظام السياسي الإسباني من نظام الحزب الواحد القومي-المسيحي إلى ملكية دستورية على الطراز الأوروبي بهدوء، أي باستخدام الإطار السياسي والقانوني الموجود وتغييره تدريجياً بمرونة، دون استفزاز الجيش والقطاعات الأكثر ولاءً لفرانكو داخل جهاز الدولة إلى الدرجة التي قد تدفعهم للقيام بانقلاب عسكري. معادلة شبه مستحيلة كُلّف بتنفيذها سياسي شاب، ذو ماضٍ كتائبي، لا تخفي نُخب مدريد احتقارها له باعتباره «وصولياً» و«جاهلاً» (كان يُعيّر بضعف ثقافته حتى في السجالات البرلمانية) بقدر ما تعترف له بالشجاعة وبنوع من الذكاء الفِطري السياسي، وغريزة بقاء سياسية نهِمة.
أدولفو سواريث
خلال رئاسته للحكومة بين عامي 1976 و 1981، قاد أدولفو سواريث عملية التحويل الديمقراطي الإسباني، بدءاً من مناورة إقناع برلمان نظام فرانكو (وقد كان خليطاً من عسكريين شيوخ وشخصيات كتائبية مرموقة، تجد في برلمان مُنتخب ضمن نظام الحزب الواحد وذو صفة ”استشارية“ ما يُشبه التقاعد المُبكّر) بإقرار قانون الإصلاح السياسي -الذي يحلّ «الحركة القومية» ويسمح بتشكيل الأحزاب والنقابات، ويفتح المجال لحرية الصحافة ويسمح لوسائل الإعلام غير الحكومية بإنشاء غرف أخبار- وحلّ نفسه والدعوة لانتخابات مفتوحة، لم يُقل لأعضاء ذلك البرلمان الفرانكوي بوضوحٍ حينها أنها ستكون انتخابات لجمعية تأسيسية؛ ومغافلة الجيش خلال عطلة عيد الفصح عام 1977 ورفع الحظر عن الحزب الشيوعي الإسباني؛ وإرضاء النُخب الكتلونية واستمالتها إلى «النظام الجديد» عبر الاعتراف بالحكومة الإقليمية في المنفى ودعوة رئيسها، جوزيب تارّاديجاس، للعودة إلى برشلونة عام 1977؛ وتشكيل لجنة لصياغة الدستور بعد انتخابات 1977 شاركت فيها كل الأحزاب (بما فيها الشيوعيون والمسيحيون الديمقراطيون الكتلونيون) نجحت في إصدار دستور تم إقراره عبر استفتاء شعبي بأغلبية كاسحة في عموم الجغرافيا الإسبانية؛ وعقد أول انتخابات ديموقراطية وفق الدستور الجديد والفوز فيها -على رأس قائمة حزب اتحاد الوسط الديموقراطي، الذي كان قد شُكّل قبل أشهر- بأغلبية مطلقة. خلال عامين ونيف، انتقل أدولفو سواريث من موقع رئاسة الوزراء بالتعيين من قِبل ملك هو، رسمياً، وريث فرانكو المُسمّى من قبله إلى رئاسة حكومة منبثقة عن برلمان ديموقراطي ضمن ملكيّة دستورية أٌقرّت باستفتاء شعبي.
على صعيد الجغرافيا السياسية واللامركزية ومطامح الأقاليم ذات الهوية اللغوية- الثقافية والسياسية الخاصة (كتالونيا وغاليثيا والباسك)، والتي كانت قد حصلت على اتفاقات حكم ذاتي خلال عهد الجمهورية الثانية (1931-1936)، كان على سواريث أن يواجه مسألة مُعقّدة نابعة من عمق «المعضلة الإسبانية» في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، وهي -برفقة رفع الحظر عن الحزب الشيوعي الاسباني- من المسائل الأكثر استفزازاً للجيش والقطاعات الأكثر ولاءً لذخر فرانكو ضمن جهاز الدولة. أمام ذلك، قرر الاعتراف بالحكومة الإقليمية الكتلونية في المنفى -رغم إشكالية هذا القرار العميقة، كونه اعترافاً بجسم سياسي نابع من الجمهورية الثانية، خصم الرسمية الفرانكوية خلال الحرب الأهلية بين عامي 1936 و1939- وذلك لحاجته لاستمالة النخبة البرجوازية الكتلونية، والتيار المسيحي الديموقراطي المُعبّر عنها (والذي سيُسمّى لاحقاً ائتلاف التلاقي والاتحاد، والآن الحزب الديموقراطي الأوروبي الكتلوني) ذو التنظيم السياسي العالي والقوة الاقتصادية المهمة، لكنه في الوقت نفسه قرر تقسيم كلّ إسبانيا في دستور 1978 إلى مقاطعات حكم ذاتي كنمط لتنظيم الإدارة كي لا يبدو أنه يخصّ كتالونيا وحدها بالحكم الذاتي. بعض هذه المقاطعات كان متوافقاً مع تقسيمات قديمة من ممالك وإمارات (مثل القشتالتين وأراغون والأندلس ونافارّا)، وبعضها الآخر، كمدريد أو كنتابريا أو مرسيا أو لا رّيوخا، كان عبارة عن محافظات. بعد ذلك، فاوض بشكل مستقل القانون الأساسي الناظم لكل مقاطعة بشكل مستقل انطلاقاً من نظام عام ينقل صلاحيات التعليم والصحة والخدمات إلى الحيّز الإقليمي. هكذا، لكتالونيا صلاحيات مستقلة عالية في بعض المجالات، الأمني مثلاً (بما في ذلك أن لها جهاز مخابرات خاص بها)، في حين للباسك ونافارّا نظام مالي مستقل، وفي المقابل هناك مقاطعات رفضت نقل صلاحيات إليها وطالبت الدولة بالتكفّل بها.
سواريث حاضراً خلال مراسم عودة تارّاديجاس، رئيس الحكومة الكتلونية في المنفى، إلى برشلونة عام 1977.
على الصعيد الاجتماعي- الاقتصادي، توجّه سواريث نحو إرضاء أحزاب اليسار عبر إرساء أسس «الدولة الاجتماعية» ضمن مبادئ الدستور، وبناء منظومة ضمان اجتماعي وضمان مجانية التعليم وغيرها من الإجراءات، ثم أنجز لحظة توافق أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية في نهاية السبعينات مع تباطؤ الاقتصاد العالمي عبر اتفاقيات مونكلوا عام 1977، والتي جمعت الأحزاب الإسبانية والإقليمية، بالإضافة للنقابات الرئيسية وروابط أصحاب المصالح، وأرست لإصلاحات اقتصادية عميقة وتوافقات بنيوية حول راهن ومستقبل الاقتصاد الإسباني، وأسست للبنية الاجتماعية- الاقتصادية للدستور الذي سيُقرّ بعدها بعام.
بهذا الشكل، أنهى أدولفو سواريث عقد السبعينات وهو على رأس هرم نخبة سياسية جديدة مكوّنة من الإصلاحيين القادمين من البيروقراطيّة الفرانكويّة؛ الحزبين الشيوعي والاشتراكي؛ والأحزاب اليمينية القومية الباسكية والكتلونية. نخبة تعيش كل لحظة تحت وطأة الرعب من انقلاب عسكري كان وشيكاً في لحظات عديدة، ولكنها تحظى بشعبية عالية، وبمباركة ودعم أوروبيين، كونها تقود تفكيك آخر ديكتاتورية في أوروبا الغربية، وتذهب بإسبانيا باتجاه الاندماج ضمن المنظومتين الاقتصادية والسياسية لما سيكون الاتحاد الأوروبي. لكن بداية عقد الثمانينات كانت عاصفة، إذ أدى تفاقم الأزمة الاقتصادية؛ وفقدان سواريث السيطرة على مسار المفاوضات مع المقاطعات المختلفة لإقرار نُظُمها الخاصة؛ وتفاقم مشكلة الإرهاب اليساري المتطرف والانفصالي، والإرهاب اليميني المتطرّف المضاد، إلى تآكل شعبية سواريث، وتفاقم نقمة الجيش وبقايا موالي فرانكو عليه، كما بدأت علاقاته تتآكل مع الأحزاب الأخرى، لا سيما الاشتراكي، مع بدء نفاذ صلاحية اللحظة التوافقية في الميدان السياسي وانفتاح المجال أمام سيناريو تنافسي قد يُفضي إلى إمكانية انتزاع الاشتراكيين رئاسة الحكومة. هكذا، استقال سواريث من رئاسة الحكومة أوائل عام 1981، وقُرّر تعيين ليوبولدو كالبو سوتيلو خلفاً له بشكل مؤقت حتى موعد إجراء الانتخابات. وفي الجلسة البرلمانية المخصصة لانتخاب كالبو سوتيلو في الثالث والعشرين من شباط عام 1981، اقتحمت قوة من الحرس المدني (وهو أحد الأجهزة الأمنية الرئيسة في إسبانيا، وله طابع شبه عسكري) مدعومةً بقطع من الجيش مبنى البرلمان، بالتزامن مع تمرّد منطقة فالنثيا العسكرية وإنزال الدبابات إلى الشوارع. فشلت المحاولة الانقلابية بعد ساعات إثر مناورات من القصر الملكي نجحت بإقناع باقي قادة المناطق العسكرية بعدم الانضمام للخطة الانقلابية، القائمة على تعيين «حكومة إنقاذ» مؤلفة من عسكريين وسياسيين من مختلف الأحزاب، برئاسة الجنرال ألفونسو آرمادا، تُبعد سواريث وفريقه من السلطة، وتُلغي مناطق الحُكم الذاتي الناشئة وتوقف عمليات التفاوض على نُظمها الخاصة، أي توقف «تمزّق إسبانيا» حسب تعبير اليمين الفرانكوي. لم تُعلَن تلك الحكومة العسكرية، وأُقِرَّت حكومة كالبو سوتيلو، التي أدارت البلاد لحوالي عامٍ قبل الانتصار الساحق للحزب الاشتراكي بقيادة فيليبي غونثالث، الذي سيحكم إسبانيا طوال 13 عاماً بعدها، لكن تلك الهزّة أعادت ضبط مطامح النخب المركزية والطرفية ضمن «وضع قائم» سيستمر حتى اليوم.
لم يكن التحويل الديموقراطي ناجحاً فحسب في أنه استطاع إعادة إنتاج النظام السياسي الإسباني على شكل برلماني ديموقراطي على الطراز الأوروبي بشكل سلس إلى حدّ كبير، في بلدٍ تاريخه متخمٌ بالحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، بل نجح أيضاً في تقديم الوضع القائم الخارج من محاولة انقلاب عام 1981، أي الناتج عن «توازن الضعف» وعن محدودية إمكانية إجراء «قطع ديموقراطي» كامل مع الماضي الفرانكوي، كما كانت تُطالب أحزاب اليسار، كقصة نجاح باهر، كأسطورة مؤسسّة مبنيّة على توافق عام بين نُخب حققت الإرادة الشعبية بألا تحصل حرب أهلية جديدة في إسبانيا، واستطاعت بناء إطار سياسي احتوى، إلى حدّ كبير، مختلف التيارات السياسية، أكان على المستوى الإيديولوجي أو على مستوى المطامح الإقليمية، خاصةً في كتالونيا والباسك، وسمح بإطلاق الحريات العامة والسياسية، وإعادة تشكيل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية العامة، وتقريب إسبانيا إلى غيرها من السياقات الأوروبية وإدخالها فضاء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. هذا كله صحيح موضوعياً، لكن من الصحيح أيضاً أن التحويل الديموقراطي و«لحظة 1978 التوافقية» لم يُشكلا قطعاً ديموقراطياً نهائياً مع عهد فرانكو، ولم يفتحا أي ملفات شائكة مُتعلقة بالمحاسبة وجبر الضرر لضحايا الحرب الأهلية وعقود الديكتاتورية الطويلة، ولا تمكّنت من تقديم حلّ نهائي لـ «المعضلة» الإسبانية المتعلّقة بغياب «فكرة إسبانيا» بل تمّ تسويق أن «التوافق من أجل ألا تقع حرب أهلية جديدة» هي «فكرة إسبانيا»، و«معجزة دستور 1978» هي البلسم السحري لكل القضايا العالقة، على مستوى الفكرة العامة للبلد أو جغرافيته السياسية أو علاقته مع القوميات الطرفية فيه. بقولٍ آخر، تم تقديم ما كان فعلاً «أفضل الممكنات» ضمن ظروف نهاية السبعينات على أنه «حلّ نهائي» ومثالي يتعالى في كماله على ظروف التاريخ والمجتمع والسياسة وموازين القوى المتغيّرة.
الواقع أن «لحظة السحر» الدستورية كانت كذلك فعلاً على مدى العقدين ونصف التاليين، وكانت مرِنة لدرجة أنها قدّمت أدوات تدعم سرديات مُتخيّلة لأضداد، فقد اقتنع جزء كبير من الجو المُناهض تاريخياً لفرانكو أن التحويل الديمقراطي هو تجاوز لتلك المرحلة الكالحة؛ وقدّمت بالوقت ذاته الحدّ الأدنى الكافي من الضمانات لـ «الفرانكوية السوسيولوجيّة»، أي مُركّب السياسة والمال القادم من العقدين الأخيرين من عهد فرانكو، والتعبير لفاثكث مونتالبان كي لا تشعر بمصالحها وامتيازاتها ومواقعها مُهدّدة بالقدر الذي قد يُشجّعها على دعم مغامرات انقلابية عنيفة. لكن ظهور أجيال جديدة لا تتذكر ماذا يعني الرعب من انقلاب عسكري يقوم به الجيش -الذي بقي موالياً بشراسة لذخر فرانكو حتى مرحلة متقدمة من الثمانينات- وتغيّر المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع بداية العقد الأول من القرن الحالي، جعلت الأثر الشفائي لرمزية «لحظة 1978» كجواب على كل أسئلة «المعضلة الاسبانية» يتلاشى شيئاً فشيء، وبدأت روحيّة التوافق والتفاهم والتنازلات المتبادلة ضمن السياق الدستوري تتلاشى لصالح دولتيّة إجرائية تُقدّم هذا الدستور والقوانين المنبثقة عنه ليس بوصفه ناتجاً عن «توازن الضعف»، بل كونه تعبيراً مقدّساً لـ «فكرة إسبانيا» الوحيدة الممكنة، ولا يجوز مساءلة قدسيته ولا البحث عن أجوبة مختلفة عنه، حتى لو مختلفة بالتفاصيل أو باحثة عن تطويره وتحديثه وفق متطلبات العصر، أي تم تحويل دستور 1978 إلى «قفل» حسب التعبير الدارج في السجال السياسي الإسباني، بعد أن كان قد وُلِد نتيجة لحظة بحث عن فتح المجال السياسي. صدّقت سردية 1978 مدحها لنفسها، وباتت تقدّس ذاتها بإفراط.
وقد وجد هذا الأمر ذروته مع تحوّل الدستور إلى أداة رمزية في يد القوى النافية لسياسية المسألة الكتلونية ضمن نُخب مدريد ضمن الحزب الشعبي الحاكم، والذي للمفارقة، يُدافع اليوم عن دستورٍ لم يكن قسم كبير من مؤسسي الحزب متحمسين له حين أٌقر، بل كانوا على يمينه في المسائل الاجتماعية، وفي مسألة اللامركزية. تستخدم أوساط الحكومة الإسبانية السياسية والإعلامية رمزية الدستور بخشبية وموتورية، وانعدام أي مرونة ورغبة بالمسايسة والبحث عن توافقات وتفاهمات لتحديث الوضع الدستوري كان بإمكانها أن تخفف الاحتقان الكتلوني وتمنع وصول النخب الكتلونية القومية (والتي هي فعلياً جزء جوهري من نخب 1978، للمفارقة) إلى تصعيدات انتحارية خلال مرحلة «تصادم القطارات» الأخيرة. هذه اللاسياسة المفرطة، وتحويل كل القضايا الخلافية السياسية والهوياتية إلى إجرائية قانونية، وهي سياسة وخطاب الحزب الشعبي، ولكن أيضاً جزء جوهري من خطاب الحزب الاشتراكي (رغم فروقات كبيرة في حدّية الخطاب)، هي ما ينزع عن دستور 1978 أهم معالمه: أنه كان تعبيراً عن مقدرة استثنائية على التفاوض والتنازل والمناورة في تاريخ السياسة الإسبانية، وبالتالي تُبطل مفعول رمزيته الذي كان بلسمياً خلال عقدين ونصف، وتُسرّع في إنهاء صلاحيته عبر القضاء على أهم علل تكوينه وأفضل نتائج وجوده.
بيضة القبان
على مستوى الهندسة الانتخابية للنظام السياسي الإسباني، وبحثاً عن أوضاع مُستقرة مُنتجة -على غرار أغلب الديموقراطيات الأوروبية- لثنائيات حزبية ليبرالية مُحافظة واشتراكية ديموقراطية تستحوذ على غالبية الطيف البرلماني، انتهى تصميم النظام الانتخابي الإسباني إلى الإبقاء على المُحافظة كدائرة انتخابية في الانتخابات التشريعية (هناك خمسون محافظة إسبانية، وكل مقاطعة تتكوّن من عدد من المحافظات، أو من محافظة واحدة في بعض الحالات)، واستخدام صيغة من معادلة «دهونت» لاحتساب الأصوات وإقرانها بتمثيل سياسي أدت فعلياً لتسهيل هذه المسألة عبر تثقيل تمثيل الخيارين الأكثر إحرازاً للأصوات (على حساب الخيار الثالث وما يليه)، ولكن أيضاً تثقيل تمثيل الخيارات الانتخابية التي تتركّز أصواتها في عدد قليل من المحافظات مقارنةً بتلك التي تتوزّع أصواتها على مساحة جغرافية أوسع. هذا أدّى لتحجيم الحزب الشيوعي الإسباني الذي بقي يحلّ ثالثاً دوماً خلف الحزب الاشتراكي واتحاد المركز الديموقراطي (ثم الحزب الشعبي كوريث لليمين الوسط واليمين الإسباني)، ولكن أدّى أيضاً لتضخيم الحيّز البرلماني للأحزاب القومية الطرفية في البرلمان الإسباني: مئتي ألف صوت في محافظات إقليم الباسك قد تُحرز قرابة 15 نائباً، في حين ربما يفشل مليون صوت للحزب الشيوعي متوزعة على الجغرافيا الاسبانية في إحراز أكثر من نائبين أو ثلاثة. أدّى هذا الأمر إلى سيطرة الثنائية الحزبية الليبرالية المحافظة -الاشتراكية الديموقراطية على الأغلبية الساحقة من القوس البرلماني طوال ثلاثة عقود ونصف، وتترك حوالي ربع البرلمان للخيارين القوميين المُحافظين، الباسكي والكتلوني، وقرابة عشرة بالمئة الباقية للخيارات الهامشية.
أدّى هذا التقسيم الانتخابي التاريخي، الذي زادت ونقصت نسبه بشكل طفيف خلال الانتخابات التشريعية المتتالية قبل 2015، التي لم يتغيّر فيها إلا هوية الحزب في الصدارة الإسبانية، إلى لعب الحزبين القوميين المحافظين الطرفيين الأكبرين، ائتلاف الاتحاد والتلاقي الكتلوني والحزب القومي الباسكي (ولكل منهما، عادةً، ما بين 10 و15 نائباً)، دور بيضة القُبّان، ليس فقط على مستوى تشكيل حكومات لدى غياب أغلبية مطلقة لحزب واحد في البرلمان الإسباني، ولكن أيضاً لتمرير الموازنات السنوية العامة والقوانين الأكثر إشكالية. دورٌ كانت تلعبه هذه الأحزاب (وسنخصص الحديث هنا عن القوميين المُحافظين الكتلونيين) لصالح زيادة نفوذهما وهيمنتهما وشبكة مصالحهما في الأقاليم، التي هيمنوا على حكمها بشكل غير منقطع تقريباً منذ إقرار الدستور وحتى اليوم.
وصل جوردي بوجول إلى الحكم في كتالونيا عام 1980، وهو سياسي لامع قادم من تراث المسيحية الديموقراطية الكتلونية، ومُعبّر مثالي عن البرجوازية المدينية الكتلونية ونزعاتها وهواجس علاقتها مع المركز الإسباني، وهيمن على المشهد السياسي الكتلوني طوال 23 عاماً، وعمل على صياغته وصياغة علاقته مع المركز الإسباني. لم يحمل عهد بوجول أي نزعات انفصالية أو توجهات نحو تصعيد الخلاف الهوياتي مع المركز الإسباني، بل كان حاملاً لهواجس الخصوصية والتميّز والدفاع عن مكانة كتالونيا الاقتصادية وحقّها بأن تتلقى مزايا وصلاحيات وتمويلات أكثر، كونها «المحرك الاقتصادي لإسبانيا». على هذا الأساس، أتقن بوجول لعب دور بيضة القبّان مع حكومات مدريد المتتالية، إذ تفاهم مع الحكومات الاشتراكية في الثمانينات وتعاون مع فيليبي غونثالث وسانده في سياساته العامة، وحصل منه في المقابل على مردودات سياسية واقتصادية ساعدته على توطيد حُكم ائتلاف الاتحاد والتلاقي في كتالونيا، وتشكيل شبكته الزبائنية المُعتمدة على شبكة الشركات العامة والمؤسسات والهيئات الاقتصادية والثقافية الإقليمية، التي تضخمت حتى تجاوز عدد موظفيها الـ 120 ألفاً. تُوّج التفاهم مع الاشتراكيين رمزياً في نجاح استضافة برشلونة لأولمبياد عام 1992، في بلدية يحكمها الاشتراكيون وإقليم يحكمه القوميون الكتلونيون. وبقيت هذه الممارسة، أي تأجير الأصوات في برلمان مدريد مقابل إجراءات مفيدة لهم في كتالونيا، هي دور القوميين الكتلونيين المحافظين حتى ما بعد خسارتهم إدارة كتالونيا مؤقتاً على يد تحالف ثلاثي مكوّن من اليسارين الإسباني والجمهوري الكتلوني أواسط العقد الماضي، ثم عودتهم إلى الحكم الإقليمي، بل بقي قائماً أيضاً حتى ما بعد اندلاع الأزمة الكتلونية الأخيرة.
أزمة دستور 1978، وأزمة نخبه
بقي الوضع القائم إثر التحوّل الديموقراطي مستقراً طوال ثلاثة عقود ونيف، وبقيت العلاقات بين النُخب مستقرة ضمن أطر وهوامش قد تعيش تحوّلات وتغيّرات جزئية فيما بين مكوّناتها، لكن دون تغيرات تُذكر في محصلة العلاقات النهائية، ساعد على ذلك رخاء اقتصادي نتج عن التحولات البنيوية في الاقتصاد الإسباني في الثمانينات، ودعم أوروبي سخي لهذه التحوّلات. لكن الشروخ البنيوية بدأت بالظهور خلال حكومة خوسي لويس ثاباتيرو، أي الحكومة التي وصلت إلى السلطة في انتخابات 2004، الأكثر سخونةً واستقطاباً وانفعالاً في تاريخ إسبانيا القريب كونها أتت مباشرةً بعد مشاركة حكومة أثنار اليمينية في الغطاء السياسي لغزو العراق عام 2003 (ما لقي رفضاً شعبياً كاسحاً حتى ضمن القاعدة الانتخابية اليمينية الإسبانية)، وبعد تفجيرات آذار 2004 في مدريد، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 191 شخصاً، وأثارت طريقة إدارة حكومة أثنار للأيام التالية لها -بحثاً عن اتهام إيتا بدل القاعدة، وتالياً نفي علاقة تورّط إسبانيا في حرب العراق بها- موجة استياء عارمة، أدّت لخسارة الانتخابات ووصول الاشتراكيين إلى الحكم مجدداً.
وسط استقطاب عالٍ، خرج ثاباتيرو عن بعض تقاليد الاشتراكيين الإسبان بوصفهم «حزب نظام» يعمل على عدم فتح ملفات شائكة قد تُقوّض تفاهمات المرحلة الدستورية، فبالاستفادة من تمترس الحزب الشعبي اليميني حول ذاته الغاضبة المترنّحة جراء الهزيمة المفاجئة، وبالتوافق مع كل ما تبقّى من القوس البرلماني، شَرَّعَ زواج المثليين؛ وعدّل قوانين الإجهاض والطلاق؛ وفتح مساراً تشريعياً لإقرار قانون الذاكرة التاريخية وفتح ملف ضحايا نظام فرانكو؛ وبدأ تفاهمات مع القوميات الطرفية وأقاليم أخرى لتعديل قوانين حُكمها الذاتي؛ وأعلن أنه سيبحث عن حلٍّ تفاوضي مع قيادة تنظيم إيتا الإرهابي على غرار التفاهم ما بين بريطانيا والجيش الجمهوري الإيرلندي في التسعينات. بكثير من الشجاعة، وكثير من السذاجة أيضاً، أخرج ثاباتيرو كلّ مَرَدَة الرعب اليميني الإسباني من قماقمها. أثار هذا الأمر غضباً عارماً في اليمين الإسباني، الذي لم يكن قد استفاق بعد من صدمة خسارته لانتخابات 2004، التي كان من المتوقع أن يكتسح فيها لولا أزمات ربع الساعة الأخيرة في العراق وتفجيرات مدريد. وعاشت إسبانيا شهوراً من الاستقطاب الحامي، ومظاهرات واحتشادات متضادّة أمام كل موضوع واستحقاق. وسط هذا الاستحقاق كان تحالف ثلاثي من اشتراكيين إسبان وجمهوريين كتلونيين، بمساندة من اليسار المتحد قد انتزع الحُكم في كتالونيا عام 2003، وقرر اليساريون استغلال فرصة وجود حُكومتين اشتراكيتين في كتالونيا وإسبانيا لإقرار قانون ناظم جديد للحكم الذاتي في كتالونيا، يوسّع من صلاحيات الإقليم الاقتصادية والسياسية ويمنحه مطالبات تاريخية رمزية تصل إلى حدّ نوع من التمثيل الخارجي المستقل. أُقرّ هذا القانون الجديد في برلماني كتالونيا وإسبانيا، لكن الحزب الشعبي نجح، عبر اللجوء للمحكمة الدستورية، في تجميد تطبيقه، ثم إلغائه الفعلي بقرار من المحكمة، كونه، حسب قرارها، يتخطى الحدود التي رسمها دستور 1978 لهندسة «دولة أقاليم الحكم الذاتي» في العديد من نقاطه.
أتى قرار المحكمة هذا عام 2010 في سياق أزمة اقتصادية طاحنة ضربت إسبانيا ابتداءً من عام 2008، وأدّت لاتخاذ إجراءات تقشفية قاسية من قبل الحكومة الاشتراكية أدّت لانهيار شعبيتها. امتدت مفاعيل الأزمة إلى عمق التكوين السياسي لنخب الحكم والتشريع في إسبانيا وكتالونيا، لا سيما إثر اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أيار 2011 واعتصام ساحة سول، الذي وجد مثيله في ساحة كتالونيا في برشلونة. احتجاجات استمرت خلال السنوات التالية ونجحت تعبيراتها السياسية، بوديموس في إسبانيا، واليسار الجمهوري الكتلوني وكتلة «مرشحي الوحدة الشعبية» اليسارية وحزب مواطنون (الذي يمثّل الخيار الإسباني في كتالونيا، والرافض للامركزية المفرطة على الساحة الإسبانية) في كتالونيا في خلخلة الثنائية الحزبية التاريخية في برلماني إسبانيا وكتالونيا، ورسمت أقواساً برلمانية أكثر تنوعاً، وبالتالي أكثر تعقيداً للحصول على أغلبيات.
وسط هذا الزلزال السياسي، عاد الحزبان اليمينيان إلى الحُكم في كتالونيا وإسبانيا تباعاً مع نهاية العقد الماضي وبداية الحالي. كان عليهما أن يديرا الأجندة التقشفية وسط الأزمة الاقتصادية، وعلاقة معقدة بينهما ناتجة عن دور الحزب الشعبي الإسباني في إحباط توسيع الحُكم الذاتي في كتالونيا، ولكن أيضاً وسط طوفان من فضائح الفساد الكُبرى التي طاولت شخصيات كبرى داخل الحزب الشعبي الإسباني وداخل اليمين الكتلوني، من طراز تلقّي رشاوي من شركات ورجال أعمال للحصول على عقود مع الإدارات، واستخدام هذه الرشاوي، عبر شبكات تبييض، للتمويل غير الشرعي للحزب ولإثراء شخصيات جوهرية فيه.
على مستوى إسبانيا، حكم القضاء على الحزب الشعبي ككل بتهمة التمويل غير المشروع عبر شبكات الرشاوي هذه، ويمثل جهاز إدارته المالية بالكامل أمام القضاء، ولديه قائمة طويلة من فضائح الفساد تجعله أكثر أحزاب أوروبا فساداً. أما على الصعيد الكتلوني فحصل أمر مشابه، وحوكمت شخصيات عديدة تبوأت مناصب في الحكومة الإقليمية أو في الهيئات والمؤسسات المنبثقة عنها، أحدها هو جوردي بوجول، الزعيم التاريخي لليمين القومي الكتلوني، الذي يمثل وعائلته أمام القضاء بعد افتضاح سنوات طويلة من الإثراء غير المشروع وتهريب الأموال نحو «جنّات ضريبية» في سويسرا وأندورّا.
للأزمة الحالية في كتالونيا أسباب تاريخية بعيدة، تعود إلى عمق «المعضلة الإسبانية»، وأسباب قريبة تتعلّق بإحباط تفاهم على توسيع الحُكم الذاتي الكتلوني ضمن الإطار الراهن لدستور 1978. لكن طريقة إدارة الأزمة ونمط تصعيدها وصولاً إلى حالة «تصادم القطارات» كانت ناتجة بشكل أساسي عن أزمة النخبتين الإسبانية والكتلونية الحاكمتين، وهروب كلّ من أزمته وفضائحه إلى الأمام نحو صِدام عالِ النبرة وسهل التحشيد وابتزازي للأفرقاء السياسيين في المستويين الإسباني والكتلوني: لا وقت للحديث عن سوء إدارة الأزمة الاجتماعية- الاقتصادية، أو مساءلة تاريخ مديد من الفساد البنيوي المُرعب عندما تكون «المسألة القومية» لكل من الطرفين أمام استحقاق. هكذا، يتحالف القوميون الكتلونيون اليمينيون مع اليسار الكتلوني في مواجهة «اعتداء المركز»، ويتحالف الاشتراكي الإسباني مع الحزب الشعبي على تطبيق المادة 155 من الدستور وعزل حكومة كتالونيا لأن هناك «اعتداءً انفصالياً» على وحدة إسبانيا، وعلى الشرعية الدستورية الإسبانية.
أعلام اسبانيّة ضخمة على أبنية في مدريد. لم تشع مشاهد كهذه قبلاً إلا خلال بطولات كرة القدم. واليوم العلم الإسباني رمز مناهض لكتالونيا
تظهر يومياً أخبار كانت ستكون زلزالاً فضائحياً، أو على الأقل تحظى باهتمام وتغطية وسجال سياسي وشعبي واسعين في أزمنة أخرى، مثل فضيحة فساد جديدة، أو حكم قضائي جديد على أحد شخصيات النُخب، أو حتى إلقاء القبض على قياديين في منظمة إيتا في ألمانيا قبل أيام، لكنها تمرّ دون اهتمام أمام طوفان الأعلام الكتلونية في شوارع برشلونة وتارّاغونا وجيرونا، وأعلام إسبانيا في مدريد وإشبيلية وفالنثيا. مظلومية كتلونية حول «إسبانيا التي تسرقهم» يُقابلها سُعارٌ دولتي إسباني، يتواجهان عبر عنف لفظي في المنابر السياسية والإعلامية، وفي المظاهرات والاحتشادات هنا وهناك، لم يُشهد له مثيل حتى في أصعب لحظات التحوّل الديموقراطي الإسباني في السبعينات، أو في أزمة أواسط العقد الماضي. طوفان الأعلام المتضادة المُعلّقة على الشرفات (والتي تُذكّر نكتة دارجة أن جميعها، باختلافها وتضادها، مصنوعٌ في الصين) يُخفي أزمة تاريخية عميقة، وأزمة نُخب فاسدة ومتواضعة الأداء والأفق والخيال، حتى بالمقارنة مع نخب التحويل الديموقراطي، التي كانت جاهلة وقليلة الأفق ودون ماضٍ ديموقراطي تتعلم منه السياسة. هي أزمة تتعدّى إمكانية حلّها عبر الهروب من استحقاق سياسي وتحويله لمسألة إجرائية وقضائية تنتهي بعزل الحكومة الإقليمية وفتح عملية قضائية ضد رموزها، هي أزمة تضع إسبانيا في مواجهة تاريخها في المستقبل القريب جداً.
وإسبانيا -وهذا ليس استثناءً خاصاً بها- فاشلة بامتياز في مواجهة تاريخها دون أن تصطك رُكبها رُعباً. لكنها مضطرة لهذه المواجهة قريباً جداً، ليس فقط على مستوى العلاقة مع كتالونيا، بل أيضاً على مستوى الأثر المدمّر الذي تركه أسلوب إدارة الأزمات الأخيرة على آلية صنع التوافقات السياسية في كل مستويات السياسة الإسبانية، وترجمة هذه التوافقات إلى أطر سياسية استيعابية وغير طارّدة. السعار الانتصاري للدولتية الإسبانية لن يدوم طويلاً، والمظلومية الكتلونية محدودة الخيارات أمام سياق سياسي داخلي ودولي يجعل خيار الانفصال مستحيلاً. لكن المسؤولية الكبرى تقع، بطبيعة الحال، على عاتق الأكبر والأقوى، والمُنتصر حالياً.
ماريانو راخوي، رئيس الوزراء الإسباني، وخلفه نخبة الدولتية الإسبانية، لا يعرفون من السياسة إلا شراء الوقت، وقد قاربوا على الإفلاس، إذ أنفقوا كل ما لديهم على شراء أعلام إسبانية من معامل صينية.