كنا نعتقدُ أن الأصعب في موضوع الخروج بدايةً هو تأمين المهرّب، ويستحيل ألّا يكون المهرّبون من عناصر التنظيم أو من المتعاونين معهم. «500 دولار يا أبو صهيب؟!! والكعبة ما عندي»، يقولها حمودي باستنكار وتوسل. يوقف أبو صهيب تخليل لحيته بأصابعه بعصبية، تجحظ عيناه ويصرخ بحمودي: «اتق الله… اتق الله بنفسك يا شيخ، والله وبالله وتالله لو مو أنك حمودي، ولو مو القبضة خالصة شحن، كنت ناديت الحسبة وخليتهم يشحطونك شحط، من حلف بغير الله فقد أشرك يا شيخ».
«أهوووو أستغفر الله العظيم… أستغفر الله العظيم، التوبة يا ربي التوبة، خيو أب صهيب الغالي غلطنا ومنك السماح».
وهنا تدخلت أمي مخاطبة أبا صهيب، بعد أن أحسّت أن حمودي قد تورط. تقدمت باتجاهه وهي تمسك عكازها بيدها اليمنى، وبيدها اليسرى تثبت نظارتها، إذ كانت ابنة أخي حمودي قد كسرت حاملي النظارة: «يا ابني يا أبو صهيب، حمودي ما يقصد، ومن ضيق الحال وخوفه على البنات خرجت زلة من لسانه، وهذا لغو يا ابني، والله ما يواخذنا عليه… مو؟ يا ابني نقسم البيدر، حمودي يدفع لك 250، والله أنت تعرف الحال… أو تتركونا نموت هنا وخطا موتنا برقابكم».
«يا خالتي والله لو أنهن لي ما مشكلة، إنتِ تعرفين، هذن للفوق»، وأشار بسبابته إلى الأعلى. وهنا انفلتت أمي عليه، وخرجت عن مسكنتها التي اصطنعتها للتودد إليه: «يوااال… ابن شويهه… يوال حوّام… “أبو خنّة”، منو اللي فوق؟ لـ الله يعني، الله ما يريد دولارات، كنت تدبرلنا خبز تقول هذن الزيادة للفوق، ولما تدبرلنا جرة غاز أو برميل مازوت تقول هذن للفوق، وما خليت بسكليت ومتور بالحارة وما سرقته، وما تركت مظاهرة وما فسدت لأبو جاسم على شبابها، ولمن جى الجيش الحر محدا كفلك عند “أبو عيسى” غير أبو حمودي، وبعد كم يوم وأنك تفحّط بالبيكام وأنك جيش حر، ولمن جم «الدولة» وأنك تكية من أولي ولحية وأفغانية، وقال الله وقال الرسول، وما خليت بيت واحد من الجيش الحر وما دليت عليه. يواااال… “سعيّد” الحزّ إني أروح على دولتك وأقلهم على سوالفك كلهن». وأخذت تضربه بعكازها: «يوال… ابن شويهه، أمك ما ظل واحد بمعمل السوس وما نط عليها، والحزّ تريد 500… يوال».
خارج السياق القصة، سأشرح لك بعض ما لم تفهمه ربما
«سعيّد» هو تصغيرٌ لاسم سعيد، الذي هو نفسه أبو صهيب بعد أن انتسب لداعش، وهو نفسه من يطلق عليه أقرانه من أولاد حارتنا بالحارة «أبو خنّة»، والخنّة هي المخطة النازلة من الأنف، إذ كان أنفه دائم السيلان حتى التصق به هذا الاسم. لم ينجح في دراسته، وامتهن سرقة الدراجات إلى أن عمل مع جماعة شيخ الجبل بتهريب الدخان، وشكل مافيا لذلك. وحسب تقاسم النفوذ بين هذه المافيات، فهو يسيطر على تجارة الدخان المهرّب، والخبز والغاز، من دوار الصوامع إلى دوار حزيمة في الطرف الشمالي للمدينة. وكان حتى يحافظ على عمله، يعمل كمخبر لدى أغلب فروع الأمن، إلى أن صار الزلمة الخاص لأبو جاسم، أحد أشهر وأوسخ عناصر الأمن العسكري بالرقة. وسعيّد أو أبو صهيب بدأ بتهريب الناس من الرقة بالشراكة مع أميره التونسي، وأمه اسمها «شاهه»، وفي الحارة تسمى «شويهه»، وتصغير الاسم هنا للتقليل من القدر، ويقال إنها على علاقة بكل الرجال في معمل السوس، الذي يقع في حي الرميلة، والذي أغلب عاملاته من حارتنا كون صاحبه من حارتنا أيضاً. أما أبو عيسى الذي قالت أمي إن أبي كَفِلَ أبا صهيب عنده، فهو قائد لواء ثوار الرقة.
بالعودة إلى سياق القصة
علا صراخُ أمي، حتى طغى على هدير الطائرات وأصوات الانفجارات التي لا تغيب لحظة عن سماء المدينة. ومع صراخها، تخلى الجميع عن الحذر من التجمع خيفة القصف، حتى الأطفال الذين نخبئهم في الحمام عادةً لأنه المكان الأكثر أمناً في البيت حسب اعتقادنا، التمّوا في أرض الحوش، عداك عن وجود عنصر «دولة» في الحوش. حمودي، أخي الأوحد وأبو صهيب من جهة، وأمي وعكازها وحفيداتها الثلاثة وأمهن ونحن بناتها الأربعة، وأنا أكبرهن، من الجهة الأخرى. ولعلّنا جميعاً لم نكن أكثر ذهولاً وخوفاً من حمودي من ردة فعل أبي صهيب، الذي فاجئنا بأن استكان لطلبات أمي، ولم ينبس ببنت شفة غير: «أمرك حجة، جهزوا حالكم اليوم بالليل»، وأخذَ حمودي معه لاستكشاف الطريق، وليحضر معه الـ «ب. ب. دور».
دخلنا غرفنا، أنا وميوّدة ومجوّدة وسعوّدة، وبدأنا النميمة على والدتنا، والبداية كانت من مساومتها لأبو صهيب: «ما قيمة النقود في هذا الظرف، ما قيمة ذهبنا جميعاً، الذي باعته وحولته إلى دولار، وهو ليس قليلاً، هو نتاج سنوات من العمل لثلاثة منا كمدرسات، وواحدة كموظفة بالبنك العقاري، ميادة هي موظفة البنك وهي الأصغر بيننا».
خارج سياق القصة، سأشرح لك بعض الأمور حتى تتوضح لك الصورة
في الحقيقة من يتحكم بأمورنا وحياتنا وقراراتنا حتى الشخصية منها هي أمي، وليس الشقيق الوحيد على أربع بنات، حمودي. على فكرة، اسمه أحمد، وميوّدة اسمها ميادة، ومجوّدة هي أمجاد، وسعوّدة اسمها سعاد، ولكن أمي تنادينا بهذه الأسماء للدلع. وحتى على «دور أبي الله يرحمو»، عندما كان يعيش معنا قبل أن «يطقّ» عقله من أمي وتسلّطها ويتزوج مرّةً ثانية، أقول حتى على دور أبي لم يكن له كلمة، حتى أننا من زمان لم نعد نفكر بالأمر، فأمي هي اللي تفكر. وبصراحة، الموظفة المتقاعدة من وظيفتها كمعلمة لـ 42 سنة، أوصلتنا جميعاً إلى ما تقول عنه هي «برّ الأمان» من ناحية الدراسة، ووظفتنا جميعاً، ولكنها لم تستطع أن تزوجنا، أو بالأحرى لم يقترب العرسان لمعرفة الجميع بسلاطة وسلطة أمنا. فقط حمودي وحيدها زوجته ابنة أختها، وهي تعيد مع طفلاته الثلاثة ما بدأته معنا.
بالعودة إلى سياق القصة
كانت أمي من أشدّ المعارضين لخروجنا من المدينة، ولن أقول لك كلاماً عاطفياً عن تعلقها وتعلقنا بالرقة وببيتنا، هنا، من دون تأثير أمي علينا. ربما يكون هذا من الأمور القليلة التي وافقناها عليها عن قناعة، ولكن ما حصل في الأيام الاخيرة لا يمكن تحملّه، لا يمكن لبشريٍ إن شاهد أو سمع. ما شاهدناه لم يحصل في تاريخ حرب في العالم كله على ما قرأنا في كتب التاريخ، أو على ما شهدنا حتى في أفلام الخيال العلمي أو حرب النجوم. لماذا كل هذا الحقد؟ نحن أيضاً نكره داعش ونريد أن نتخلص منها، ولكن هم، وأشارت بأصبعها إلى الأعلى حيث كانت طائرةٌ عائدةً من قصف المدينة، هم من صنعوا داعش، فلينهوها كما صنعوها، وليس عبر تدمير البشر والحجر والشجر والتراب والفرات، هناك حقدٌ أكبر من حربهم على داعش، هناك شيءٌ غير مفهوم.
جانب من الدمار في الرقة / من صفحة الرقة تذبح بصمت على فيسبوك
وذات لحظة في هذا الجحيم الرقّيّ، وبعد عدة غارات متلاحقة أدت إلى تحول ثلاث بنايات في أول الشارع إلى كومة إسمنت ولحم وتراب، قرَّرَت أمي أنه صار وقت الخروج، وبدأ البحث عن مهرب، وكان مستشارها المخلص في ذلك هو أبو صهيب، أما سرّ إخلاصه لأمي، وثقة أمي به، فهو أمرٌ لا نعرفه.
صمتَ هدير الطائرات، وبالتالي الانفجارات، وهنا وصلَ صوت مؤذنٍ لصلاةِ عصرِ يومٍ ربما يكون الأخير لنا في دولة الخلافة. في الحقيقة منذ زمن طويل لم نعد نسمع من الأصوات العالية سوى أصوات الطائرات والانفجارات، وفي الفسحة نادرة الحدوث يصلنا أحياناً صوت مؤذنٍ ما، فلا زمامير سيارات، ولا بياع الغاز وهو يضرب بقطعة حديد على قناني الغاز، ولا صياح أطفال الجيران يلعبون تحت النافذة. فقط أصوات الطائرات والانفجارات، وصوت المؤذن أحياناً، وكلٌّ منهما يدعوك لبضاعته.
والدتي تروح وتجيء، تخلّت عن عكازها الذي لم تتخلَ عنه منذ أن أوصت عليه حمودي فجأةً قبل شهر، رغم أنها لم تزر الدكتور محمد آخر الأطباء الموجودين للناس، وأيضاً لم تشكُ من تعب حتى تتسند عليه. أسندت عكازها جانباً، وبيدها راحت تتلمس كل شيء، مسكات الأبواب، خزانة الصمديات، وحتى صورة المرحوم أبي التي تتوسط صورنا وبراويز شهاداتنا الجامعية، تجرُّ أطراف الستائر المنسدلة أصلاً، تغلق حنفيات الماء على المغاسل وفي الحمام، رغم أن هذه الحنفيات لم تنقط نقطة منذ أشهر، تفتح أبواب خزانة ملابسها وتغلقها، توصينا للمرة ربما الألف أن نتفقد ما وضعناه في الحقائب.
«وأنتي»، توجه أمي عكازها نحو ميادة مخاطبةً إياها: «ميودة، فارة الكتب، مثقفة زمانك، الحزّ أفتش شنتايتك، إذا بيها كتاب واحد رح أشقو، لأنو إذا مسكونا الحسبة رح يحرقوه فوق راسك وراسي». لم تنتظر جواباً، وكانت متأكدة أن في حقيبة ميادة، ليس كتاب بل مجموعة كتب. تعود أمي وتتفقد ما تفقدته سابقاً، وعند كل صوت انفجار تقول «حمودي تأخر مو؟ يا بنات قبل ما أطفي المولدة هواتفكن أريدها مشحونة، و”الليزرات” كمان».
صوت طائرة قريبة، سيعقبه الآن صفير صاروخ، الكل يركض إلى الحمام، بووووووم، ارتجت الأرض كما لم ترتج يوماً. «حموديييييي» صاحت أمي، ولكن ضاع صوتها مع بوووووم أخرى قريبة أيضاً.
هدأت حدة القصف وسكن الغبار، وهدأت أمي أيضاً لحظة دخول حمودي مغبراً يحمل كيس الـ «ب. ب. دور» بيده. أخذ يخاطب أمي بلسان متلعثم: «يووم… يماااا… ول يووووم… بناية الجعابي تكومت كلها على الأرض، ما طلع منهم ولا واحد يووووم… تخيلي حتى سيارة إسعاف أو دراجة من “الدولة” ما في».
أخذت أمي عكازها وأخذت تلطم: «جيران العمر يايما… يايما… نامي عليهم طبق يا قاع، نامي على حلوين الطباع، الله يرحمكم الله يسامحكم. وأنتم، وأشارت بيدها الى السماء، الله لا يرحم بيكم ولا عظم يا ولد الكلب، أبوكم وأبو داعش». أول مرة تلفظ أمي اسم داعش، دائماً كانت تسميهم «الدولة».
خارج السياق، أو أكثر التصاقاً
بناية الجعابي في آخر شارعنا، وتبعد عنا بحدود 200 م، يعيش فيها أبو محمود الجعابي، وحوالي 20 من أولاده وأحفاده وكنائنه. منذ أن بدأت عملية حصار المدينة، الأمر الوحيد الذي اتفق عليه داعش والتحالف هو عدم نجدة المدنيين، فطيران التحالف يهدم البنايات فوق أهلها، وداعش لا ترسل حتى عنصراً أو «تركس»، أو تحاول أن تخرج شخصاً من تحت الأنقاض. إذن هم متفقون. وأيضاً أمرٌ آخر أحبُّ أن أوضحه، أو أمران، وردت كلمة «يووم» وهي تعني يا أمي باللهجة الرقاوية، وكلمة «الدولة» هنا تعني داعش، فنحن لا نستطيع ولا نتجرأ أن نلفظ هذا المصطلح، ومن يثبت أنه قال داعش، يُجلَد أربعين جلدة وينام في القفص 24 ساعة، ويخضع لدورة شرعية ثلاثة أيام.
بالعودة إلى القصة
قال حمودي موجهاً الكلام للجميع: «اليوم الساعة عشرة المسا نمشي، تلبسون “بواط” رياضة، أحذية كعوب وتطقطق ممنوع، اللباس لازم يكون تحت العباية لباس يعطيكم أريحية بالحركة، بيجامات أو بنطلونات جينز».
بقي أربع ساعات، زادَ قلق أمي، زادت من دورانها داخل البيت، تفقدته شبراً شبراً، بل سنتيمتراً سنتيمتراً، «أقسم بالله أول مرة أشوف دمعة بعيونها وهي تلف السندويشات، وهي تسقي الزريعات»، أسألها: «لمن تسقينهن؟ يقولون “الملاحدة” يعفشون ويسرقون كل شي»، والملاحدة اسمٌ يطلقه إعلام وعناصر الدولة على القوات الكردية المهاجمة. تردّ عليّ: «معليش، حتى إذا أخذوهن يظلن عايشات، ويزينن شي بيت».
حمودي الذي نلتمّ حوله كلنا، وزوجته تنظف وجهه المغبر بمنشفة رطبة، يحكي لنا عن مشاهداته في خروجه المغامر مع أبي صهيب: «يا جماعة والله ما ظل غير نحن المدنيين، وحكام المدينة الجدد هم الذباب ورائحة الموت. تعرفن يا بنات، كل كم متر تشوفن كشات من الذباب فوق البنايات المهدمة، فقط الذباب هو من يعرف أين جثث البشر الذين اندفنوا تحت ركام بيوتهم، والكلاب والقطط يتكفلون بالجثث التي في الشوارع».
كلما اقترب الوقت تزداد عصبية أمي، ويزداد تفقدها لكل شيء للمرة المليون.
التاسعة والنصف، نصف الساعة الأخير في دولة الحلافة
سقت والدتي بيدها بنات أخي الثلاث الـ «ب. ب. دور»، وبجرعة مضاعفة، ولم تَرُدَّ على كلام أمهن. وضعت في جيب كل واحدة منهن، كما في جيابنا، رقم تلفون ابن خال أمي الذي يسكن ريف تل أبيض، وبيته مقصدنا في سِفر خروجنا هذا.
أجبرتنا على استخدام التواليت جميعاً عندما دقّ أبو صهيب الباب، تفقدت هندامنا متمهلةً، العباية، الدرع، الكفوف، غطاء الوجه، الأحذية، فاحتمال أن تصادفنا دوريات داعش كبيرٌ جداً. تفقدت «الكارة» على ظهري وظهر زوجة أخي وظهر حمودي، الكارة التي تغفو داخلها كلُّ واحدةٍ من البنات الثلاث على ظهر كلٍّ منّا. عند انتهائها من كل هذه التحضيرات، أدخلت أبا صهيب الذي أحضر مجموعة أخرى كانت معه، ولم يكونوا سوى بيت أبو صلاح، رابع بيت بعد بيتنا، وبدأ أبو صهيب يشرح للجميع خطة المشي والخروج.
خارج سياق النص لشرح نقطة
– تعرف الـ «ب. ب. دور» أليس كذلك؟ تستفهمني محدثتي.
– لا، أجبتُها.
– قالت: هو عبارة عن دواء على شكل شراب سائل يباع في الصيدليات، ويعطى للأطفال الذين يعانون من قلة النوم.
– يعني منوّم، قلتُ أنا.
– نعم، منوّم.
– وما الغاية؟
– حتى لا يبكي طفلٌ أو يتكلم بصوتٍ عالٍ، أو يصرخ خائفاً من شيءٍ ما. تعرف أن الأطفال لا يُسَيطَرُ عليهم، ولا يلتزمون بالتحذيرات.
أما الكارة فهي عبارة عن ثوب على طول الجسم، ولكن مشقوق من الأمام وأيضاً على طول الجسم. كانت الأمهات يضعن أطفالهن على ظهورهن، ثم يجمعن طرفي الثوب هذا ويربطنه على رؤوسهن، وبهذا تكمل المرأة أعمالها وفي الوقت نفسه تحمل طفلها، العملية تشبه جُراب الكنغر تقريباً، ولكن من ناحية الظهر لا البطن.
بالعودة إلى النص، وإلى تعليمات أبي صهيب الذي يشرح الخطة بصوت هامس
«نمشي ورا بعض واحد واحد بشكل رتل، واحد ينقل خطوته والثاني يضع قدمه مكانه، من هنا إلى مدرسة المعرّي لا يوجد مشكلة، المشكلة من الطرف الغربي لمدرسة المعرّي إلى الباب الغربي للحديقة البيضا، إذا خرجتم من الحديقة البيضا أصبحتم بالأمان الكامل، هناك يأخذكم الأكراد. ممنوع الهمس، سوف يمشي عبودي أخي، كلكم تعرفونه، أمامكم ككشّاف، وبعده أنا، وورائي حمودي وبعده أبو صلاح». وأبو صلاح والدٌ لثلاثة شباب وجدٌ لسبعة أحفاد، أكبر الأحفاد توأمٌ بعمر 14 سنة، وأصغرهم بعمر ثلاثة شهور، طبعاً معه كنّاته الثلاثة وأزواجهن.
يتابع أبو صهيب: «وبعدها النساء، وبالأخير صلاح وأخوته، ويوجد معي شابٌ آخر من الدولة سيكون كشّاف المؤخرة. اسمعوني جيداً، من يسمع منكم “تك” تحت قدمه ويحسّ كأنه دعس على “راصور” يجمد بمكانه، ويظل على الوضعية ذاتها ولا يتحرك ولا يصدر أي صوت، والذي يليه يكمل المشي، ولما ينتهي الرتل ويبتعد عنه حوالي 50 متراً، يتدبر أمر نفسه، هو وربّه واللغم».
يتابع أبو صهيب: «إذا أحسستَ أن قدمك عَلِقَت بخيط اثبت مكانك، واترك الكل يبتعدون، وبعدها ارمي بجسمك على الأرض، أيضاً أنت وربّك والعبوة، لأن الأخوة في الدولة أحياناً يضعون أشراكاً بين العبوات، خيط سمك لا يُرى. يا جماعة، إذا أصاب القناص، قناص الملاحدة أو قناص الدولة، الشخص الذي أمامك أو الذي خلفك، لا تحاول أن تساعده بشيء، لأنه على الأغلب سوف يموت، فطلقات القناص دائماً في الرأس. وإذا جاءتكم الطائرة “أم الرشّاش” أو سمعتم صوتها، فهذه أكثر شيء يُخاف منه. لا أريد أن أخيفكم، ولكن هذه لا أحد يقدر أن يتفاهم معها، لأنها ترى في الليل حتى دبيب النملة، ألقوا بأنفسكم تحت أي شيء أو في أقرب مدخل».
تتوالى تعليمات أبي صهيب التي نصغي لها بانتباه: «هناك أمرٌ آخر يا جماعة، أحياناً لازم نقطع شارع واحد واحد وركضاً، ركض يعني ركض، ولما تركضون اركضوا “زكزاك” بشكل متعرج، حتى إذا كان راصدكم قناص ما يصيبكم. أوصيتكم قبل، كل واحد منكم لازم يكون عندوا راية بيضا. الكل فهم عليّ؟ نتوكل على الله؟».
أومأنا برؤوسنا أن نعم.
تقول محدثتي: «هنا لا يبقى لك حقيقةً سوى هذا الشيء الروحاني “الأولي”، فتتذكر كل الآيات القرآنية اللي تحفظها، وتدخل بجو اتكالي إيماني، وحتى الشغلة الصغيرة التي ربما تغضب الرب تتذكرها، وتقوم تستغفر حتى على كثير من الأمور التي لا تغضب الله».
فُتِحَ باب الحوش وبدأنا نتسلل كاللصوص من بيتنا، من شارعنا، من مدينتا، صرنا لصوصاً، وهؤلاء أهل اللحى وأهل الطيارات أصحاب البيت.
خارج سياق القصة، سأقول لكَ شيئاً ذكرني به أبو صهيب عندما تكلم عن الراية البيضاء
أمي ما انقطعت تذهب إلى دير الزور بدايةً، ثم حماة لاحقاً، من أجل الرواتب، وكانت دائماً تتدبر أمورها مع الحسبة أو بالأحرى يتدبر لها أبو خنّة، قصدي أبو صهيب، الأمر لأجل السفر من دون محرم، وكانت دائماً تأتي برواتبنا كلها، وذات يوم منذ ستة أشهر جاءت ومعها لفة كبيرة من قماش أبيض، أي والله، قصّتها وخاطتها أكفاناً حتى لطفلات حمودي اللواتي كنَّ فرحات بما تصنعه لهنّ جدتهن، وهنَّ غير العارفات ما تعنيه كلمة كفن، يقفن سعيدات أمامها وهي تقدّرُ الكفن على أطوالهن. لم تنسَ أمي أن تضع الأكفان في حقائبنا، ومن أحد الأكفان صنعت رايات بيضاء لكلٍّ منّا.
نعود للنص
من بيتنا مشينا على الرصيف بموازاة الطرف الغربي لمدرسة الفارابي، ثم انعطفنا يميناً في شارع ضيق غربي مديرية الكهرباء، ثم يساراً إلى أن وصلنا شارع الكهرباء حيث التزمنا الرصيف الشمالي لهذا الشارع وفي مواجهتنا مدرسة المعرّي. رتلٌ من البشر تضج عقولهم بملايين الأفكار، وتلهج ألسنتهم هامسةً بسيل من الأدعية، متوجسين في كل ثانية أن يدوسوا لغماً، أو تفاجئهم دورية الحسبة أو الطائرة ذات الرشّاش.
تصطّفُ المجموعة في نهاية شارع الكهرباء على الرصيف الشمالي منه، محتميةً ببناء مهدوم مقابل الزاوية الشمالية لمدرسة المعرّي، هنا يجب أن نقطع شارع القطار، وهو عبارة عن طريق ذا اتجاهين يجب أن نعبره من مواجهة الزاوية الشمالية الشرقية لمدرسة المعرّي إلى الزاوية الجنوبية الشرقية لها، ويجب أن نقطع مسافة الـ 100 متر تقريباً. ركضنا بأقصى سرعة واحداً واحداً بشكلٍ متعرج، ركض عبودي أولاً وتلطى خلف الزاوية المنشودة، وتلاه أبو صهيب ثم حمودي، وتتابعنا حتى آخر فرد من المجموعة.
البناء المقابل للزاوية الشمالية لمدرسة المعري / من صفحة الرقة تذبح بصمت على فيسبوك
«الكل سليم» يهمس أبو صهيب، «شوفوا، الآن بدأ الجد، التزموا بالاتفاق» ثم مشى.
قريباً من المستودع الأصفر كان هناك دمارٌ هائل، هناك كان يجب أن نمشي فوق الدمار، لأن «الأخوة» لا يفخخون ما يُدَمَّر، ولا يخطر على بالهم أنه سيمشي أحد فوق الدمار، لذا يجب أن نمشي فوقه، شيءٌ يشبه تسلق الجبال، ولكن إذا كان للأمان فإنك مستعدٌ أن تتسلق قمة إفرست.
توقفت المجموعة فوق تلة دمار البناء الثالث على صوت ينبعث من تحت الأنقاض، واضحٌ أن أكثر من شخص يستغيث، وأقسم بالله سمعنا صوت طفل يبكي، ولكن أبا صهيب نهرنا كي نمشي، فنحن لا نستطيع أن نفعل لهم شيئاً تحت أطنان الركام. وهكذا عبرنا بين الحواري، وبسلام للجميع، حتى مقابل الباب الشرقي للحديقة البيضاء، حيث أدخلنا أبو صهيب في بيتٍ أبوابه مشرعة.
مدخل الحديقة البيضاء
يقول لنا أبو صهيب: «المسافة من الباب الشرقي حتى الباب الغربي هي الصراط المستقيم، قناصة الدولة وقناصة الملاحدة يرصدون المكان، نحن وحظنا، الذي يصل الباب الغربي، يعني 200 متر، من دولة لدولة ومن حياة لحياة أو من موت لحياة أو من حياة لموت».
تقدَّمَنَا عبودي متعرجاً، ونحن كذلك، حتى منتصف المسافة، والقمر بدرٌ كامل، لا شيء يضيء المدينة غيره. سمعنا جميعاً، وأقسم بالله، صوت اختراق رصاصة القناص لجمجمة عبودي الذي يسبق الرتل ربما بعشرة أمتار، انبطحنا جميعاً، حصلت فوضى صغيرة ولكننا بالنهاية عدنا جميعاً عدا عبودي، عدنا إلى البيت نصف المتهدم مقابل الباب الشرقي للحديقة البيضاء.
حاولَ أبو صهيب أن يسحب جثة أخيه، ولكنه لم يستطع. كانت الساعة الثالثة إلا ربع صباحاً، بعد قليل سيشقشق الضوء، ولا طريق آخر. قادنا أبو صهيب بصمتٍ على طريق العودة، تخلى هو عن حذره، وربما نحن كذلك.
بدأت تتضح الرؤية إلى حدٍّ ما، وكان هناك عصافير بدأت الزقزقة، صدقاً، بالله عصافير بالرقة، وتزقزق. ثم بدأت الطائرات النائمة تمسح الوسن وتستكمل مهمتها اليومية بتدمير المدينة، ورتلنا الذي بمشيته يشبه مشي السكارى يعود خائباً مصدوماً غير مكترثٍ لشيء، حتى عند حصول انفجارٍ ما لم نعد نرتعب كما في السابق. تخيل حتى الكلاب التي تنهش بالجثث الملقاة وسط الطريق تتابع مهمتها دون أن تحفل بنا، فقط تجفل لحظة صوت الانفجارات ثم تعاود نهش اللحم الآدمي. يصلنا صوت مؤذن في اللحظة ذاتها التي تضع أمي فيها المفتاح في الباب داعيةً الجميع للدخول.
وزَّعتنا أمي التي تصدر أوامرها كجنرال وهي تومئ برايتها البيضاء التي لا زالت تربطها بعكازتها، وزَّعتنا مع العائلة التي رافقتنا على غرف المنزل. الوحيد الذي ذهب هو أبو صهيب.
نام الأكثرية وأنا منهم. لم نعد نستطيع النوم إلا على صوت القذائف، أصبحت بالنسبة لنا كالـ «ب. ب. دور» بالنسبة للأطفال. حالنا ذاك يذكرني بمثال كان عندنا في كتاب الفلسفة للبكالوريا قبل أن يغيروا المناهج، وهو عن الطحان الذي ينام وجعجعة الطاحونة تصم الآذان، ولكن ما أن تتوقف حتى يستيقظ، ونحن كذلك.
استيقظتُ عصراً على صوت أمي وهي تواسي أبا صهيب على مقتل أخيه، وهي تقنعه أنه في الجنة لأنه شهيد: «أي والله يا ابني أكيد شهيد، لأنه كل هالناس» وأشارت باتجاهنا «لولاه ما كانوا هون».
جاء ابو صهيب عصراً يرافقه شخص آخر واختلوا مع أمي وأبي صلاح، وبعد ركوة قهوة وإبريقي شاي، خرجوا وعرفنا أننا سنخرج اليوم من عند دوار الخضرة، وأن الطريق مؤمن ويجب أن نكون جاهزين عند المغرب تماماً.
لم تختلف التحضيرات عما سبق، وما أن أعتمت العين، خرجنا على الرصيف الشرقي هذه المرة لمديرية الكهرباء، ومن الزاوية الجنوبية الشرقية للبناء المهدم، والذي لم تمرَّ طائرةٌ في سماء المدينة دون أن تلقي فوقه صاروخاً أو قذيفةً من النظام إلى الروس إلى التحالف، وأحياناً من باب النكتة نقول حتى طيران موزمبيق، حاله في هذا كحال معسكر الطلائع والملعب البلدي وقصر المحافظة، الأهداف الدائمة، وهذا قبل أن تباح المدينة بناسها وببناياتها وبيوتها وجسورها وحتى فراتها إلى مشاع أهداف. المهم، هناك لَبدنا جانب السور حيث يجب أن نقطع شارع الكهرباء، ركضنا واحداً واحداً، وشارع الكهرباء هذا شارع عريض ذهاب وإياب، ولكن المشكلة فيه أن منصّف الطريق عالٍ وحملنا ثقيل. المهم، تم الأمر وعبر الجميع بسلام، مشينا حارة السخاني المقابلة لمديرية الكهرباء، التي تربط من الشمال شارع الكهرباء بشارع تل أبيض جنوباً، وهو طريقٌ ضيّقٌ زاد من ضيقه الدمار الحاصل. أيضاً هنا الطريق الأكثر أمناً هو فوق الأنقاض، وصلنا شارع تل أبيض وهنا أيضاً لَبَدنا حيث يجب أن نجتاز شارع تل أبيض واحداً واحداً من مقابل فرن الربيع. المسافة الأخطر 30 إلى 40 متراً، أيضاً عبرناها بسلام ولم يرصدنا أي قناص. على الرصيف الشرقي لشارع تل أبيض، من مكاننا إلى دوار الدلة حيث سوق الخضرة، 500 متر استغرقت حوالي ساعتين ونصف، ولكننا أخيراً وصلنا مدخل سوق الخضرة من الجهة الغربية.
«الآن فقط نعبر السوق، وهناك على الطرف الآخر يتوقع المهاجمون خروج مدنيين، لذلك لا يضربوننا»، هكذا قال الرجل الآخر الذي جاء مع أبي صهيب. أخرجنا راياتنا البيضاء واستعدينا لقطع آخر مئة متر، بعد قليل توقف أبو صهيب ومرافقه وقالو لنا: «هنا انتهى دورنا». أخذوا بقية المبلغ من أمي وأبي صلاح، وقال لنا الملثم مرافق أبي صهيب: «عشرين ثلاثين متر أنتم بالأمان، ارفعوا راياتكم ولا تخافون، عندهم أجهزة يشوفونكم بيها، ومثل ما يقولولكم نفّذوا». وكقطيع فقد رقابة راعيه انتشرنا بفرحة الخلاص، متناسين حذرنا، يسبقنا الولدان التوأم بحوالي عشرة أمتار، وبووووم، طار أحدهما في الهواء وصرخَ الآخر، وانبطح الجميع إما من الانفجار أو من الرصاص الذي بدأ ينهمر على مكان الانفجار. تفقدنا بعضنا، وعَجِزَ الرجال عن سحب جثة الولد الجريح الذي توقف أنينه ومات، ساعتان والرصاص ينهمر ما أن يحسّوا بأي حركة.
هنا قرر أبو صلاح: «الحي أبقى من الميت». عدنا مرةً أخرى بعد أن فقدنا التوأم، وهذه المرة أغلبنا فقد عقله ورايته البيضاء، إلى بيتنا. دخل الجميع، ونام من نام على نشيجٍ مكتومٍ من أم التوأم عبد الخالق وعبد الرزّاق، أو كما ينادوهما خالق ورزّاق، وهو أمرٌ كلَّفَ أباهما ذات مرّة دورةً شرعيةً لمدة شهر.
صحوتُ بعد أن نمتُ بعمق، والله من زمان لم أنم كما نمت تلك الليلة، صحوتُ وأمي وأبو صهيب وأبو صلاح يتحدثون عن طريقة لسحب جثتي الطفلين لدفنهما في الحديقة. يقول أبو صهيب: «شوفي خالتي، إنتي وعمي أبو صلاح على عيني وراسي، واللي مات الله يتقبلوا، من سابع المستحيلات هذا الكلام، خلاص، مِن انفجر لغم المكان صار مراقب من الجهتين. على كل حال اليوم هناك طلعة من “نزلة شحاذة” وهناك أمريكان وليس أكراد، يعني ما يقنصون أحد مدني. إذا كنتم تريدون، كل عائلة 2500 دولار ما تنقص مليم، والذهاب من هنا إلى هناك بسيارات الدولة والمشي فقط 500 متر. إذا وافقتم حتى أنسق الامور مع أبو دجانة التونسي المسؤول عن القطاع هذا».
استغربتُ أن أمي التي تحلب النملة، لا ليس النملة، بل تحلب الطحالب والأشنيات، وافقت دون مساومة على الـ 2500، وهي البارحة ساومته على 250 دولار. «الساعة 2 عصراً سأحضر ومعي بيكابين ونطلع»، أخذَ عربوناً من أمي ومن أبي صلاح، وخَرَج.
عادَ بحدود الثانية عصراً، إذ يجب أن نمكث في حيٍّ قريب من نزلة شحادة حتى المساء، حتى يتهيأ لنا طريق عبور. ركبنا جميعاً، تتهادى السيارات متجنبة الحفر وأكوام البيوت المهدمة في مكانٍ ما، ولكنه ليس الرقة، لا… لا… لا… ليست شوارعنا، ليست بناياتنا، ياااااااا إلهي، ما هذا الدمار!! يا إلهي، ما هذا الحقد!! لا ليست الرقة.
شارع القطار مرصودٌ من الشمال بقناصة «الملاحدة»، لذلك وضع عناصر «الدولة» ستارة كبيرة تصل طرفي الشارع مسدلةً إلى الأرض، ومن هناك وصلنا إلى دوار الدلّةّ الذي ترصده أيضاً قناصات «الملاحدة» من عند مبنى العيادات الشاملة. كنا قد وصلنا كراج المزارع عندما ألقى السائقان بنفسيهما من السيارتين، وطلبا منك ذلك، «تكربسنا» فوق بعضنا بعضاً، صراخ الأطفال وصياح الكبار، وبوووووم كبيرة أثارت عاصفةً وغباراً. انزاح الغبار، وبدأ عناصر من داعش يتجمعون ويحتمون بمداخل المحلات التي طارت أبوابها، وعلا صراخ أحدهم: «تستري يا أختي وحطّي على راسك»، وفجأة ظهر السائقان وتكلما مع عناصر الدولة الذين يحتمون بالمداخل أننا معهم. أكملنا الطريق باتجاه دوار النعيم، أي نعيم يا الللله، داعش والرؤوس المقطوعة، وجاء من يغطي على جريمتهم ويزيل الدوار وما حوله مثلما فعلت داعش بسجن تدمر، المجرمون يساعدون بعضهم.
بمحاذاة الملعب البلدي، إلى جانب جامع الفردورس، نعيمٌ ومن ثم فردوس، أي نعيمٍ يا رقتي وأي فردوس… فردوس الله المفقود.
هنا في هذا الجامع خَطَبَ أحد أمراء داعش خطبته المشهورة، وعساكَ رأيتها على اليوتيوب، حين قال من جملة ما قال: «رغماً عنكم سنأخذكم إلى الجنة يا أهل الرقة، سنربطكم بالسلاسل ونأخذكم إلى الفردوس». هذا هو الفردوس، حتى الجامع كومة حجار أضحى، فقط مئذنته وقبته بقيتا واقفتين. أين أنت الآن يا مَن ستأخذنا إلى الجنة؟ هل اتتك طائرة هيلوكوبتر وأخذتك بعد أن أنهيت مهمتك؟ أم أنك متَّ فداء حذاء الخليفة؟ أقول بنفسي هذا وتصل بنا السيارة إلى كومةٍ من إسمنت وحديد كانت تُعرف باسم مشفى الطب الحديث، ومن نزلة الطب الحديث إلى الجنائية. ومنها إلى حارة الحرامية. ليتني… ليتني خرجتُ ليلاً كي لا أرى ما رأيت، أما يكفي ما فعلته داعش، ياااا إلهي، رهيييييييب، رهيبٌ ما هو حاصل، لا أعتقد أن إخراج داعش يحتاج لكل هذا التدمير، أكيد… أكيد «مو مشان داعش».
جامع الفردوس / تصوير عبود حمام / من صفحة الرقة تذبح بصمت على فيسبوك
خارج سياق القصة، سأوضح لك أمراً
حارة الحرامية كما تُعرَف هي منطقة جمعيات سكنية، اشترى بعضُ كبار موظفي الرقة الفاسدين عدداً من أفخم مساكنها، وزادو مساكنهم تلك فخامة، ولذلك أطلق عليها الناس هذا الاسم الذي التصق بها. حتى سكانه نفسهم تصالحوا مع الاسم، وطبيعيٌ أن تسأل أحدهم: «أين تسكن؟» فيجيبك: «بحارة الحرامية». أو يسألك صاحب التكسي: «إلى أين أوصلك؟» فتقول له: «حارة الحرامية». وضمن هذا الحي، البيت الذي سنكمن به ونقضي بقية النهار حتى يحين موعد خروجنا ليلاً. معظم بيوت الحي فيلات على أحدث طراز، أو أبنية آيات في جمال فن العمارة، وسط بيئة شعبية معدمة. تعرف؟! هو المكان الوحيد الذي لم آسف على دمار أي بيت فيه، تريد الصراحة أكثر، أشعر بالتشفي، و«حتى أنت والعالم تتشفى معاي، تعرف شو صار اسم الحي على دور داعش؟ تخيل صار أسمو حي المؤمنين!!!!!». حيّ المؤمنين، لان كل المؤمنين اللي جاؤوا إلى ديار كفار قريش قد سكنوا الحي، طبعاً نحن سكان الرقة عامة كفار قريش.
نعود إلى القصة
فيلا كبيرة مشطورة من المنتصف، تعتقدُ أن منشاراً ما قسمها نصفين. هناك أنزلونا وقالو: «اختبئوا هنا، وسنعود مساءً لنأخذكم». ونحن ننزل وندخل الفيلا المهدومة، وغير بعيد عن مقدمة السيارة بجانب الرصيف، كان هناك جثتان لرجل وامرأة، ميّزناهما من لباسهما، منتفختان بشكل رهيب، كثيرٌ من النساء استفرغن، وعجّلنا خطانا بالدخول.
مساءً عاد أبو صهيب ومعه اثنان ملثمان، وذهبوا بنا إلى كومة اخرى من حديد وإسمنت كانت تعرف باسم مؤسسة الأعلاف، وهنا بدأ الجد مرةً أخرى، رتلاً أحادياً رفعنا الرايات البيضاء، ومشينا يتقدمنا أبو صهيب حتى قابلنا نزلة شحاذة.
خارج السياق، أو ربما ضمن السياق
كثيرٌ من الناس، وحتى وكالات أنباء العالم كله، تحدثت عن نزلة شحاذة. نزلة شحاذة طريقٌ فرعيٌ من طريق حلب الرقة في مدخل المدينة، ينحدر من الشمال أي من طريق حلب نزولاً باتجاه كورنيش النهر، أي باتجاه الفرات، وسُمّيَ بنزلة شحاذة لأن أول بيت بُنِيَ على هذا الطريق المنحدر صاحبه اسمه شحاذة، وللمفارقة بيت أبي بعد زواجه الثاني في هذا الشارع.
نعود للنص
متلطين، قابلنا نزلة شحاذة. لم يوافق حمودي أن يكون الأول حتى يطمئن على عبورنا، فكان أبو صلاح الأول مكوراً حفيدته على ظهره، ثم إحدى كنائنه، وتتابعنا هكذا. بقي أبو صهيب وأمي وحمودي مكوراً إحدى بناته وصلاح. عبرت أمي، وتلاها حمودي وصلاح، ولكن في خطواتهما الثلاثة الأخيرة أصابهما القناصون فوقعا. ثلاثة أمتار تفصلنا عنهما، رصاصٌ كالمطر وربما أكثر لدقيقتين، رغم أننا كنا جميعاً نرفع الرايات البيضاء، هدأ الرصاص وأنا مبطوحةٌ على بطني، رفعتُ يدي بالراية البيضاء، وسُلِّطَ علينا ضوءٌ مبهر، وطُلِبَ منا أن نتقدم، تقدَّمنا.
رَفَضَت أمي وأبو صلاح وزوجة حمودي التقدم، وقاموا بسحب الجثتين، كانت الطلقتان في الجبين، يعني «من الأمريكان يا أبو صهيب يا بو خنّة».
تقدمنا بحراسة من الجانبين ونحن مرفوعي الأيدي، وأمي مغمىً عليها فوق جثة حمودي. القمر كامل الاستدارة وحده ينير الخراب والموت، القمر كامل الاستدارة وحده شاهدٌ أخرس على ما يحصل.
للمقتلة تتمة…