أوائل الشهر الحالي، وعلى هامش المؤتمر العالمي للمناخ المنعقد في مدينة بون الألمانية، أُعلنَ عن توقيع بشار الأسد مرسوم انضمام الجمهورية العربية السورية لاتفاق باريس الخاص بالتغيّر المناخي. اتفاق باريس كان قد أُقِرَّ نهاية عام 2015 في العاصمة الفرنسية، واعتُبِرَ مدخلاً لاستبدال بروتوكول كيوتو اعتباراً من 2020. قُدِّم الاتفاق كخطوة كبرى في هذا المجال بعد سنوات من الفشل في إيجاد توافقات، وذلك لأنه، عدا جمعه الأغلبية الساحقة من دول العالم، استطاعَ ضمّ القوى الصناعية الأبرز في العالم، الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، وبالتالي مصادر الغازات الملوِثة الأكبر.
حينها، بقيت نيكاراغوا خارج الاتفاق احتجاجاً على كونه «غير ملزم» وغير مقرون بخطوات عقابية للمتخلفين عن تطبيق مقتضياته، والجمهورية العربية السورية التي لم تكن معنيّة حينها بنقاش عالمي حول الاحتباس الحراري. وفي الأول من حزيران الماضي قرَّرَ دونالد ترامب، بدوره، سحب توقيع الولايات المتحدة من الاتفاق كون بنوده لا تنسجم مع ما يعتبرها مصلحة الولايات المتحدة الاقتصادية. انسحاب الولايات المتحدة لم يُنهِ اتفاق باريس بالكامل، لكنه شكّل ضربة موجعة لرمزيته كاتفاق جامع مع انسحاب القوّة الاقتصادية والصناعية العظمى، وأدّى إلى شكٍّ وقلقٍ حول إمكانية إدخاله حيّز التنفيذ مع سحب التمويل والتكنولوجيا الأميركية اللازمة لتطوير صناعات ووسائل نقل أقل إضراراً بالبيئة، وهو ما كانت الولايات المتحدة قد التزمت بتقديمه في عهد باراك أوباما.
في العشرين من تشرين الأول الماضي وقّعَ دانييل أورتيغا، رئيس نيكاراغو، وثيقةً تُعلن انضمام نيكاراغوا لاتفاق باريس، تبعه بعد يومين مصادقة مجلس الشعب السوري على مشروع قانون تصديق انضمام الجمهورية العربية السورية، بدورها، للاتفاق. لكن طقوس وأعراف وآليات عمل مؤسسات الدولة السوريّة اضطرت لتأخير الإعلان الرسمي عن انضمام الجمهورية العربية السورية إلى رَكب الدول الـ 196 الموقِّعة للاتفاق حتى الثامن من الشهر الجاري، أي حتى توقيع بشار الأسد على المرسوم الخاص بإقرار القانون حسبما يقتضي الدستور السوري، كما يُخبرنا موقع تلفزيون روسيا اليوم.
خلال تغطيتها الفرِحة للخبر، أشارت جريدة البعث إلى أن «البعض» اعتبر انضمام سوريا إلى الاتفاقية «أمراً رائعاً»، فيما اكتفى «بعضٌ» آخر بالقول إنه «يريد انضمام الجميع». ومن جهته، أشاد موقع غرين آريا البيئي اللبناني بالخبر عبر مقال لمايا نادر افتُتح بالقول:«على ما يبدو فإن الحرب الكونية التي شنّت بدعم أميركي -إسرائيلي على سوريا ستقلب سحرها على الساحر في معركة من نوع آخر»؛ وختم بـ «رجل البيت الأبيض بات الآن وحيداً ، فهل يشكّل دخول سوريا حافزاً إضافياً للعودة عن قراره؟».
قد يبدو الأمر حتى الآن احتفاءاً ذاتياً لوسائل إعلام النظام، ولخطابٍ «مُمانِع» لبناني. لكن بعض البحث في دوائر إعلامية أوسع سيقودنا إلى عناوين وعبارات مُشابهة، فصحيفة الغارديان عنونت الخبر كالتالي:«سوريا توقّع اتفاق باريس للمناخ وتترك الولايات المتحدة معزولة»، ونجد عنواناً مطابقاً أو مُشابهاً في نيويورك تايمز وبوليتيكو وعدد هائل من وسائل الإعلام العالمية، وبعضها لا يقف عند ذلك بل ينوّه، مادحاً، إلى أن سوريا قد وقّعت الاتفاق «رغم أنها تُعاني حرباً أهلية»، وساهمت في حماية المناخ أكثر من الولايات المتحدة.
طبيعة النظام الذي يوقّع اتفاقيات دولية باسم سوريا، وممارساته تجاه شعبه على مدى تاريخه الشنيع، وخصوصاً خلال السنوات الست الأخيرة التي شنّ فيها حرباً شعواء ضد القطاعات الشعبية المنتفضة ضدّه، تفاصيل غير ذات أهمية على ما يبدو.
ليس الموضوع البيئي جديداً في بروباغندا النظام السوري وحلفائه، لا سيما تلك البروباغندا الموجّهة إلى أميركا اللاتينة وأفريقيا وأوساط اليسار البيئي الأوروبي، فمنذ اللحظات الأولى للثورة السورية ظهرت نظرية تقول إن أحد أسباب «الحرب على سوريا» هو رفض «الحكومة السورية» السماح بزراعة وتجارة المزروعات المعدّلة جينياً، ما شكّل إضراراً بالمصالح الاقتصادية لشركات أميركية كبيرة. في حالة أميركا اللاتينية، ومع التاريخ الطويل، والمريع، للشركات الزراعية الأميركية في عدد كبير من دول المنطقة، بسلوكيات لم تختلف في كثير من الأحيان عن أسلوب عمل كارتيلات الجريمة المنظّمة، كانت هذه البروباغندا ناجحة. والإشارة إليها أداة متكررة يستخدمها يساريون وبيئيون اعتذاريون للنظام في وجه أي انتقاد لوحشيته. يبدو أن الإجرام الواقع على الجينات الطبيعية، دون استخدام تقنيات التعديل الجيني، لا يستحق موقفاً «أخضراً» رافضاً.
لكن الوضع هنا لا يتعلّق بدور بشار الأسد المُحتمل، عبر «إحراج» الولايات المتحدة وعزلها، في إنقاذ العالم من تغيّرات مناخيّة مُدمِّرة، بل في وضع وطبيعة الهيئات الدولية الكُبرى، هذه البُنى الانسيابية مع موازين القوى والأوضاع القائمة الناتِجة عنها عبر آلياتٍ بيروقراطية شديدة الترف والنخبوية من جهة، وعديمة الحساسية تجاه القيم والأخلاق من جهة أخرى، بما في ذلك تلك الهيئات القائمة -نظرياً- للدفاع عن قيم بعينها، وذلك باسم «حياد سياسي» تجاه قضايا سياسية بالمطلق، مثل حياة البشر وحقوقهم وحرياتهم. بطبيعة الحال، تحتل الطبيعة التشبيحية لسلوك القوّتين العظمتين، الولايات المتحدة وروسيا، أعلى هرم الرياء الدبلوماسي، أكان عبر استخدام حقّ الفيتو في مجلس الأمن لمصلحتهما المباشرة، أو لمصلحة شبيحة أصغر يدورون في فلكهما، كإسرائيل والنظام السوري؛ أو عبر الابتزاز بآليات التمويل والدعم السياسي، كالسلوك البلطجي للولايات المتحدة في اليونسكو لصالح إسرائيل. تحت هذه القمّة مهازل كثيرة، مثل عضوية السعودية في لجنة الأمم المتحدة لحقوق النساء؛ أو منح روبرت موغابي لقب سفير النوايا الحسنة في منظمة الصحّة العالمية (تم سحب اللقب لاحقاً بعد حملات المنظمات الحقوقية، لكن هذا الواقع لا يُلغي أن هناك موظفين من الدرجة الأولى العالمية ارتأوا منح هكذا لقب لطاغية زمبابوي وناهبها)؛ أو تكريم بشار الجعفري، سفير النظام الأسدي في الأمم المتحدة، من قِبل «الرجل القلق» بان كي مون العام الماضي بمناسبة مُضي عقدٍ على عمله في المحفل الأممي. كونه ممثل نظام إجرامي يطفح سجّله بالجرائم ضد الإنسانية، ليس إلا تفصيلاً عابراً أمام أهمية «الطقوس» و«التقاليد» الدبلوماسية، المتعالية عن المنطق والمستقيلة من الأخلاق.
ليست فداحة هذا الواقع رمزيةً فحسب، بل إن هذه البُنى الإدارية والمالية العملاقة مسؤولة عن ملفات شديدة الأهمية، مثل الإغاثة واللاجئين وغيرها. وباسم «الحيادية الطقوسية» تعمل هذه الكيانات كآليات تكريس لكل موبقات الأمر الواقع المفروض عبر موازين القِوى، أكان عبر عملها وخطابها المباشرين، أو عبر العنف البنيوي الذي تمارسه على الفاعلين المحلّيين لفرض «الحياد الإيجابي تجاه الأقوى». هكذا، تُرينا تقارير مثل الصادرة عن حملة سوريا وعن جريدة الغارديان (نفسها التي تخبرنا أن قرار بشار الأسد قد «عزل» الولايات المتحدة) العام الماضي كيف تحوّلَ تمويل الأمم المتحدة لمشاريع إنسانية وإغاثية بشكل فاضح لصالح الشبكة الزبائنية للدائرة الضيقة للنظام السوري. ولاحقاً، رأينا كيف أصدرت المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين رؤيتها لما يُفترض أن نجد حين «نبحث عن سوريا»، في موقع إلكتروني بدا، باستخدام لغة تزعم «عدم الانحياز لأطراف الصراع»، وكأنه حملة علاقات عامة لصالح الأمانة السورية للتنمية.
تغيّرُ المناخ أهم من أن يعتمد على مهارات بشار الأسد في الإحراج؛ وحقوق الإنسان أقدس من أن تُترك بعهدة كوكتيل الدول صاحبة السجل الدّامي التي نجدها في مجلس حقوق الإنسان؛ و«بناء السلام» الحقيقي لا يتحقّق على يد ديمستورا وأشباهه؛ و«إعادة الإعمار» المتوافقة مع احترام حقوق الناس وكراماتهم لن تحصل بـ «خبرات» عبد الله الدردري. تحتاج هذه القيم للإنقاذ من شبكة الزبائنية الدولية الكبرى هذه، ومن أمنائها العامّين ومدرائها التنفيذيين وموظفيها شديدي الاعتياد على العيش في علياء العالم، وعلى التعاطي مع أقوياء العالم ومتسلّطيه بصفتهم زملاءً في العلياء، تنتظم علاقتهم معهم وفق طقوس دبلوماسية. أشيرُ باتجاه ضرورة هذه المعركة دون معرفة الآليات المُتاحة لخوضها، ودون الثقة بوجود كمون احتجاجي كافٍ للتصدّي لها في عالم ترامب- بوتين الذي نعيشه اليوم، هذا العالم الذي لم يخترع الفداحة قطعاً، لكنه جدَّدَ فيها وساهمَ في تقوية وقاحتها وتجلّيها.
في بدايات الثورة، أظهرنا تحليلاتٍ متفائلة، وربما رغبوية بعض الشيء، تقول إن النظام الأسدي قد «سقط أخلاقياً عند أول رصاصة أُطلِقت على متظاهرين»، وأنه وحلفاؤه «مُحرَجون أمام العالم وفي المحافل الدولية» نتيجة افتضاح جرائمهم بحق الشعب السوري، لتتحوّل هذه العبارات مع مرور الوقت إلى أداة سخرية وتهكّم نتيجة عطالة العالم عن تقديم مساهمة إيجابية لإنقاذ السوريين من حرب النظام عليهم. اليوم، بات بشار الأسد هو القادر على إحراج الآخرين في المحافل الدولية. هذا أيضاً تغيّرٌ مناخيٌ قاتل!