قد لا يلحظ من يقوم بقراءة سريعة للبيان الختامي الصادر عن اجتماع الرياض 1 أواخر 2015، والبيان الختامي الصادر عن اجتماع الرياض 2 مؤخراً، كثيراً من الفروقات بين البيانين. ولعل الفقرة الوحيدة التي تلفت النظر، هي تلك التي تحدثت بوضوح عن أن المفاوضات ينبغي أن تكون «غير مشروطة»، وسوى ذلك، فقد تم تكرار النصّ على ضرورة الالتزام ببيان جنيف 1 والقرارات الدولية ذات الصلة كمرجعية وحيدة للعملية التفاوضية، كما تم تكرار الحديث عن «مغادرة بشار الأسد وزمرته».
لكن التدقيق في البيانين سيفضي إلى ملاحظة فروق أخرى متعددة، بعضها لن يكون سهلاً تفسير دوافعه أو توقع آثاره، وبعضها الآخر يمكن تفسيره بسهولة في ظل الأجواء التي رافقت انعقاد المؤتمر، وفي ظل حقيقة أن ممثلين عن منصتي القاهرة وموسكو سيكونون موجودين في الهيئة التفاوضية المنبثقة عن المؤتمر، والتي يُفترض أنها ستعمل تحت سقف هذا البيان.
على صعيد رؤية المجتمعين لشكل النظام السياسي في الدولة السورية، نصَّ بيان الرياض 2 على أن الدولة التي تهدف التسوية السياسية إلى تأسيسها هي «دولة ديموقراطية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية»، ونصَّ على الالتزام بأن «تكون سوريا دولة ذات نظام حكم ديموقراطي»، وهو ما كان غائباً في بيان الرياض 1، لصالح الحديث عن الإيمان بـ «مدنية الدولة» والالتزام بـ «آلية الديموقراطية من خلال نظام تعددي». ولعل تفسير هذا يرجع إلى تراجع تأثير القوى الإسلامية في صياغة البيان، لأنه كان واضحاً أن الاكتفاء بالحديث عن «آلية الديموقراطية» دون الديموقراطية نفسها كتوصيف للدولة ونظام الحكم فيها، يهدف إلى تأجيل الخوض في الخلاف حول معنى مدنية الدولة ومفهومها.
وأيضاً نصَّ بيان الرياض 2 بوضوح على أن الدولة السورية «متعددة القوميات والثقافات»، وعلى اعتبار «القضية الكردية جزءً من القضية الوطنية السورية»، في حين كان بيان الرياض 1 قد اكتفى بالإشارة إلى «نظام تعددي، يمثل كافة أطياف الشعب السوري، دون تمييز أو إقصاء على أساس ديني، أو طائفي، أو عرقي». ولعلَّ هذا يرجع إلى إدراك أنه ينبغي إضافة عبارات واضحة حول حقوق الشعب الكردي، للتخفيف من وطأة غياب ممثلين وازنين عن أكراد سوريا. وعدا ذلك، فقد كرر بيان الرياض 2 ما جاء في بيان الرياض 1، حول أن الدولة السورية ينبغي أن تقوم على أساسٍ من اللامركزية الإدارية.
وعلى صعيد الموقف من الإرهاب والتدخلات الإقليمية والدولية، فقد كرَّرَ بيان الرياض 2 ما جاء في بيان الرياض 1 حول رفض الإرهاب وضرورة رحيل المقاتلين الأجانب عن الأراضي السورية، مع الإشارة إلى ضرورة جلاء القوات الأجنبية أيضاً، والنص الصريح على رفض «الدور الإيراني في زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وإحداث تغييرات ديموغرافية فيها، ونشر الإرهاب بما في ذلك إرهاب الدولة وميليشياتها الأجنبية والطائفية»، والواضح أن هذا الذكر المباشر للدور الإيراني ناجمٌ عمّا أعلنته السعودية مؤخراً من أنها ستواجه التدخلات الإيرانية.
أما عن رحيل بشار الأسد، وهو الأمر الذي كان كثيرون يعتقدون أنه لن تتم الإشارة إليه مطلقاً في بيان الرياض 2، فقد تم ذكره وضوحاً، لكن الطريقة والصياغة جاءت مختلفة تماماً، وتوحي بموقف أقل صلابة من هذه المسألة.
في بيان الرياض 1، تم التشديد على ضرورة رحيل بشار الأسد وزمرته مرتين؛ الأولى كانت في سياق الحديث عن أن «هدف التسوية السياسية تأسيس نظام سياسي جديد، دون أن يكون لبشار الأسد وزمرته مكان فيه»، والثانية بعد الحديث عن بنود المرحلة الانتقالية التي ينبغي أن تكون وفق بيان جنيف 1، وجاء فيها: «شدد المجتمعون على أن يغادر بشار الأسد وزمرته سدة الحكم مع بداية المرحلة الانتقالية».
أما في بيان الرياض 2، فلم يتم ذكر رحيل بشار الأسد نهائياً في الفقرة المتعلقة بهدف التسوية السياسية، وتم بدل ذلك الحديث عن «تأسيس دولة ديموقراطية» كما أشرنا أعلاه، مع كلام عمومي عن أنه «لا يحق أن يشارك في أي ترتيبات سياسية قادمة من ثبت مشاركته في جرائم حرب ضد السوريين».
أما ذكر رحيل بشار الأسد في بيان الرياض 2، فقد جاء في سياق حديثٍ عن ضرورة الالتزام بما جاء في بيان جنيف 1 من أنه «من الجوهري الحرص على تنفيذ العملية الانتقالية على نحو يكفل سلامة الجميع في جو من الأمن والاستقرار والهدوء»، إذ جاءت بعدها العبارة التالية: «وقد أكد المجتمعون بأن ذلك لن يحدث دون مغادرة بشار الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد عند بدء المرحلة الانتقالية»، وهي صياغة أقل حدة وقطعية من الصياغات التي جاءت في بيان الرياض 1، وهي بوضعها إلى جانب الفقرة التي تتحدث عن ضرورة أن تكون المفاوضات غير مشروطة، تجعل مسألة رحيل الأسد أمراً قابلاً للتفاوض.
تقول الفقرة الجديدة كلياً في بيان الرياض 2، والتي يبدو واضحاً أن الاجتماع عقد أصلاً بهدف إضافتها: «أكد المجتمعون أن المفاوضات المباشرة غير المشروطة تعني أن كافة المواضيع تُطرح وتناقش على طاولة المفاوضات، ولا يحق لأي طرف أن يضعَ شروطاً مسبقة، ولا تعتبرُ المطالبة بتنفيذ ما ورد في القرارات الدولية شروطاً مسبقة، أو يمنعَ طرح ومناقشة جميع المواضيع، بما فيها شكل الحكم ونظامه وصلاحيات سلطاته ومسؤوليه، وموقع رئاسة الجمهورية والحكومية وغيرها».
في هذه الفقرة بيت قصيد الرياض 2، وهي فقرةٌ على ما فيها من ارتباك وقلّة وضوح، تنصُّ على أن جميع الأمور قابلة للتفاوض، عدا ما جاء في القرارات الدولية، التي لا تعتبر المطالبة بتنفيذها شروطاً مسبقة، ولنا أن نتذكر أن ما جاء في القرارات الدولية أمورٌ مختلفٌ على تفسيرها أيضاً، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بترتيبات بناء الثقة التي ينبغي على النظام القيام بها، من فكّ الحصار ووقف القصف على التجمعات المدنية وإطلاق المعتقلين، والأهم، معنى عبارة «هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات» الواردة في بيان جنيف 1.
أفرغَ الخلافُ بين النظام وداعميه من جهة، والمعارضة وداعميها من جهة أخرى، حول تفسيرات ما جاء في جنيف 1 والقرارات الدولية ذات الصلة، جولات التفاوض السابقة من معناها، ولكن المستجد اليوم هو أن هذا الخلاف قد أصبح داخل وفد المعارضة بحضور ممثلين عن منصة موسكو فيه، ومنصة موسكو كانت قد تحفظت أصلاً على ذكر رحيل بشار الأسد في البيان، وهي التي تعلن دائماً أن تفسيرها لعبارة «هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات»، لا يعني على الإطلاق ضرورة رحيل بشار الأسد.
وفوق ذلك، فإن الإشارة في بيان الرياض 2 إلى ضرورة إقصاء من يثبت تورطه في جرائم حرب عن الترتيبات السياسية لا يغلق هذه الثغرة، رغم أن البيان قال بضرورة محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية «وفق مبادئ العدالة الانتقالية»، لأن هذا كلام عمومي لا يشير إلى أي آلية عدالة أو محاسبة واضحة، ولا يمكن الاستناد إليه للقول إنه سيؤول في النهاية إلى إقصاء بشار الأسد ومن معه من مجرمي حرب.
رغم ما يبدو للوهلة الأولى في بيان الرياض 2 من التزام بمطلب الثورة السورية الأساسي، رحيل الأسد ومحاسبته، إلا أن الصياغات التي تضمنها، مضافاً إليها تفخيخ الوفد بجهات تحمل رؤىً قريبة جداً من رؤية النظام نفسه، أمورٌ ستفتح الباب على عملية تفاوض عبثية لا تنتهي، قد تكون جولاتها داخل وفد المعارضة نفسه أطول وأكثير تعقيداً من جولاتها بين النظام والمعارضة، في وقت يبدو واضحاً أن النظام ينوي مواصلة حربه الدموية على خصومه، ومواصلة تمييع العملية السياسية المائعة أصلاً في الوقت نفسه، وآخر فصول التمييع الإعلانُ عن تأجيل سفر وفده إلى جنيف لبدء جولة جديدة من المفاوضات، وهو ما كان مقرراً اليوم الثلاثاء، وذلك احتجاجاً على ما جاء في بيان الرياض 2 من إشارة إلى ضرورة رحيل الأسد.