ربما ليس هناك أنسبُ من «يوم مارتن لوثر كينغ» للتفكير في آفات العنصرية، والزينوفوبيا (كره الغريب)، والاختلافات الاجتماعية التي تُفرِّقنا. ولكن قد تُخبِرنا الأحداث التي ظهرت على الساحة السياسية في 2016 – صعود سياسات الأهلانية/Nativismسياسات الأهلانية هي المواقف السياسية القائمة على دعم مصالح السكان الأصليين على حساب المهاجرين. في الولايات المتحدة، والخطاب المعادي للمهاجرين، اللذين مَهَّدا الطريق لانتزاع ترمب الرئاسة، وتصويت بريطانيا لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي توالياً – أنَّ علينا النظرَ إلى قضايا كهذه من منظورٍ مختلف في 2017.

قد تكون نظريةُ Othering (أو الآخَريّة) في علم السيكولوجيا الاجتماعي أحد الطرق لفهم أحداث العام الماضي، إذ تشرح هذه النظرية كيف يلعبُ تمييزُ الفردِ نفسَهُ عن الذين يراهم مختلفين عنه دوراً في مقاربة تشكيل الهوية أو تلاحم المجموعة، ويُمكِن أن يُبنى هذا التمايز على صفاتٍ متأصِّلة مثل العرق أو لون العين، أو صفاتٍ تستند على أنساقٍ اجتماعية مثل الهوتو والتوتسي في رواندا. فتحديد «الآخر» هو جزءٌ مما يُكرِّس الروابط في مجموعةٍ ما، عبر خلق قواعد ذهنية تُحدِّد من له أن يكون جزءً من هذه المجموعة ومن لا يحقُّ له هذا. مجملاً، ليس هناك ضيرٌ في «الآخَريّة»، وقد تكون أيضاً مفيدة، عندما تُستخدَمُ، مثلاً، لبناء الروابط التي تجمعُ محبي الرياضة الذين يُعادون برشلونة، أو أولئك الذين يُعادون ريال مدريد.

ولكن تكمنُ في الآخَريّة مخاطرُ ثقيلة عندما تتعلَّقُ بسياق الهوية القومية، ويبدو أن صُنّاعَ السياسات قد استخفوا بضرورة الآخَريّة وعواقبها. ونعم، بالتأكيد هناك علماء على درايةٍ بهذه النظرية وأُجريت العديد من الأبحاث الجيدة التي تناولتها، ولكن هناك كثيرين ممن لا يرون مدى الخطر الذي يَتمثَّلُ بالآخَريّة على الليبرالية والعولمة، وبدأوا فعلاً يحسبون أن التكامل الكوزوموبوليتي هو أمرٌ حتمي.

إليكَ مربط الفرس: إذا قمت فجأةً بمحو «الآخر» بمقياس شعبٍ ما، فسوفَ يقع هذا الشعبُ في متاهة لا-تناغم داخلية، وسيُعاني من اختلالات (سيستغرق الأمر سنواتٍ، وربما عقوداً، كي تتجلَّى هذه المشاكل بصورتها الكاملة). ولربما سيساعد هذا الدليل على الاستيعاب: منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حصلت حالتا إزالة مفاجئة لـ «الآخر» عالمياً، أولاهما كانت نهاية الاستعمار، فقد اختفى العدو المشترك الذي وَحَّد معظمَ المستعمرات السابقة بخروجِ بريطانيا أو فرنسا، أو أيِّ قوةٍ استعماريةٍ كبرى، وانتهى المطاف بهذه المستعمَرات بإيجاد أعداءٍ جددٍ فيما بينها، وواجهت هذه الدول أزماتِ وحدةٍ قومية حقيقية تجلَّت في سياقاتٍ إثنية أو دينية في معظم الأحيان.

بعدما انسحبت بريطانيا من الهند، فَسُدَت العلاقة، التي كانت مقبولة حتى وقتها، بين الهندوس والمسلمين سريعاً، وانقسمت الدولة إلى دولتين بتأسيس باكستان في 1948، ومن ثم ثلاث دول بمولد بنغلادش في 1971. وفي أفريقيا، عانت معظم الدول المستقلة حديثاً من هويةٍ قومية هشة، لأنها كانت تتكوَّن من عددٍ من القبائل أو المجموعات التي أُكرِهت على الانصهار معاً تحت الاستعمار، وكان نتاج هذا انقلاب الحركات المناهضة للاستعمار إلى عنفٍ مُدمِّر بين المجموعات الإثنية. كان حصول هذا أحياناً بصورة سريعة (أنغولا ونيجيريا)، وأحياناً أخرى بعد عقودٍ من نهاية الاستعمار (بروندي، رواندا، جنوب السودان، والسودان).

أما الحالة الثانية التي تلاشى فيها «الآخر» الأجنبي بغتةً، فقد كانت بسقوط الاتحاد السوفييتي. لقد خلق هذا تعقيداتٍ سياسية في الولايات المتحدة، وبصورةٍ مضطردة للحزب الجمهوري -الذي عُرِفَ طويلاً بأنه الحزب المناهض للشيوعية- على المدى القصير والطويل: فمع تبدّد شبح الاتحاد السوفييتي، لم يعد هناك معنى للسخرية من الديموقراطيين لموقفهم الناعم من الشيوعية والأمن القومي. (وطبعاً، لا يُلقي أحدٌ بالاً لسؤال من كان حقاً هو الأقسى على الشيوعية، فالمهم هنا هو الصورة الماثلة في ذهن الناخبين، تماماً مثل سؤال اليوم حول الحزب صاحب السياسات الأكثر مسؤولية مالياً، فعلاقة كلا السؤالين بالحقائق ركيكة في أفضل الأحوال).

ولكن لم تتجلَّ تداعيات الافتقاد «للآخر» بصورتها الكاملة حتى اليوم. قدّمَ العالمان السياسيان توماس مان وروبيرت أورنستين تنظيراتٍ مقنعة تناولت تحوّلَ الجمهوريين من حزبٍ ينادي بقطع أيادي نفوذ الحكومة، إلى حزبٍ يعادي الحكومة بالكلية خلال التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة، وقد تبيّن لهما، ببساطة، أن كل شيءٍ فعلته الحكومة كان سيئاً. ولكن لم يُضمِّن مان وأورنستين في تحليلاتهما أن هذا التحول كان، بصورةٍ جزئية، بسبب الحاجة إلى الآخَريّة في سياسة الأحزاب. ويظهرُ أن تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي على الحزب الجمهوري، لم تكتمل تجلَّياتها ولم يكتمل طفوها على السطح حتى اليوم.

لم يعد السوفييت يشكّلون تهديداً، ولكن «نخبة واشنطن» أخذت مكان «الشيوعيين» ليصبحوا أعداء الجمهوريين اللدودين. ووصلت حمّى «الآخر» إلى أوجها في 2016، وساعد على ذلك، بلا شك، الفشل السياسي المزدوج بين حرب العراق والأزمة المالية في 2008، إلا أن جذورها تعود إلى 1991.

هناك ثلاثة سمات بارزةٍ في الآخَريّة من منظور السياسيين القوميين، وأولاها هي أن «الآخر» لا بدَّ أن يحتل مساحةً كافية في رسم العلاقات الخارجية للدولة، بحيث يمكن صياغة هويتها ومفهومها للسلوكيات الصحيحة بالاستناد إلى ردّ فعل الآخر، ويمكننا أخد الاتحاد السوفيتي كمثالٍ واضح لذلك، فالآخَريّة اقتضت أن يرسّخَ الأمريكيون التزامهم بمبادئ الرأسمالية والديموقراطية، وأن يناهضوا تأثير الحكومة المباشر على الاقتصاد (وكذلك الأمر بالنسبة لنظام الرعاية الصحية، في وقتٍ كانت معظم الدول الصناعية قد أرست قواعد نظامٍ صحيٍّ بالفعل)، وأن ينسجوا سياسةً خارجية تستميل البلدان الأخرى، أو تحافظ على ولائها، «لصالحنا» في الميدان الجيوسياسي. أما ثاني هذه السمات فهو أن «للآخر» أن يأخذ صورتين: إما أن يكون «عدواً» أو «دوناً»، والصورة الثانية تؤدّي إلى الكراهية العمياء، بالتأكيد، ولكن خطر احتمالية قيام حربٍ دولية أقلّ فيها. وثالث هذه السمات هي ضرورة وجود مجموعةٍ من الزعماء يقومون بتشييد وتكريس سرديةٍ تربط بين تحديات الولايات المتحدة وفرصها وبين «الآخر».

وتساعد هذه السمات البارزة على استيعاب لماذا استعصى على الولايات المتحدة أن تجد «آخراً» جديداً لها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ونعم، يرى الأمريكيون في المكسيكيين دوناً لهم، ولكنهم ليسوا محوريين بما يكفي لتعريف هويةٍ أمريكية (ولكن هناك وافراً من الكراهية العمياء بكل تأكيد). ومنذ التسعينات، لم يبرز على ساحة «الآخر» سوى مرشحّين حقيقين اثنين، الأول هو الإسلام، بفضل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الزعماء الأمريكيين نبذوا هذا الخيار، وهو أمرٌ مفهوم، لقلقهم من أن هذا الوسم كان فضفاضاً أكثر من اللازم، وقد يقود إلى تمييزٍ غير أخلاقي. فبعد عشرة أيام من تلك الهجمات، كان خطاب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش واضحاً: «أعداء أمريكا هم ليسوا أصدقائنا المسلمين الكُثُر». والثاني هو الصين، ولكن أيضاً رفضَ زعماء أمريكا إلحاق وسم «الآخر» بالصين، فتصنيف الصين بأنها «عدو» كان له أن يعيق التجارة والأعمال، ووصفها بأنها «دون» لم يكن خياراً، ببساطة نظراً لديناميكيتها الاقتصادية. إذن، بدون «آخر» خارجي، انقلب الحزبان إلى الداخل باحثين عن «آخر»، فسلّط الجمهوريون غضبهم، بصورةٍ متزايدة، على الخبراء المتعلّمين، والعلماء، والنخبة. أما الديموقراطيون فقد انكبوا على سياسات الهوية، وحوّلوها إلى معركةٍ أخلاقية مانوية لها الأولوية على حساب أيّ شيءٍ آخر تقريباً، مع وصف جميع من يعارضونهم بأنهم متعصّبون.

وهنا، لعبَ ترمب على وتر الآخَريّة من منظور كلا الحزبين لصالحه. فعُلِّلَ انتصاره بأنه نتاج العنصرية والأهلانية المعادية للمهاجرين، ولكن ليس من المعقول أن نقول بأن الناخب الأمريكي انقلب بين ليلةٍ وضحاها إلى مخلوقٍ عنصري بصفةٍ غير مسبوقة. بل إن الأمريكيين، كمعدّل، يتمتّعون بتسامحٍ عرقي أكثر من أي وقتٍ مضى. ولكن ما تغيّر هنا هو أن ترمب تمادى في سرديةٍ جمهوريةٍ عتيقة عن النخبة المعتدّة بنفسها، فأصبح التبرؤ الفظّ من «التصحيحية السياسية» وسام شرفٍ يرتديه في الاحتجاجات المناهضة لنخبة واشنطن التي تجسّدت بصورة خصمه هيلاري كلينتون. وبالرغم من أن كثيراً ممن صوّتوا لترمب لم يكونوا سعداء بآرائه العنصرية والكارهة للنساء، كان هؤلاء مولعين بجرأته على إثارة غيظ المجتمع المؤدّب، فقد سمحت الآخَريّة لملياردير بأن يقدّم نفسه للناس بأنه واحدٌ منهم.

في أوروبا، لم تتصدّر سياسات الآخَريّة المشهد بالقدر نفسه من الصراحة، ويُعزى ذلك جزئياً إلى الاتحاد الأوروبي، الذي تجلّت فيه إيديولوجيةٌ تبّنتها الأحزاب الحاكمة، وكرّست مستوياتٍ أفضل من التكامل الدولي، وأيضاً لأن مناهضة الشيوعية كانت أقل محورية في السردية السياسية لزعماء أوروبا مقارنةً بأمريكا.

لم يمسخ غياب «آخر خارجي» الأحزاب اليمينية في أوروبا كما فعل بالحزب الجمهوري في أمريكا، فالحزب المحافظ البريطاني، على سبيل المثال، لم يجد بدّاً من كبت آرائه الأهلانية لأن نواته الانتخابية، وتمويله، وأعماله التجارية الكبيرة، كانت تريد أن تحافظ على روابطها مع الاتحاد الأوروبي. وعوضاً عن ذلك، خلقت الحاجة للآخَريّة مساحةً جديدة لأحزابٍ جديدة، ملأتها أحزاب اليمين المتطرّف، كحزب استقلال المملكة المتحدة، والجبهة الوطنية في فرنسا التي أسسّها مارين لوبين. كانت الفرصة مواتيةً لهذه الأحزاب لاستقطاب شريحةٍ انتخابية، واقتطعت هذه الشريحة من الطبقة البيضاء العاملة التي أرادت أن تطبّب هويتها القومية المكلومة من خلال القدح بـ «آخر»، وكان في هذه الحالة المهاجرون والنخب السياسية الأوروبية في بروكسل – مقرّ الاتحاد الأوروبي.

يمكن أيضاً فهم كندا، استثناءُ هذه النزعة اللا-ليبرالية في الغرب، عبر «الآخَريّة»، فتحتفي كندا بهويتها المتعدّدة عرقياً، وترحّب باللاجئين السوريين، وتتمتّع بنظامٍ ديموقراطي يؤدّي عمله على أحسن وجه. ولماذا؟ طبعاً لا يمكن اختزال سببية ذلك بعاملٍ واحدٍ فقط، ولكن أحد الأسباب هو أن «آخر» كندا حاضرٌ دائماً، والمقصود هنا هو الولايات المتحدة. فالكنديون لا يرون عدواً في الأمريكيين، وإنما دوناً. وترى أن المجلات الشهيرة في كندا لا تجد حرجاً في أن تكرّس فكرة «الكنديون شعبٌ أفضل، هكذا ببساطة». والكنديون ليسوا الوحيدين الذين ينظرون بدونية للأمريكيين بكل تأكيد، ولكن لا يوجد مكانٌ آخر في هذا العالم تتمتّع فيه هذه النظرية بهذا القدر من المحورية. كما أن الكنديين يمايزون أنفسهم عن الأمريكيين من منظورٍ فكري: تسامحٌ عرقيٌّ أعلى، ونظام رعايةٍ صحية شامل، وتقبّلٌ ألطف للمهاجرين. ويبدو أن هذه المقارنات كانت كافيةً لتغذية وحدةٍ وطنية دون تكدير صفو العلاقة مع أكبر شركائها الاقتصاديين.

هناك سنغافورة مثلاً التي يمكن أن نرى فيها كيف يستطيع النظام، حتى في مجتمعٍ لا-ليبرالي، أن يحتوي الآخَريّة، لتجنب الاختلال والتوتر. فسكان سنغافورة يتوّزعون إثنياً إلى 74% صينيين، و13% ملايو، و9% هنديين. وقرّرت سنغافورة في نوفمبر 2016 أن تجعل منصب الرئاسة، المراسمي مجملاً، يتناوب بين المجموعات الإثنية الثلاثة الرئيسية. وفي تعليله لهذا القرار، يقول رئيس الوزراء لي هسين لونج إنه أراد لكل مواطن بأن يعرف أن «لأي أحدٍ من هذا المجتمع أن يصبح رئيساً، وأنه، من وقتٍ لآخر، يصبح رئيساً بالفعل». ويقتضي هذا أن يصدر النظام مرسوماً دورياً يجعل الترشح للرئاسة حصراً في مجموعةٍ عرقيةٍ لكل دورة، ولا يخفى على أحد أن هذا النظام غير ليبرالي، ويسبّب كثيراً من المشاكل. ولكن تتمتّع سنغافورة بعلاقاتٍ عرقية ومدنيةٍ اجتماعية حسنةٍ بصورةٍ لافتة، مقارنةً بجارتها ماليزيا. والمقصد هنا هو أن الأنظمة الناجحة لا تتجاهل الآخَريّة، بل تسخّرها وتوجّهها.

ولكن عندما تفشل النخبة في توجيه أنظار شعوبها إلى كينونة «الآخر»، يختار الشعب بنفسه من سيكون «الآخر». وأحياناً ينقلب الشعب على النخبة، كما يُستشفّ من نهوض حركة الشاي (The Tea Party Movement). وأحياناً يرتمي الشعب في أحضان العنصرية والزينوفوبيا، كما يُستشفّ من نهوض القومية البيضاء. وبغض النظر، لا تكون النتيجة محمودة.

ربما ما تستطيع الليبرالية الكلاسيكية استنتاجه من كل ذلك هو أن مبادئ التسامح والمساواة بصورتها التجريدية الكوزمبولولتية ليست كافيةً، كما يظهر، لأن تكون أساس ثقافةٍ وطنية. ربما تؤتي هذه المبادئ ثمارها للبعض، خصوصاً المثقّفين، ولكنها ليست كافيةً للسواد الأعظم من الناس. فالآخَريّة لها جذورٌ عميقة في النفس البدائية. لذلك، ربما يجدر بنا، ونحن نحاول مواجهة المدّ المتزايد لـ اللا-ليبرالية، أن نفكّر بصورةٍ جادة في كيفية معالجة الحاجة للآخَريّة، عوضاً عن التظاهر بأنها غير موجودة.