تقود ميرا ميرونوفا سيارة هامفي شوتغن عبر شوارع الموصل المدمرة. نحن في أواخر كانون الثاني/يناير 2017. كان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد أعلن تواً أن شرق الموصل تحرَّرَ بعد ثلاث سنوات من حكم «الدولة الإسلامية». أغلب المقاتلين الجهاديين قُتلوا أو اعتُقلوا، أو عبروا دجلة نحو الغرب، باحثين عن موقع أخير للقتال، تاركين وراءهم قناصين وانتحاريين لمنحهم وقتاً للهروب.
أغلب السكان هربوا أو لجأوا إلى معسكرات في الضواحي. الذين بقيوا بدوا ضائعين ومشوشين. رجال يرفعون جثثاً من منازل مدمرة بالغارات الجوية. آخرون يتجمعون بطريقة مبعثرة في الأسواق المقامة في زوايا الشوارع، يبيعون اللحم والخضار الواردة من أربيل، البعيدة 80 كيلومتراً، والأشبه بعالم آخر بعيد.
يمكن ملاحظة بعض النساء. تقف ميرونوفا خارجاً، ببنطال عسكري فوقه «تي شيرت» لجامعة هارفارد، فيما تتطاير خصلات من شعرها الأشقر تحت قبعة زرقاء. رغم تنقلها في سيارة مدرعة، يبدو مؤكداً أنها ليست عسكرية. إنها عالمة اجتماع، وعملها ليس أن تقاتل ولكن أن تستمع وتتعلم وتسجّل.
نتوقف لتناول الفطور في «ماي فير ليدي»، وهو مطعم مهتز الأركان كان مكاناً مفضلاً لأكل مقاتلي داعش. عناصر من القوات العراقية الخاصة التي ترافقنا قالوا إنه يقدم أفضل «باجة» في المدينة – صحون يصعد منها البخار لمخ الخروف وخصيتيه، محشوة بالرز، مع شرائح سوداء من اللسان الدسم، وبرتقال مغلي. ميرونوفا طلبت بيتزا.
بعد أسبوع، قام مهاجم انتحاري بتفجير نفسه خلف المطعم قاتلاً صاحبه والزبائن الذين كانوا داخله.
*****
«الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها استراتيجية مناهضة للإرهاب»، تقول مارثا غرينشو. في مواجهة موجات من هجمات الإرهاب الجهادي، في مواقع النزاع، في سوريا والعراق وحتى في داخل أوروبا والولايات المتحدة، يبدو الغرب ضائعاً وجاهلاً لما يمكن أن يفعل.
غرينشو هي أقرب ما تكون للمختصة العليا بدراسات الإرهاب، بسيرة تقارب الخمسين عاماً من دراسة جذور الإرهاب. لديها مكتب في جامعة ستانفورد قريب من مكتب كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي السابقة ومهندسة «الحرب العالمية على الإرهاب» التي تم إعلانها بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. «هناك مبالغ ضخمة رميت في نظام مكافحة الإرهاب ولا أحد في موقع المسؤولية» تقول غرينشو. «لا نعرف حتى كيف يمكن أن يبدو النجاح في هذه الحرب. نحن نلعب لعبة مطاردة الخلد الخطرة: يظهر إرهابيون، نحاول أن نعيدهم إلى تحت الأرض، آملين أن ييأسوا من معاودة الظهور».
في تموز/يوليو، عاد العبادي إلى الموصل، هذه المرة ليعلن التحرير النهائي للجزء الثاني من المدينة. بعد التدمير الكامل لوسط المدينة بغارات القوات الجوية الأمريكية وعدد هائل من الإصابات، الهجوم الذي شنته القوات العراقية من منزل إلى منزل قضى على أغلب المقاتلين المسيطرين على المدينة، التي كان قائد «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي، قد أعلن الخلافة فيها عام 2014. تكلفة التحرير كانت باهظة. تحوّلت الموصل إلى خرائب، وعشرات الآلاف من المدنيين قُتلوا أو جرحوا، وقرابة مليون من ساكنيها نزحوا من بيوتهم.
التكلفة لم تتحملها الموصل وحدها. في حزيران/يونيو، 206 من المدنيين قتلوا في قصف وهجمات قام بها التنظيم في العراق، أفغانستان، سوريا، مصر، إيران، أستراليا، باكستان، وبريطانيا، حين قام مؤيدون للتنظيم بقتل ثمانية في هجوم قرب لندن بريدج في 3 حزيران. قبل أسبوعين من ذلك، في 22 أيار/مايو، قام شاب بريطاني في الـ 22 من عمره يدعى سلمان رمضان عابدي بتفجير نفسه في صالة مانشستر أرينا، ما أدى إلى مقتله و22 شخصاً، كثيرٌ منهم أطفال.
لماذا؟ أصولية دينية؟ كراهية لا أساس لها؟ إيديولوجيا منحرفة؟ الانتصار في الحرب على الإرهاب يقتضي منها أن نعلم ماذا ومن نقاتل بالضبط.
*****
بعد الإفطار، صحبنا قوات كوماندوز عراقية إلى البيوت المهجورة التي كانت تستخدم من قبل عناصر داعش، متنبهين لإمكانية وجود ألغام مخبأة. نظرنا إلى غرف مظلمة، مطوقة بقضبان حديد كانت تستخدم كسجون للرقيق و«الكفار» من المسلمين الذين يخالفون التنظيم. دققنا في الملصقات على العلب التنكية، وعلب الحلويات الممزقة وقناني فارغة من الويسكي.
الجنود قاموا بأخذ صور للمكان، ولأذون العبور على الحواجز، وأوراق عليها أسماء وأرقام هواتف. تضع ميرونوفا وثائق دينية مخطوطة بالعربية والروسية. العديد من مقاتلي التنظيم الأجانب في العراق وسوريا هم من الشيشان والطاجيك. يسلم أحدهم ميرونوفا مذكرة مكتوبة بالروسية. تقرأها بصوت عال، مُترجِمَةً الرسالةَ المكتوبةَ من امرأة إلى حبيبها المجاهد.
«نحن مخلوقان لبعضنا البعض، زواجنا مختوم في الجنة، نحن معاً في هذه الحياة وفي الآخرة، إن شاء الله. حين غادرت، كنت أعد الأيام إلى أن عدت لي، يا حبيبي. أنت الآن ذاهب إلى الحرب مجدداً، فقد تذهب للأبد. سأعد الأيام حتى نلتقي مجدداً، حبيبي زكريا». بعد قراءة الرسالة، أضافت المرأة وصفة لصنع كعكة بالعسل تحتاج لحليب دسم لا يمكن الحصول عليه في العراق. الجهاديون يحلمون بالطعام الجيد، أيضاً.
*****
خلال ثمانينيات القرن الماضي، عمل مارك سيغمان كمسؤول في جهاز الاستخبارات الأمريكية، مديراً لخلايا مسلحة تقاوم الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. يعمل سيغمان حالياً كسيكولوجي أدلّة جنائية متخصص في الإجرام والإرهاب، وهو ما زال يحقق في: ما الذي يؤدي للإرهاب؟ منذ عقود.
في كتابه المنشور عام 2004 فهم شبكات الإرهاب، تَفَحّصَ سيغمان دوافع 172 إرهابياً جهادياً مُعتَمِداً وثائق المحاكم. الاستنتاجات التي توصل إليها تطابقت مع عقود من مقابلات السجناء والدراسات السيكولوجية، التي تظهر أن الإرهاب لا يمكن اختصاره بشكل مطلق في الدوافع الدينية أو الإيديولوجية، أو بأعطاب الشخصية.
«الإرهاب ليس ميزة شخصية»، يقول سيغمان. «ليس هناك شيء يمكن أن نسميه إرهاباً، مستقلٌ عن الشخص الذي قام بالعمل الإرهابي».
يكشف هذا الأمر إشكالية محاولات تصوير أو تعريف أو منع أفراد معرضين لخطر التحول إلى الإرهاب، وهذا أمر يشكل عائقاً في برامج منع التحول للتطرف مثل استراتيجية «الوقاية» البريطانية. المجتمعات الديموقراطية لا يمكنها أن تراقب كل الناس، والأمر الذين يسعون لرؤيته يمكن ألا يعطي أي إشارات واضحة عن وجوده.
ورقة غرينشو الشديدة التأثير «مسببات الإرهاب»، المنشورة عام 1981، تلخص عقوداً من ملاحظة الإرهابيين ومنظماتهم، بدءً من الفوضويين الروس في القرن التاسع عشر إلى الإيرلنديين، إسرائيل، الباسك والثوار الجزائريين. الميزات العامة الواضحة في الأفراد الإرهابيين، تستنتج، هو أنهم أشخاص عاديون. في كتاب المنظّرة السياسية حنا أرندت «أيخمان في أورشليم»، المنشور عام 1963 تشير إلى الشيء نفسه حول «عادية» بيروقراطي معسكرات التجميع النازية أدولف أيخمان.
الأشخاص الذين يرتكبون أفعالاً إرهابية هم عادة موجودون ضمن شبكة عائلية وروابط رفاقية موالية لجماعة مغلقة، من الممكن أن تكون قبلية، ثقافية، قومية، دينية أو سياسية. إن شروط قتل أشخاص أبرياء بعمل إرهابي أو إبادة جماعية تحصل، تاريخياً، حين تتعرض جماعة معينة لمخاوف القضاء عليها على يد جماعة أخرى. أشخاص عاديون يحصلون على دافع «لقتل أشخاص على الهوية» التي تتعارض مع هوية جماعتهم.
إذا نظرنا للمسألة من داخل الجماعة، يبدو الأمر عقلانياً: الإرهابيون هم أشخاص شجعان غير أنانيين يحمون جماعتهم من أذى غرباء أقوياء. أعمال الإرهاب هي إنذارات للجماعة الخارجية، تطالبها بالقيام بأفعال معينة، مثل انسحاب احتلال عسكري أو إنهاء انتهاكات حقوق بشر. الإرهاب هو خطة علاقات عامة عسكرية للحصول على هدف أعلى – تكتيك سياسي، وليس حرفة أو انعكاس لظل إيديولوجيا.
غير أن أغلب الناس الذين يمكن أن يشاركوا الإحساس نفسه بالظلم أو بالأهداف السياسية ليست لديهم دوافع لقتل البشر أو التمثيل بجثثهم. قام الأخصائي بعلم الإجرام في جامعة شرق لندن أندرو سيلك بالعديد من المقابلات مع جهاديين سجناء في بريطانيا. «حين أسألهم لماذا تورطوا، أجد عائلات مفككة، أو ما حصل في المدرسة وفي حيواتهم الشخصية، التمييز في الوظائف، الرغبة في الانتقام لازدياد عدد قتلى المسلمين في العالم».
غير أن هذه ليست وجهة نظر ذات شعبية لدى أجهزة مكافحة الإرهاب، كما يقول. «الحكومة لا تحب أن تسمع أن أحداً أصبح جهادياً لأن أخاه ضربته الشرطة أو لأن الغارات الجوية قتلت مجموعة كبيرة من المدنيين في الموصل. الفكرة المسيطرة هي أنه لو ركزنا على هزيمة الإيديولوجية الإسلامية المتطرفة فيمكننا، بطريقة ما، تجاهل كل الفوضى، وترك الأمور السلوكية المعقدة جانباً».
*****
تدربت ميرونوفا على الرياضيات، نظرية اللعب واقتصاد السلوك. إلى كونها زميلة في مدرسة هارفارد كينيدي، فإنها وعددٌ قليلٌ من الباحثين غامرت مباشرة بالدخول إلى مواقع القتال لفحص جذور الإرهاب الجهادي. تم تمويل عملها من قبل «الكونسورتيوم القومي الأمريكي لدراسة الإرهاب وردود الفعل عليه»، ومن قبل جمعية «مجتمع مفتوح» التي يمولها جورج سوروس، والأمم المتحدة وبنك العالم.
خلال إقامات مطولة في سوريا، العراق واليمن خلال الخمسة أعوام الماضية، بنت ميرونوفا شبكات موثوقة ومتعددة الاتجاهات السياسية ضمن قوس واسع من المقاومين، بمن فيهم جهاديون «راديكاليون» و«معتدلون» وكذلك عناصر من تنظيم «الدولة» والمنشقون عنه. تتنقل بسهولة عبر الحواجز العسكرية التي تحيط بالموصل بإذن من الجيش العراقي، وهي تبقى قريبة من حُماتها، حذرةً ألا تعبر الخط الأخلاقي لـ «عدم الأذى» الذي يفصل الباحثين الأكاديميين عن موظفي الاستخبارات.
من خلال رؤية الأشياء عبر عيون المقاتلين، تهدف ميرونوفا إلى فهم ما الذي يدفعهم، وكيف تؤثر دوافعهم الشخصية على تصرفات الجماعة التي ينتمون إليها وبالعكس. هي تقرأ العربية، لكنها تستخدم مترجمين محليين في الميدان. تقوم بمقابلات مع المقاتلين والمدنيين في المشافي، ومخيمات اللجوء وعلى خطوط الجبهة وجهاً لوجه أو عبر الهاتف وسكايب.
الأغلبية في العراق هم من الشيعة، لكن أغلبية سكان الموصل من السنة: تمارس داعش شكلاً قيامياً من المذهب السني في إقليم ضعضعته كوارث اجتماعية واقتصادية. الكثير من المدنيين في المناطق التي سيطر التنظيم عليها تعاونوا معه، عن رضا أو غصباً عنهم. البعض استضافوا مقاتلين ضمن بيوتهم. عمل البعض في مصانع التنظيم، لبناء صواريخ مصنعة محلياً، وقطعوا ولحموا الحديد لصنع قضبان السجون وصفائح مدرعة للعربات. البعض هربوا إلى معسكرات النازحين، البعض تزاوج مع المقاتلين، والبعض انضموا للخلايا النائمة.
في «مسببات الإرهاب»، تلاحظ غرينشو أن أطفال النخبة الاجتماعية هم الأوائل الذين ينخرطون في الإرهاب، آملين في إلهام الجموع الأقل امتيازاً على الموافقة على تغييرات جذرية في النظام الاجتماعي. العديد من منظمات الجهاد الراديكالي يقودها عناصر من مثقفي أعلى الطبقات الوسطى، وهم غالباً مهندسون. قائد تنظيم القاعدة أيمن الظواهري هو طبيب، وأبو بكر البغدادي، على ما يقال، حاصل على الدكتوراه في العلوم الشرعية.
غير أن أعمال ميرونوفا وآخرين تظهر أن بقية ضباط وعناصر تنظيم الدولة هم أشخاص متواضعون: أناس ليست لديهم امتيازات يناضلون للحصول على عيش لعائلاتهم في قطاعات الحرب. يبدو المقاتلون الأجانب مدفوعين بالإيديولوجيا أكثر، وعوامل تأثرهم تكون خارج هوية الجماعة للحصول على حالة التضحية الكبرى.
بعض عناصر الميليشيات يحاولون الانتقام لموت أصدقاء أو أقارب بهجمات طائرات من دون طيار أمريكية، أو على يد الميليشيات الشيعية، الشرطة العراقية أو القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية. غير أن وجود الأسيرات اللاتي يستخدمن جنسياً وقناني الويسكي يُظهِرُ أن المقاتلين الجهاديين لا يركزون بشكل خاص على الجوائز السماوية، أو حتى الكراهية والانتقام. ليس كل جهادي يريد أن يموت. جهاديو العراق يصادرون عربات النفط وينقلونها إلى أسواق أكثر طلباً في سوريا لزيادة أرباحهم. هم غالباً ما يوزعون الغنائم من البضائع المصادرة وعمليات التجارة ضمن الجماعة.
العديد من مناصريهم هم عملاء تجاريون، تم تجنيدهم عبر عرض الأجور المرتفعة، التأمين الصحي وفوائد تدفع لعائلاتهم إذا قتلوا اثناء المعارك. قامت ميرونوفا بمسح مجموعة من العراقيات اللاتي شجعن أزواجهن وأبناءهن على الانضمام لـ «الدولة» لتحسين أوضاعهم المالية. بعض المجندين يحتاج وظيفة وحسب.
في العراق وسوريا، هناك أكثر من 1000 منظمة إسلامية راديكالية، أو معتدلة، أو غير طائفية تحاول تجنيد عناصر تحت رايتها. في نماذج ميرونوفا فإن سلوكيات هذه التنظيمات تحددها القيود على مصادر التمويل، وهو يشبه ما يحصل مع ازدهار أو موت المؤسسات الرأسمالية. تتنافس الجماعات على أفضل المقاتلين. أولئك الذين يملكون ميزانيات ضئيلة يختارون خطاً دينياً جذرياً لاستقطاب المتطرفين الأجانب والذين ليسوا محترفين كالمقاتلين الذين يحركهم الدافع المالي، ولكنهم سيعملون مقابل المسكن والغذاء. هذه النماذج تقترح أنه رغم أن جذور العنف الجهادي يمكن أن تُفَسَّرَ بالحميّة الدينية، فإنها يمكن أن ترتبط بأمور وأسباب أكثر عادية، استعمالية، ويمكن حلّها.
*****
«حين يقوم السياسيون بشيطنة داعش على أنها شرّ، فإن الهرمونات تفيض داخل الدماغ بإشارات الخطر»، يقول هريار كابايان. «لقد فقدنا التفكير بشكل علمي. نحتاج أن ندخل في عقول مقاتلي داعش وننظر إلى أنفسنا كما ينظرون هم إلينا».
يدير كابايان برنامج البنتاغون لاستراتيجية التقييم المتعدد المستويات (SMA). وحدته لمكافحة الإرهاب تجمع خبرات شبكة متطوعين من 300 عالم من المؤسسة الأكاديمية، الصناعة، أجهزة الأمن والجامعات العسكرية. إنهم يجمعون فيزيائياً وافتراضياً للإجابة على أسئلة سرية أو غير سرية من المقاتلين، بمن فيهم القوات الخاصة الذين يحاربون داعش في سوريا والعراق. النتيجة هي سيل متواصل من الوثائق التي تستنتج أن استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية بشكل عام – عبر القضاء على قادة المتمردين، قصف مراكزهم المحصنة – هي استراتيجية غير بناءة.
المعلومات الموثوقة عن هجمات الإرهابيين وفعالية الهجمات المضادة للأعمال الإرهابية يصعب الحصول عليها. تسجل شبكة البيانات العالمية عن الإرهاب START، الموجودة في جامعة ماريلاند، تفاصيل الحوادث الإرهابية كما يتم عرضها في وسائل الإعلام الناطقة بالإنكليزية. لكنها لا تسجل عمليات مكافحة الإرهاب. تفحّصُ معطيات الأحداث في مصادر START يمكن أن يكشف أنماطاً إحصائية في هجمات الإرهاب، عدد الضحايا وأنواع الأهداف والأسلحة المستخدمة. أما شبكة معلومات خرائط المنظمات العسكرية، التي توجد في جامعة ستانفورد، فتتضمن معطيات ذات علاقة بالبيئة السياسية التي تفرز الإرهاب، لكنها تعتمد أيضاً على تقارير الأخبار الإنكليزية فقط، وبعض الدوريات الأكاديمية المختارة.
كلا الشبكتين تتضمنان أعمالاً إرهابية قامت بها دول، باستثناء «الدولة الإسلامية». الحدود التعريفية بين التمرد والإرهاب وقمع الدولة غامضة. العمليات العسكرية التي تحصل ضد جنود يجري اعتبارها إرهاباً، أما أفعال الشرطة المميتة أو الهجمات التي تنفذها حكومات فتعتبر مجرد أفعال حربية، أو أضرار جانبية، وبالتالي يتم تجاهلها.
المعطيات السرية لم تعد شاملة: قرابة 80 بالمئة من المعلومات الاستخبارية فائقة السرية يتم الحصول عليها من مصادر مفتوحة، بما فيها تقارير الإعلام. المعطيات الخام التي تناقض السياسة أو التي تسيء للجيش غالباً ما تُهمّش إعلامياً أو يتم تجاهلها من قبل المسؤولين الميدانيين المهتمين بالعيش للقتال ليوم آخر. هناك رقابة أيضاً: يقول تحقيق حديث قامت به مجلة ميليتاري تايمز إنه منذ 11/9/2001، فشلَ البنتاغون في الإعلان عن ثلث غاراته الجوية في العراق، سوريا وأفغانستان، حاذفاً قرابة 6000 هجوم جوي منذ عام 2014.
الاعتماد على مصادر غير كافية يمكن أن يجعل الدوافع الحقيقية والجذور المسببة للأحداث غامضة. «المشكلة أن الصحافة عادة لديها سردية مختلفة تماماً حول منفذي العمليات، لا يتم تصحيحها إلا حين يتم تقديم أدلة خلال المحاكمات» يقول سيغمان. تكشف ملفات إدوارد سنودن المسربة لجهاز الاستخبارات القومي الأمريكي NSA أن الجهاز عانى من مشاكل في توظيف محللين استخباراتيين من الناطقين بالعربية والباشتو، الذين يفهمون الثقافات التي يحللونها. أجهزة الاستخبارات العسكرية تركز على كشف وقتل المشتبه بهم أكثر من فهم الدوافع الاجتماعية.
يمتدح كابايان أسلوب ميرونوفا «الشجاع» في البحث، والمعلومات التي تقدمها من الميدان. في اجتماع آذار/مارس لـ SMA من هذا العام، كان السؤال إن كانت الهزيمة الفيزيائية لداعش في الموصل ستنهي خطر التنظيم. ستون عالماً، بمن فيهم ميرونوفا، حللوا الإشكالية من عدة اتجاهات. جوابهم الوحيد كان: لا. الوقائع حتى الآن تؤكد هذا الاستنتاج.
ليس هناك حلٌّ سهلٌ لمسألة الإرهاب، يقول كابايان، لأنه لا الإرهابيون ولا مكافحة الإرهاب هم أطراف عقلانية بشكل مطلق. «كلمات “عقلاني” و”غير عقلاني” لا تعنيهم» يقول. «الناس يتصرفون بشكل عاطفي، غير منطقي. المجتمعات الإنسانية معقدة، تقتبس أنظمة ذات ميزات مندفعة لا يمكن توقعها».
العديد من طرق الوصول إلى دليل حالياً تشير إلى أن أنظمة الإرهاب ومكافحة الإرهاب، هي نظام واحد تحكمه دوائر ردود الفعل؛ الأفعال والتكتيكات لطرف ترتقي من خلال رد الفعل على أفعال الطرف الآخر، كما هو الأمر في حلبة مصارعة. من خلال هذا المنظور، فإن مسار داعش يمكن احتسابه بشكل ارتجاعي، كرد فعل على الأحداث.
إنه مسار سريع. النماذج الإحصائية التي بنيت على ما نعرفه عن التمردات وحوادث الإرهاب في سوريا والعراق تظهر أن الجهاديين هم أمثال داوود، والجيوش التقليدية هي غولياث المخزّن وسيء الاستعمال. الجماعات المتطرفة يمكن أن تتشظى ويمكن أن تتحد في جسم واحد بسهولة نسبية: إنهم «مضادون للتشظي»، ويزدادون قوة أمام الهجوم عليهم. ليسوا ملزمين بقادة كاريزميين، ولكنهم شبكات تنظم نفسها بنفسها، ويمكن أن تتحرك بشكل مستقل عن أي سيطرة مفردة، وتستطيع إيجاد مصدر جديد لتجنيد العناصر.
الطبيعة المعقدة التي تتطور للجماعات تقترح أن استراتيجية أمريكا لزيادة القوات البرية في العراق وسوريا وأفغانستان لن تحميها من الجهاديين. هذا الاستنتاج تم الوصول إليه عبر دراسات عن تأثير «اندفاعات» القوات البرية في العراق عام 2007 وأفغانستان عام 2012، وكلاهما أظهر زيادة في حجم الإرهاب. «الأنظمة الحقيقية المعقدة لا تشبه البنى الستاتيكية التي تتساقط؛ إنها شبكات عنكبوتية تعاد حياكتها بشكل مستمر مرن»، كما تقول دراسة تمت عام 2013 لـ SMA عن حركات المقاومة المسلحة.
ضربات الطائرات من دون طيار لاستئصال الخلايا الإرهابية على الأغلب ستفشل هي أيضاً. في دراسة عام 2017 لجنيفر فاريال كارسول من جامعة سنترال ميسوري، تم الاستنتاج أن قتل القادة المؤثرين للجهاديين هي «عملية غير بناءة، إذا كان همها الأساسي هو خفض الإرهاب الذي تقوم به منظمات الجهاد العالمية».
في تموز /يوليو 2016، قالت صحيفة جورجتاون ببليك بوليسي ريفيو إن «زيادة كبيرة إحصائياً في عدد الهجمات الإرهابية في باكستان حصلت بعد أن بدأ برنامج طائرات الدرون الأمريكية باستهداف منطقة معينة».
غارات الدرون تتبع قوانين النتائج غير المطلوبة، يقول كريغ وايتسايد من مدرسة الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا. «قتل قائد مؤثر يمكن أن يلهم الحاجة لشخصية كاريزماتية جديدة بعد وفاة قائد، أو يؤدي إلى تخلخلٍ يسمح بالاتجاهات الأكثر تطرفاً للصعود إلى السلطة».
التأثيرات تم تلمسها في مانشستر كما في الموصل. في كتابها الجديد، مجابهة الإرهاب، تقول غرينشو: «التدخلات العسكرية الغربية عززت قوة سردية الجهاديين أن المسلمين مستهدفون في كل مكان. قد يكون ذلك قد جعل داعش أكثر تصميماً على أن تصبح مصدر إلهام بدل أن تكون مصدراً للعمليات الإرهابية. كما أنها لم تمنع المنظمات الجهادية (في العراق وأفغانستان) من إعادة التوحد والتمدد».
الطبيعة الارتقائية للرسالة تعني أنه من الصعب القيام بحرب عبر نشر السرديات المضادة. الشبكات الاجتماعية تضمن أن الرسالة تعود بسرعة لتجمع المتعاطفين في الغرب. علماء المعلوماتية من مدرسة الدراسات العليا البحرية درسوا تغريدات تويتر من مناطق سيطرة داعش قبل وبعد قيام الولايات المتحدة بضربهم عام 2014. قبل الغارات، ركزت التغريدات على الأعداء القريبين: المحافظون، الأئمة، الشرطة والجنود. بعد هبوط القذائف تحولت التغريدات باتجاه عالمي، مطالبة بتدمير الحكومات الغربية وقتل مواطنيها.
خلال السنوات الثلاث اللاحقة، طارد مقاتلو داعش، أو الذئاب المنفردة المتعاطفة معه، أبرياء في بروكسل، باريس، أورلاندو، سان بارناردينو، نيس، مانشستر ولندن. التغيرات العالمية في وسائل التواصل تعكس التغيرات في السياسات المحلية لحركات التمرد، وخصوصاً رغبة تصدير الإرهاب خارجاً. وبكلمات أخت عابدي، مهاجم مانشستر، فإنه «شاهد الصواريخ التي تسقطها أمريكا على الأطفال المسلمين في سوريا، وأراد أن ينتقم».
جماعات الإرهاب نادراً ما تُهزم بالقوة العسكرية؛ فإما تحقق حلولاً سياسية، أو أنها تختفي لأن المظالم تم حلها أو تم تشتيتها، أو أنها تفقد أنصارها بسبب ممارساتها الوحشية ضدهم. وبالاتجاه المعاكس، فإن قصف قوات التحالف الأمريكي على المدنيين في الفلوجة والموصل في العراق والرقة في سوريا، والأعمال الوحشية التي يمارسها المحررون العراقيون ضد المشتبهين وعائلاتهم، أفعال تخاطر بخلق موجة جديدة من المظالم السنية.
بناء على دراسة ممولة من البنتاغون حول الآراء الشعبية أجريت خلال عامي 2015 و2016 فإن «الأغلبية العظمى» من المسلمين في العراق وسوريا لا يؤيدون داعش. لكن هذا يعكس العلاقة مع فهم التنظيم للدين وإيديولوجيته، ولا يعكس تأثير المظالم الاجتماعية والاقتصادية. وفي الموصل، تقول الدراسة، إن 46 بالمئة من السكان كانت تعتقد أن غارات التحالف مثلت التهديد الأكبر لأمن عائلاتهم، فيما 38 بالمئة قالوا إن داعش كان الخطر الأكبر.
إذا استمرت البنية التحتية الاجتماعية للعراق بالتدهور، فإن الحرب العالمية على الإرهاب التي كلفت حتى الآن 4 تريليونات دولار ستستمر – وستضيع حيوات مدنيين آخرين في هجمات الجهاديين في بلدانهم وكذلك في الغرب. «السنة في العراق لديهم حافز حقيقي للحقد» يقول كابايان. «لقد تم تهميشهم من قبل الحكومة الشيعية التي أسسناها؛ إنهم يتعرضون للهجوم، ولا أحد يحميهم. نستطيع ويجب أن نوفر الرعاية للمهزومين – الأمان، الوظائف، الحقوق المدنية. إذا لم نفعل ذلك، بعد سقوط الموصل، فسنواجه الطبعة اللاحقة من داعش 2.0».
الاستراتيجيات غير البناءة تسير في اتجاهين. التأثير الآني لوقوع الضحايا من المدنيين في الهجمات الإرهابية هي بشكل عام تخفض قدرة السكان المهاجمين على استيعاب أن مظالم الجماعة المهاجمة حقيقية، كما أنها تعزز الرغبة السياسية بالرد عسكرياً. كابتن البحرية الأمريكية المتقاعد واين بورتر كان رئيس الاستخبارات البحرية للشرق الأوسط بين 2008 و2011. وهو مقتنع أن «الحل الوحيد» للإرهاب هو التعامل مع جذوره المسببة.
«الخطر الوجودي الوحيد لنا من الهجمات الإرهابية، سواء كان حقيقياً أم متخيلاً، هو أن نبقي على السياسات الهدامة الحالية، والمنظمة بشكل فوضوي، والمسارات المحكومة بدوافع جني المال»، يقول بورتر، الذي يُدرِّسُ حالياً دورات في مناهضة الإرهاب لضباط عسكريين في المدرسة البحرية للدراسات العليا. «استراتيجيتنا الحالية لمكافحة الإرهاب، والتي ليست استراتيجية، ستدمر قيمنا الديموقراطية».
حين تم طرد داعش من غرب الموصل في تموز / يوليو، عادت ميرونوفا إلى ميدان المعركة، لجمع معلومات أكثر حول مصائر عائلات المتهمين بالتعاون مع داعش. العمليات الانتقامية الخارجة عن القانون ضد السنة من قبل القوات الشيعية والكردية تسبب الرعب والاستياء، وهي تغذي داعش، التي هي أبعد ما تكون عن الهزيمة.
«داعش هي مثل H2O. يمكن أن توجد في عدة حالات: جليد، ماء وبخار» تقول ميرونوفا. «في الموصل، كانت جليداً قمنا بتذويبه. إنها الآن في حالتها المائية، تفيض نحو الأرياف، للسيطرة على بقاع أخرى، ويمكنها أن تتبخر لتحيا وتعيش يوماً آخر».