«جرّاء الإرهاب»، كان لا بدَّ للفن التشكيلي المساعدةُ في تعويض ما لحق بمدينة حلب وأهلها، هكذا أخبرتنا وكالة سانا عن معرض للفن التشكيلي حملَ اسم «إرادة الحياة» في 16/11/2017، ضمَّ جيلين من فناني المدينة، بمشاركة 32 فناناً وفنانة. وقبلها بنحو شهر، كان معرض «دير الزور تنتصر»، بمشاركة 14 فناناً من أبناء المدينة، عبّروا من خلاله عن «دحر الإرهاب» و«فكّ الحصار» و«عودة السلام إلى المدينة».
آلاف البيوت المدمرة، ومئات آلاف الشهداء والمعتقلين، وملايين النازحين، لم تستطع أن تقنع هؤلاء التشكيليين بالوقوف مع قضايا شعبهم، وكأن هذا الزمن المأزوم يأخذنا بعيداً عن جنون لؤي كيالي، الذي عاش نكسة وألم الشعب الفلسطيني في لوحاته الأخيرة، لينتهي به الأمر منتحراً كما قيل، وعن ثورة الفرنسي يوجين ديلاكروا، حين رسمَ لوحته الشهيرة «الحرية تقود الشعب» تطبيقاً لمقولته: «إن لم أقاتل من أجل وطني، فعلى الأقل سأرسم له».
لم تفجر الثورة/الحرب، على الرغم من تكرار مشهدية الألم والموت والدمار، الطاقات الكامنة داخل تشكيلي سوريا، فبدا الانقسام واضحاً جداً، وخالفَ كثيرون منهم الدور الرائد للفن في تحويل الصور البشعة إلى رسائل بمضمون إنساني منصتٍ إلى صوت الضعفاء في رفض الظلم. وهكذا كان يتوجب علينا البحث في جدران الأمكنة وتحت أنقاضها، وبين أكياس مسافريها، عن لوحاتهم التي وثَّقت ما حدث. هناك في بيت فقير في حي مساكن هنانو، ثاني أكبر حي في مدينة حلب، كان الفنان التشكيلي الوحيد الذي بقي في المدينة هو مضري حسن إبراهيم، يوثق كل الظروف من قصف وألم وتهجير وتدمير لأحياء حلب، ويواكب أحداث الثورة، ليظهر الجانب الفكري والفني لها من الداخل السوري.
درسَ المضري الفن التشكيلي على يد كبار فناني حلب في مركز محمد فتحي للفنون التشكيلية، الذي تأسَّسَ عام 1961. وإذا كان بعض الفنانين يُرجعون تاريخ تأسيسه إلى عام 1959 في منطقة قريبة من فندق بارون وسط المدينة، في مكان يحمل اسم فندق إشبيلية، إلا أن الإعلان عنه لم يتم حتى صدور مراسيم تأسيس مراكز الفنون التشكيلية عام 1961. ثم في مركز أدهم إسماعيل في دمشق، الذي تأسس عام 1959 ليحمل اسم الفنان أدهم إسماعيل لاحقاً منذ العام 1968. كذلك درس الخط العربي وهو طالب في معهد الفتح/قسم الصحافة في دمشق في السنة الثالثة، ثم في معهد تدريب مهني للرسم المعماري في مدينة حلب.
آثر المضري البقاء في مدينته حلب والوقوف إلى جانب الثورة، فهو يرى أن هناك ارتباطاً جذرياً منذ ولادة الفن بالمشهد السياسي. يروي لنا المضري حكايته مع الرسم في زمن الثورة والحرب:
«لم يكن حال الفنان في سوريا أفضل من حال جميع المقهورين، لذلك كان لا بدّ من ثورة. ولم يكن يحظى الفنانون بقيمة في سوريا الأسد، سوى بعض الأسماء اللامعة التي كانت تأخذ حقها في المعارض والمشاركات، أما الفنانون الجدد فقد كانوا بالكاد يقتاتون على لوحاتهم، فاللوحة كانت مقيدة ومحاربة، كل فكرة سترسمها يجب أن تمر على المراقبة الفنية، خاصة إن أردتَ وضعها في معرض أو نشرها في صحيفة، كان على رجال الأمن دراسة الفنان وخلفيته السياسية والفكرية لا لوحاته التي لا يفهمونها، والتي لم تكن تعني لهم شيئاً.
عندما بدأت الثورة، وانطلقت المظاهرات الأولى، أردتُ فعلاً ليدي أن تتحرر. كان حي مساكن هنانو قد ثارَ باكراً، حالة الفقر والبنية السكانية التي ضمت مختلف أبناء سوريا، على اختلاف مشاربهم ولهجاتهم، سهّلت هذا الأمر، فغدت المظاهرات حالة شبه يومية، كنت أراقبها، أراقب الوجوه المتعبة، والخوف الساكن في أعين العجائز، والحلم المرسوم في أعين الأطفال، والاندفاع في حناجر الشباب. حالة من الحلم والتوجس والقلق كانت تنتابني كلما مرّت من أمامي المظاهرات، رأيت على شاشات التلفاز مئات الصور لأحداث العنف ضد المتظاهرين، تخيلتُ حجم الألم الذي يعانيه الشبان الذين اعتقلوا، ورأيتُ ألم الصمت الساكن في قلوب أمهات الشهداء، وهنَّ لا يستطعن الصراخ. كانت يدي ترسم الألم الحاصل من قلب الواقع، فالصورة وعلى الرغم من جدواها تعاني من احتباس الظلّ. في اللوحة كانت تختلط الحقيقة بالمشاعر، وأنت تشاهد وتعاصر الحدث، ليغدو الأثر أكبر من صورة، فاللوحة تحمل ذلك الإحساس والمضمون الفكري واللوني الذي تجهله الكاميرا.
حلب، حُبّ وحُرقة / مضري حسن إبراهيم
ومع خروج معظم الفنانين من المدينة، وانحياز كثيرين منهم ليقفوا إلى جانب آلة القتل، كنت وحيداً أبحث في شوارع الأحياء، بعد أن بدأت الطائرات والمدفعية بقصف كل ما هو جميل في المدينة. أحياءٌ بكاملها دُمِّرَت، وعائلاتٌ قُتلت، وأخرى نَزَحَت. كانت اللحظة التي توجهت فيها نحو مدرستي الابتدائية التي قُصفت لحظةً مفصليةً في داخلي، وَلَّدَت حالة انفعالية من الدفق والفكر لتتحول إلى طاقة رسم. رسمتُ مدرستي الابتدائية، ثم بدأتُ برسم الحارات القديمة التي تربطني بها علاقة وطيدة، ورسم آثار المدينة، أوثّقُ من خلالها الاختلاف الحاصل بين الصور القديمة في الذاكرة والحالة الراهنة. رسمتُ الأطفال الذين اعتادوا على القصف، وهم يلعبون بمخلفات الحرب والمتفجرات، رسمتُ الألم والعفوية والبراءة والطفولة.
وعلى الرغم من تهميش الحالة الفكرية والفنية منذ بدايات الثورة، وطغيان عدد الضحايا على المشهد، كنتُ مؤمناً أن الخندق الذي اتخذتُه بريشتي لا يقل أهمية عن العسكرة والسياسة. استعرتُ ما فعله بيكاسو عندما خلَّدَ ما حدث لقريته غرنيكا بعد أن دُمّرت وراح ضحيتها سكان القرية الإسبانية بالكامل، ما الذي كان سيحدث لو لم يفعل بيكاسو؟ هل كانت ستُنسى غرنيكا إلى الأبد؟ هل ستُنسى حلب بأزقتها وشوارعها وقلعتها وأبنائها؟ إذن عليَّ أن أفعل.
سؤالٌ كان دائماً يلح على ذاكرتي، كيف يستطيع الفنان أن يخرج من طغيان الصور المتراكبة، تنظيف أنقاض الشارع المهدم، وأصائص النباتات على بيتٍ أُعيد ترتيبه بعد قصف البارحة، وحيٌّ أصبحَ مرتعاً للأشباح بعد نزوح سكانه، فحادت الحياة عنه. أبنيةُ حيّ مساكن هنانو العمالية كانت كل ذلك، الغسيل المنسي على حبال الشرفات، واللون البني الذي بات أسوداً بفعل الحرائق التي تركت رسوماتها على الجدران. تلك الصور لم تكن طارئة، بل كانت ساكنة في مخيلتي، وسرعان ما تتحول إلى غضب على السياسة والديكتاتورية والطغاة. كيف يمكن للفنان أن يقف هناك في المشهد البعيد، كيف يمكن له أن يركن لحالة الخوف، هو النَزِقُ الذي يعيش ويستمد روحه من حالة القلق والتوجس التي يعيشها. كانت الفرصة سانحة لهم ليحرروا ألوانهم من التبعية والقيد، ومن لم يفعل فقد سقط بحكم التاريخ، إذ من الطبيعي ألّا يقف الفن مع الموت والقتل. أما الذين هاجروا فقد حملوا هذا الوجع إلى بلاد أخرى، الإبداع لا يحتاج إلى قيود، والفن انشق عن الظلم، فخلت ريشتهم من الخوف وأبدعوا في توثيق ما بقي من ذاكرتهم عن الحرب، مثل مصطفى يعقوب، حسام علو، حمد هواري، وآخرين.
حاولت أن أخرج من حلم اليقظة الذي انتابني، لأبحث في ما تبقى من مكتبات عن مواد أستطيع من خلالها إكمال ما بدأتُ به. خَلَت المدينة من الألوان والقماش، وصار تأمينها مهمة مستحيلة، حتى أنه كان عليَّ في مرات كثيرة أن ألجأ إلى الفحم، وأشياء بدائية أخرى لأُغرق المساحة البيضاء أمامي. جُلتُ المدينة مرات كثيرة للبحث عن «ترابات الألوان»، التي قد تفي بالغرض بعد مزجها بـ «الغراء» فتصبح لوناً. كان حلمي بأن أقيم معرضي في حلب المحررة يدفعني للاستمرار دائماً رغم الإحباطات الكثيرة التي كانت ترافقني، فالمنظمات المدنية الفاعلة هناك كانت لا تدعم الفن، ولم يتقبلوا فكرة إنشاء معرض وبدوا غير مهتمين، وبعض الشباب الإعلاميين كانوا يبخسون لوحاتي حقها، ويقومون باستخدامها في مؤسساتهم الإعلامية دون «ذكر أتعابي»، وكان صعباً الحصول على هاتف أستطيع من خلاله استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونقل لوحاتي من خلالها بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التي أعيشها. كان لا بدَّ أن أبقى مع لوحاتي حبيس جدران المدينة، اكتفيتُ بالوحدة والابتعاد عن الناس، أحاولُ تعليمُ بعض الصغار فنون الرسم، وأرسم على الجدران المهدمة ما قد يزرع الأمل وسط هذا الخراب.
استوقفتني جملة سمير غريب «أينما ذهبت أرى أثراً فنياً لحرب»، حلمتُ أن تخرج لوحاتي إلى العالم، أردتُ أن تكون سفيرة للثورة. رسمتُ لوحة «الحرية تقود الشعب»، وهذه المرة لم تكن محاكاة لديلاكروا بل كانت لوحة عن ثورتنا السورية، عن المرأة والأطفال والشهادة والمظاهرات وأم الشهيد معاً، على الفن أن يأخذ مكانه الحقيقي في الأحداث والتأثير بالمستقبل.
الحرية تقود الشعب / مضري حسن إبراهيم
هي ثورة للحياة، ثورة تمتلئ بالمفكرين والمبدعين والفنانين واللوحات والقصائد، لماذا على أعداد القتلى أن تتصدر دائماً نشرات الأخبار؟ لا توجد ثورة خالية من الإبداع، فمفردات الحرب هي سمة الفن التشكيلي، وهي الذاكرة المحرضة لمخيلة الفنان، وعلى الفنان أن يسخر من الحرب ويدينها من خلال اللون، ألم تقل أنغليكا فرانكة بعد جمعها للوحات الفنية في الحرب العالمية: «بدت سنوات الحرب العالمية وكأنها فراغات، وبدا الفنانون وكأنهم توقفوا عن العمل خلالها، إن هذا ليس صحيحاً، لأن الجزء الأكبر منها كانت سنوات مثمرة للغاية، قطعوا أوراق الشجر ورسموا على الحجارة والجدران». علينا إذن أن نستمر، قلتُ في نفسي وأنا أجمع ثيابي هذه المرة للخروج من المدينة، فالحصار بدا أقرب من أي وقت مضى. حزمتُ لوحاتي وأخذتُ زوجتي وأطفالي وخرجنا نحو مدينة إعزاز شمال حلب. كنتُ أخاف أن أنسى تفاصيل المدينة، لذلك كان عليَّ أن أتجول لمرة أخيرة في أحياء حلب القديمة، واختزنَ صوراً تبقيني قيد الذاكرة دائماً. ظننتُ أن الواقع في إعزاز سيكون مختلفاً، امتلأتُ بالشحنات اللونية وقررتُ أن أتحول في اللوحات الجديدة هذه المرة إلى السريالية، تاركاً الواقعي والانطباعي مُجسَّدَاً في اللوحات التي حملتها معي. بتُّ أحتاجُ أن أحوّلَ الواقع إلى حلم، حلم يتحقق.
في إعزاز سكنتُ في خيمة داخل مخيم باب السلامة، الصدمة كانت أول ما أثار في داخلي شهوة الرسم، فبدأت برسم المخيمات. على دراجاتي النارية الصغيرة، «السنفور» كنتُ أتنقلُ بين المخيمات، أنقلُ ما تشاهده عيني مع ما يعتمل في داخلي من أحاسيس، وصار لي في المدينة ذخيرة لونية حاولت أن أترجمها من خلال معرضي الأول الذي أصابني بالإحباط، إذ لم يكن هناك قبولٌ في المجتمع لما أفعل. ما الجدوى من ذلك؟ كنتُ أرى ذلك السؤال مرسوماً في عيون الجميع، شرعتُ بعدها برسم الوسائل التعليمية للطلبة، علّي أستطيع تعويض نقص الكتب في مدرستي التي بتُّ أعمل بها. رسمتُ على جدران مدينة إعزاز، رسمتُ تمثالاً للحرية بشكل بيوت مدمرة. حالة الإحباط التي رافقتني شكلت دافعاً جديداً للرسم رغم كل الظروف، وكان معرضي الثاني بعنوان «لن ننسى»، لن ننسى الأطفال والمخيمات والطفولة والتهجير والحرمان. المعرض كان بمساعدة بعض الإعلاميين الذين أعادوا لي الثقة بدور المؤسسات الإعلامية في إيصال رسالة الفن، خلافاً لحالة العزلة التي سببتها لي تلك المؤسسات داخل حلب المدينة. كانت التجربة جديدة وخاصة في ظل عدم توافر صالات للعرض. اضطررنا لاستخدام صالة فيوتشر في مدينة إعزاز. وفي معرض «من وحي الثورة» كان لا بدَّ أن أقف عند حصار الغوطة الشرقية، ومجزرة الكيماوي وحصار حلب، كل ما كنت أتمناه وأن أتنقل بين لوحاتي في المعرض أن أرسم على القماش وبألوان جيدة، كنت أرجو ألّا أتوقَف عن الرسم، فمعدات الرسم باهظة الثمن ونصف راتبي يذهب لإيجار البيت بعد أن خرجتُ من المخيم، أما نصفه الآخر فأوزعه بين قوت أطفالي ولوحاتي. بعد كل معرض كنت أقوم به، كنت أنتظر أشهراً لأسدد ثمن معدات الرسم التي اقترضتُ ثمنها.
قررتُ أن أجعل من الإحباط العقار الذي أتناوله دائماً ليدفعني نحو المزيد، فاللوحات التي انتشرت عن القضية الفلسطينية منذ خمسينيات القرن الماضي، والتجربة العراقية الرائدة في بناء فن تشكيلي ينقل صور معاناة الحرب إلى العالم بجهود فردية ودون مؤسسات يتبع الفنانون لها، كانت حاضرة أمامي. هم فقط لم يستطيعوا الفكاك من علاقتهم بمدنهم وأناسهم، وهذا ما كان يعزيني ويدفعني للاستمرار، لعلّ المدن التي تسكن الفنان تطغى على حياته الشخصية، ومن خلالها علينا أن نؤسس ونكرر ما قام به فنانو سوريا التشكيلين منذ تشكيل رابطتهم عام 1940 بجهود شخصية، اضطرت فتحي محمد لبيع كل ما يملك والسفر إلى القاهرة لدراسة الفن التشكيلي، وإقامة المعارض وقتها في كلية الحقوق دون صالات ودون مؤسسات داعمة حتى تشكيل وزارة الثقافة عام 1958».
مضري حسن إبراهيم يرسم لوحته «آخر أيام التهجير»
يقول المضري إن تاريخ الفن التشكيلي في سوريا يمكن أن ينقسم إلى ثلاث مراحل، مرحلة الرواد التي امتازت بالعمل الفردي والجهود الشخصية على يد توفيق طارق ومحمود حماد وعبد الوهاب أبو سعود وسعيد تحسين، الذين وثقوا أمجاد المناضلين وعراقة سوريا ورسموا البورتريهات. ثم المرحلة الثانية من 1950-1970، وهي زمن تجاوز الاتجاهات الفنية الغربية وإحداث مديرية الفنون الجميلة. قبل أن يطبق الأسد الأب والابن على المرحلة الثالثة من 1970-2011 من خلال مؤسسات الدولة وتكبيل الفن. وهو يقول إن مرحلة الرواد الذين عملوا بجهودهم الفردية تعود الآن، لأنه هذا هو الوقت الذي سينحاز فيه الفن للوقوف أمام اللوحة لقراءة الوجوه، لا البقاء خلفها كمن يؤثر البقاء بعيداً يحمل أكياس الذاكرة المسافرة.
في بيت قديم في مدينة إعزاز، وبلوحات حبيسة الجدران، وأحلام لا تتعدى قطعة قماش وعلبة ألوان، يعيش المضري حلم الثورة والحرية. يحضّر لمعرضه الجديد عن الوجوه التي يعيش معها في ذاكرته من الثوار الأوائل، ولمشروعه عن دمج اللوحة بالكتابة، في سلسلة مقالات تحمل اسم «صوت الموت والأمل».