تشغلُ مسألة النزوح واللجوء موقعاً أساسياً في خطاب «النصر الكبير» لدى النظام وحلفائه، ويبدو أن لها دوراً مركزياً في تسويق رواية «المنتصرين» في الحرب السورية، وعلى وجه الخصوص رؤيتهم لما يُفترَض أن يكون عليه «الحل السياسي».
كان وزير الدفاع الروسي مثلاً قد ادعى عودة أكثر من مئة ألف لاجئ بفضل دعم قوات بلاده للأسد، وأعلن وزير المالية السوري مأمون حمدان عن عدم وجود جائعين في سوريا، فيما قال مفتي النظام إن عدد اللاجئين السوريين لا يتجاوز بضعة عائلات، وإنهم فرّوا من المعارضة. أما في الخارج، حيث تتواجد نسبة كبيرة من اللاجئين، فقد اعتبر سياسيون لبنانيون (ميشيل عون وجبران باسيل وغيرهم)، وقوى يمينية ألمانية مثل حزب البديل، أن الأمن عاد إلى سوريا وصار بالإمكان إعادة اللاجئين.
لكن في هذه الحالة، تغدو التقارير والأرقام القادمة من سوريا، والصادرة عن المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة ومساعدة النازحين، مشكلةً ينبغي التعامل معها. إذ عدا أنها تقوم بمهام «مزعجة» بالنسبة للمنتصرين في مساعدة الهاربين من الموت، فهي تنقضُ عبر بياناتها وتقاريرها هذه الادعاءات، وتُظهِرُ حجم الحصار والتهجير والتجويع في سوريا. ولذلك، يبدو أن هناك اهتماماً عاماً متزايداً بالحاجة إلى ضبط المعلومات لفرض رواية المنتصر وحدها. ومن هنا، يمكن فهم خلفيات إعلان المنظمة الدولية للهجرة (IOM) عن إيقاف برنامج مراقبة الاحتياجات والسكان في سوريا (NPM)، الذي يعدُّ واحداً من أهم مصادر البيانات عن احتياجات النازحين وحركتهم وأحوالهم.
استخدمَ النظام السوري الحرمان من المعلومات على نطاق واسع في حربه على الثائرين عليه، وفي سياقات متعددة، لعل أبرزها منع المعتقل من معرفة أي معلومات عن التهم الموجهة له، أو عن موعد خروجه من السجن، وهذا وسيلة من وسائل الإمعان في تعذيبه. وأيضاً من خلال منع الأهل من معرفة أي معلومات عن أبنائهم المعتقلين، ليتمّ بذلك توسيع دائرة معاناة الأهل لتبلغ أقصى مداها، إذ تصبح حياتهم متمحورة حول خبر واحد يتعلق بمعرفة مكان أو مصير المعتقل: أين هو؟ وهل ما يزال على قيد الحياة؟ فالمعلومة بحد ذاتها كافية لتوليد شعور بالراحة، وهذا ما لا يمكن التسامح فيه من قبل السلطات السورية.
لكن في حالة النزوح، يبدو أن هناك استخداماً آخر قلَّ الاهتمام به، وهو الحرمان من المعلومات بهدف تعميم التجويع المُمنهج.
حتى فترة قريبة كان يوجد في سوريا ثلاثة برامج رئيسية تشكل مصادر مهمة للحصول على بيانات تخص احتياجات النازحين وحركة السكان: الأول هو DYNAMODynamic Monitoring Report، برنامجٌ تابعٌ لوحدة تنسيق الدعم في الائتلاف الوطني السوري، يعمل بشكل رئيسي في مناطق المعارضة السورية، ويعتمد بشكل رئيسي على بيانات كمية (يتم تحليلها إحصائياً). الثاني هو HTAUHumanitarian Trends Analysis Unit، يصدر عن NGO Forum، يركز على مناطق شمال سوريا، ويقوم بشكل أساسي على جمع بيانات نوعية. أما الثالث فهو برنامج مراقبة الاحتياجات والسكان في سوريا NPMNeeds and Population Monitoring، الذي أُعلِنَ عن توقفه بشكل مفاجئ، وعن إغلاق موقعه بالكامل.
هذا البرنامج الأخير، هو مبادرة من المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، يعتمد على بيانات كمية، وكان يغطي أكثر من ستة آلاف موقع داخل سوريا في مناطق سيطرة النظام والمعارضة والإدارة الذاتية الديموقراطية، حيث يقوم بجمع بيانات مفصلة عن حركة السكان وأحوالهم واحتياجاتهم، خصوصاً أماكن سكنهم وأوضاعها، ويركز على الدمار الذي حلَّ بالمنازل. كما أنه يتيح الوصول إلى هذه المعلومات لكافة المنظمات العاملة في مجال الإغاثة، كي تستخدمها من أجل تحسين أدائها في عملية توزيع المساعدات لهؤلاء النازحين وفق احتياجاتهم.
من دون معلومات كهذه، سيغدو العمل الإغاثي غير منظم، وسيتم على الأرجح بطريقة فوضوية: من هم المستحقون؟ وماهي احتياجاتهم؟ أين يتواجدون؟ وكيف تغيّرَ الوضع عمّا كان عليه في الشهور القليلة الماضية؟ وغيرها من الأسئلة التي لا بدَّ منها لوضع خطط عملية ومفيدة لأي برنامج تدخل اجتماعي. لذلك، فإن هذا الأمر قد يدفع كثيراً من هذه المنظمات إلى إيقاف برامجها، لأنها حتى لو قررت الاستمرار ولم تتوقف، فإن الفوضى الناجمة عن غياب البيانات ستكون كفيلة بالتسبب بتدني جودة خدماتها وفائدتها، ومن ثم يمكن أن يؤثر هذا على مصداقية هذه المنظمات نفسها، ويجعلها عرضة للاتهامات في مناخ سوري عام تسوده خيبات الأمل، وتغيب فيه الثقة، وتسهل فيه التصفية المعنوية للآخرين أفراداً ومنظمات.
سيعني هذا بالنتيجة بقاء كثيرٍ من السوريين مُحاصرين ومُجَوَّعين ومرضى ومُشردين، حتى لو كانوا يقيمون خارج المناطق المحاصرة، وفوق هذا فإنهم سيصبحون أيضاً «غير مرئيين»، ولا يمكن لأحد أن يسمع بهم أو يعرف أحوالهم واحتياجاتهم.
إذا صَحَّت المعلومات الواردة عن أن ضغوطات وتهديدات مباشرة من قبل النظام السوري بإغلاق مكاتب المنظمة الدولية للهجرة في سوريا كانت سبب توقف هذا البرنامج، فإنه يمكننا القول إن الهدف هو توسيع نطاق التجويع الممنهج إلى أبعد من المعتقلات و«المناطق المحاصرة»، أو بلغة أخرى، إنها رسالة من النظام للسورين مفادها أن من يعتقد أن النزوح كافٍ للنجاة من الحصار والتجويع، فهو مخطئ. وهي في الوقت نفسه رسالة للعالم والمنظمات الدولية، تفيدُ بأنه هو المنتصر، وهو وحده من يحدد قواعد اللعبة، ويكتب قصة الحرب والنزوح، وأن عليهم أن يوافقوا على قواعده وروايته من دون مساءلة، وإلا فإنه لن يكون لهم مكانٌ في هذا البلد.
عن البرنامج
يتيح برنامج (بي إن إم) تتبع النازحين داخل سوريا وتحديد احتياجاتهم، والهدف هو جمع بيانات عنهم والتحقق منها بشكل دوري على مستوى المجتمعات المحلية (القرية و/أو الحي)، ومدّ المنظمات والجهات المعنية بالإغاثة بمعلومات ومؤشرات ضرورية لتحديد الأولويات والتدخلات الإنسانية المطلوبة، وبالتالي تلبية الاحتياجات الأساسية. كل ذلك، كان يتم من خلال التعاون الوثيق بين المنظمات المحلية والجهات الدولية التي تقدم الدعم.
كانت البيانات التي يوفرها البرنامج على الشكل التالي:
- بيانات ديموغرافية، الجدول الزمني للحركة والوجهة، بالإضافة إلى حالة المسكن.
- توجهات حركة السكان.
- الاحتياجات والثغرات، والخدمات المقدمة للفئات المستهدفة.
هذه البيانات تُميّزُ بين سبع مجموعات تضررت بشكلٍ ما، وإن اختلفت طبيعة الأضرار فيما بينها:
- السكان المقيمون غير المتأثرين بالأزمة: يعيشون حالياً في المسكن السابق نفسه قبل الأزمة، وهذا المسكن لم يتعرض للضرر.
- السكان المقيمون المتأثرون بالأزمة: يعيشون حالياً في مسكن متضرر، و/أو لجأوا إلى مسكن آخر في الموقع نفسه.
- السكان المقيمون الذين فرّوا ولم يعودوا: تركوا موقعهم إلى موقع آخر داخل سوريا.
- السكان المقيمون الذين فروا ولم يعودوا: تركوا موقعهم إلى موقع آخر خارج سوريا.
- العائدون من السكان المقيمين: الذين فروا وعادوا إلى الموقع (متواجدون حالياً في الموقع).
- النازحون السوريون الذين وصلوا إلى الموقع منذ عام 2011 (متواجدون حالياً في الموقع).
- النازحون داخلياً من غير السوريين الذين وصلوا إلى الموقع منذ عام 2011 (متواجدون حالياً في الموقع).
كما أنها تُميّزُ بين ثمانية أنواع من المساكن المؤقتة:
- مُستأجَر.
- عائلات مضيفة.
- مباني مهجورة أو أماكن عامة.
- مآوٍ جماعية رسمية (مدارس، مباني عامة… إلخ).
- مآوٍ جماعية غير رسمية (مدارس، مباني عامة… إلخ).
- مخيمات منظمة ومشيدة.
- مخيم معد ذاتياً.
- ملك شخصي.
الموقع الذي كان يقدم كل هذه البيانات مغلقٌ حالياً، ولا يمكن الوصول إلى محتوياته، كما أنه لم يوضح أي أسباب لهذا التوقف، وكل ما بقي منه هو الرسالة التالية:
«أُغلِقَ برنامج مراقبة الاحتياجات والسكان في سوريا بتاريخ 1 ديسمبر 2017. نودّ أن نتوجه بالشكر لكل شركائنا الميدانيين على العمل الهائل الذي قاموا به في السنوات الماضية لصالح كل المعنيين بالعمل الإنساني. وفي الختام، لأولئك المستضعفين الذين نهدف إلى خدمتهم داخل سوريا، شكراً على تشجيعكم والدعم والتعاون المستمرين على مرّ السنين».