كانت ساحة تقسيم نافذتي الأولى على الحياة في إسطنبول، قبل أن أدركَ أن الساحة وما يتفرع عنها من حارات وشوارع، أهمها «استقلال»، عينةٌ لا تنتمي تماماً إلى الجغرافيا المحيطة بها. لم يلفت نظري نصب الجمهورية التذكاري، المسمى «دشن» في وسط الساحة، ولم أتخذه خلفية لصورة تحفظ مجيئي الأول إلى المكان، ولم تلتفت عيناي لعمارة الشارع ذي الثلاثة كيلومترات، التي تعود إلى القرن التاسع عشر.
المسافة الممتدة من الساحة، وعلى امتداد شارع «استقلال»، الذي لا يزوره أناسٌ كثر فحسب، ما يقارب ثلاثة ملايين زائر يومياً، وإنما متعددو الثقافات والهويات واللغات أيضاً، يَعِدُهم المكان بالاختلاف، وينفي اختلافهم في بحثٍ عن المغامرة في الوقت نفسه؛ هذه المسافة ذاتُ كثافة شعورية مركبة، مؤلفةٌ من أفعال وردود أفعال، وليس من المحال والمقاهي، أو المسارح المختفية في الأزقة الثانوية التي أشار إليها أصدقائي حينها.
كثافةٌ تنبع عن وجود كثيرٍ من البشر في مكان واحد، دون أن يتحول وجودهم إلى ازدحام خانق؛ كثافةٌ تحتضن، فتجعل من الاختفاء مهمة سهلة على الغرباء أمثالي، اختفاءٌ وثيرٌ يهدده سماع أصوات عربيّة تغني، لا بل سوريّة أيضاً.
يشجعكَ الشارع على الانفتاح كما يساند رغبتكَ بالتلاشي تماماً، فبإمكانك التعبير عن فرحك، الانجرار وراء عواطفك عند سماع الموسيقيين السوريين، اللذين تحولهم اللغة المغناة المفهومة، في لحظة، إلى عائلتك كلها، بينما تلتف الموسيقى حول الجميع في نوبة سرور مختصرة لا يمكن الاستهانة بأثرها اللاحق.
لا يتمكن الزائر في أولى رحلاته إلى تقسيم وشارع «استقلال» من تكوين انطباع، لا أعني أولياً وإنما حقيقي؛ فالشارع لا يكشف هويته لشخص واحد ولا دفعة واحدة؛ وفي حال تمكن أحدهم من التواصل مع آخرين بحثوا عن هوية الشارع؛ لن تكون النتيجة حقيقةً كاملة، وإنما مجموعة من الهويات أو الحقائق المحتملة.
كانت لي حصة من الانطباعات الأولية، شكلتُها خلال عددٍ من الزيارات وكثيرٍ من الأسئلة التي وجهتُها لعربٍ وأتراك؛ فباتت تقسيم بالنسبة لي ثورةً على المعهود وانقلاباً على النمط. حسدتُ الموسيقيين في الشارع، كلهم، وخاصة السوريين منهم. تمكنوا أخيراً من تجاوز الحرب، الكآبة، والخوف ووجدوا مكاناً يركنون إليه. وجدوا في تقسيم بُعداً آخر، لا يشبه ذاك الذي هربوا منه أو اختاروا أن يتركوه طواعية بحثاً عن الذات أو رغبةً في إطلاقها. حسدتُهم على مدينة فاضلة، لم يسعوا إلى خلقها، بل كانت هناك بانتظارهم، واسعةً وشيّقة. اعتنقوا مزاجها أو أصابتهم عدواها، وفُكَّت عنهم كل القيود، الاجتماعية، السياسية، وحتى الدينية منها.
سألتُ ورد، 24 عاماً، من حلب ومغنٍ سابق في الشارع: «كشابٍ سوري، هل كانت تقسيم تجسيداً للحرية بالنسبة لك؟». يقول مبتسماً، وفي صوته بعض السخرية: «تقسيم، مصدر رزق، لا أكثر ولا أقل». فيما فضّلَ صديقه، الذي لا يرغب أن يقترن اسمه بتقسيم ولا بموسيقى الشارع بأي شكل من الأشكال، عدم متابعة الحديث.
الشارع وسيلة أم غاية
قد تترك منطقة تقسيم، والمارةُ والموسيقيون جزءٌ لا يتجزأ عن آلياتها، انطباعاً ربما يصعب المساس به في مخيلة رواده أو من سمعوا عنه. يتمحور هذا الانطباع حول «التابو»، القدرة على التجاوز وممارسة الممنوع، أياً كان نطاق المنع؛ ممارسةٌ قد تكون بالنسبة لكثيرين «غاية» في حدّ ذاتها، وللسوريين بشكل خاص، على الرغم من أن هذه الممارسة كانت متاحة للبعض في سوريا.
يؤكد ورد على أهمية هذا الانطباع، وعلى كونه «حقيقياً» بطريقة ما، «فالشاب الذي طالما سمع أن الموسيقى والغناء حرام»، وجدَ في تقسيم ومحيطها مساحةً بعيدةً جغرافياً عن السلطة التي تمارسها هذه الصفة، وعن الرقابة التي عادةً ما يتحمل الأهل مسؤولية ممارستها، فيسعى المتشددون منهم إلى قمع أي محاولة تسعى لتجاوز التابو المتعلق بالموسيقى، فيمنعون أولادهم من سماعها حتى؛ أما الأقل تشدداً، أو المعتدلون منهم، فيسمحون لأبنائهم بسماع الموسيقى تجاوزاً، فيما يفرضون عليهم مجموعة من الخطوط الحمراء إذا ما أبدوا رغبة بممارستها، فالموسيقي أو المغني يرتبط بأذهان كثيرٍ من الناس بنمط حياة لا يتناسب مع معتقدات المحيط الدينية وعاداته الاجتماعية؛ نمطٌ قد يصفه بعض الناس بأنه فاقدٌ للانضباط، ويصفه آخرون بالمنحل أو الماجن.
ولكن
تصيبُ الانطباعَ هشاشةٌ فظّة، لا بل وقحة، عندما يندفع التمرد والمتمرد إلى الهامش، لتحتل الحاجة المادية الساحة الأكبر للميدان. ينفي السعي وراء لقمة العيش سمةَ «الغاية» عن الشارع، فهو ليس الهدف، وموسيقى الشارع أيضاً ليست الهدف، وكلاهما «وسيلة» فحسب.
«لم أتخيل في حياتي المجيء إلى تركيا. أما العزف في الشارع، فقد كان صفعةً في حد ذاته. احتجتُ كثيراً من الوقت لاستيعابها»، يقول أسامة الغزي، 24 عاماً، من السويداء، وهو عازف كمان في فرقة «سكتات» السابقة.
أسامة، الذي كان طالباً في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وصفَ سبب مغادرته للبلد بـ «حدث ما حدث، واضطررتُ للمغادرة». أما زين، 27 عاماً، وهو كاتبٌ ومغنٍ في الفرقة نفسها، فقد غادر سوريا لأنه لا أحد من أصدقائه بقي هناك، فوصلَ إلى إسطنبول على متن آخر طائرة قبل تطبيق قرار الفيزا، وكان محظوظاً لأن نصف ركباها تم منعهم من السفر بينما ساعدته امرأة عجوز و«نجا».
على الرغم من اختلاف أسباب الرحيل، وحَّدهما مصدر الرزق، وجمعتهما تقسيم، إذ كانا قد قرَّرا العمل في الشارع قبل ترك سوريا، بعد أن أخبرهما الأصدقاء، ممن سبقوهما، أن في الشارع فرصة جيدة للعمل. أجمع كلاهما أن الموسيقى شيء والعمل في الشارع شيءٌ منفصل، فالشارع ليس المكان المثالي لعازف متخصص في الموسيقى الكلاسيكية، وحلمه أن يكون جزءً من أوركسترا كأسامة.
«أبو زيد الهلالي»
في ذهن الشابين، ينقسم تاريخ الشارع فيما يتعلق بالدخل اليومي الذي يحصل عليه الفرد بعد العزف أو الغناء إلى مرحلتين. ما قبل 2016، حين تمكن أحد أصدقاء زين من الحصول على أكثر من 200 ليرة تركية مقابل العزف لثلاث ساعات؛ أما 2016 وما بعدها، فقد أصبح من الممكن أن يحصل الفرد على 150 ليرة تركية يومياً، ليأخذ الرقم بالانحدار أكثر فأكثر.
«اليوم، أبو زيد الهلالي من يحصل على 50 ليرة كيومية»، يقول زين.
أجمع كل من ألتقيتهم على أن الدخل اليومي للفرد في تقسيم، وهو المقابل الذي يحصل عليه لقاء الغناء أو العزف لأكثر من 12 ساعة، هو 50 ليرة تركية. يحصل أفراد الفرق، فمن الصعب أن تعزف في تقسيم منفرداً، على الجزء الأكبر من اليومية من المارّة العرب، السواح الخليجيين على الأغلب، فالتركي لا يدفع أكثر من 5 ليرات، أما الأجنبي، لا يتنازل عن أكثر من ليرة.
يقول زين: «لفترة طويلة، كانت الورقة النقدية من فئة الخمس ليرات هي أكبر مبلغ رأيته في صندوق النقود، بالإضافة إلى الفكّة من فئة ليرة أو نصف ليرة، إلى أن دفعت فتاتان من الخليج 40 ليرة نظراً لاستمتاعهما بأغنية لحسين الجسمي».
وكأثرٍ للحنق الذي ظهر بعد مغادرة الشارع، والذي حرص الشباب، عند عملهم في تقسيم وشارع «استقلال»، على إخفائه تحت طبقات كثيفة من التفاؤل الذي هو المحرك الأساسي لمقاومتهم كل مصاعب الشارع، تابع زين القول: «لمدة عام كامل، لم نستطع دفع إيجار المنزل على الوقت ولو لمرة واحدة».
اختار أفراد «سكتات» الخمسة، بعدما تمكنوا من الاجتماع في إطار فرقة واحدة بعد ستة أشهر من عزف زين وأسامة لوحدهما، العمل في الشارع؛ وبمقارنة بسيطة بين العمل في معمل أو ورشة، بأجر يومي لا يتجاوز ما كانوا يحصلّونه فعلاً، مضافاً إليها ممارسة الموسيقى، وإن لم تكن موسيقاهم التي يطمحون إلى أدائها، كانت تقسيم الخيار الأمثل.
هناك عددٌ قليل جداً من الفِرَق التي تتوارد إلى تقسيم، تأتي لتختبر نمطها الفني في الشارع. تظهر هذه الفرق فقط لتختفي، وهذا الظهور ليس لكسب المال، وإنما لإثبات القدرة الفنية التي يمتلكونها أمام جمهور مختلف، متحرك، ومتنوع. الشارع في هذه الحال تحدٍّ، ومكان للترويج لألبوماتهم المنتجة.
المطر نذير شؤم
تلجأ بعض الفرق الأجنبية (تركية وإسبانية وإيرانية)، وبينهم عددٌ قليلٌ جداً من السوريين، إلى السُبات الشتوي، وهو رفاهية لا يقدر على تحمل نفقاتها غيرهم من موسيقييّ الشارع.
يربط الموسيقيون، المحاربون في الشتاء، مصائرهم بالأرصاد الجوية، وتتحول الأيام الماطرة إلى ديون مالية متوقعة. غالباً، يلازم الموسيقيون المنزل أيام البرد الشديد، فلن يتوقف المارة، إن وجِدوا، ليتجمدوا على أنغام الموسيقى. أما المطر، مطر إسطنبول الذي قد يستمر لأيام متواصلة، فهو نذير شؤم لا يمكن دفع مخاوفه بالممانعة كما تعاند بعض الفرق البرد وتزحف إلى الشارع لتعمل.
المطر ليس قلقاً مادياً فحسب، فهو لا يعني خسارة اليومية، وإنما تهديداً بالتلف. فيما يؤلم البرد أصابع عازفي الآلات الوترية، إلى حدٍّ قد يتوقفون عنده عن متابعة العزف، يُصعِّدُ المطر من وتيرة الخوف، فتضرُّرُ الآلات الخشبية، كالعود، الكمان وغيرها، قد يكون نهاية محتّمة للعمل في الشارع، خاصة مع صعوبة إيجاد البديل، ليس من حيث النوع وإنما لانعدام المال الكافي.
«معادلة» بسيطة
يشكل الصحفيون جزءً من ثنائية رزق/استغلال لدى الموسيقيين في شارع «استقلال»، أو من الأفضل القول إنهم باتوا جزءً بعد محاولات، قد تكون متكررة، من الاستباحة، وفق ما أخبرني زين وأسامة.
كانت أول محاولاتي للتواصل مع الموسيقيين عبر فيسبوك. بعد أن وجدتُ أحدهم، شرعتُ فعلاً بالحديث. لم أعرِّف عن نفسي باستخدام صريح لمصطلح صحفية، غير أن الشاب، وبمجرد أن نوهتُ لفكرة مقابلة، زوَّدَني بعُرف بعض موسيقيي الشارع السوريين، عرفٌ يتخلله منظورهم للصحفيين: «من المؤكد، أنك لا تعملين دون مقابل. ما رأيك بهذه المعادلة؟».
وكوني لم أستوعب في بادئ الأمر أن المقابلة مدفوعة، تابع بنبرة أكثر صراحةً واتهاماً: «مئة قناة ومئة جريدة يرغبون بإجراء المقابلات معي. كلها دون مقابل، (ببلاش)، وعلى أكتافي». وختمَ الحديث قائلاَ: «اكتفيتُ من كوني سلعة للغير دون مقابل».
أخبرني ورد بعد أن أطلعتُه على هذه الحادثة أن ردَّ الفعل هذا أكثر من متوقع، ويجب ألا أستغربَ أن يرفض آخرون الموضوع ما لم أقدّم مقابلاً مادياً مجزياً.
يبدو أن كثيرين قبلي قد جذبتهم منطقة تقسيم باختلافها، ولا سيما بعد أن وفدَ إليها عدد من اللاجئين السوريين، فباتت مادة دسمة للدراسة. ومع ازدياد اهتمام الصحفيين بالشارع، تعرَّفَ السوريون على أساليبهم وطوروا آليات مقاومة وانتفاع: بعضهم، ممن لم ينله قسط كاف من الشهرة، قد يوافق على إجراء مقابلات مجانية، بينما يرفض غيرهم، سواء كانوا مشهورين أم لا، أبسط أشكال الحديث.
حيّزُ الاستغلال يتسع
وصف زين تقسيم بوسيلة لتشكيل علاقات، سعوا للحصول عليها أو انتظروها على أمل أن يتم انتشال الفرقة من الشارع. غير أن الأمل، وترف تجريب التفاعل الاجتماعي، والمخاطرة في الإقدام على سبر قدرة الآخرين على المساعدة، يرافقه اتساعٌ لا حدَّ له في الاستغلال.
على الرغم من أن الشباب في الشارع قصدوا العمل كموسيقيين، وليس كسوريين، وتحديداً ليس كلاجئين، إلا أن اللجوء كان السمة المميزة، وثقباً يمكن استغلاهم من خلاله.
وللاستغلال نمطان على الأقل، أحدهما فرديٌ (شخصي) والآخر منظّم.
أما النمط الفردي فينطبق على أمثال «أبو محمد»، وهو رجل خمسيني من الخليج اتفق الشابان على وصفه «بالمريض». يأتي هؤلاء الأشخاص، كما ذكر زين، إلى تركيا للسياحة دون أن يكون معهم من يرافقهم في الرحلة. ولدرء الوحدة، يصطحبون شباباً موسيقيين مرحين في رحلات بحرية، وينفقون ما يقتضيه إشباع متعتهم من المال، ويطلقون كثيراً من الوعود لضمان استمرارها.
يقول زين: «لأسبوع كامل أنفق أبو محمد مبلغاً من المال كان كفيلاً بإصدار إقامات للفرقة كلها. وعلى حدّ تعبيره كان جاهزاً لتنفيذ كل طلباتنا. لم نطلب أن يفرش لنا الأرض مالاً، وإنما إقامات. بعدها، اختفى أبو محمد وأغلق هاتفه».
أما النمط المنظّم، فيقوم على فكرة اللجوء بحد ذاتها واستثمار قلة حيلة اللاجئين تحت ذريعة دعم المواهب المميزة. أعلنت منظمة هابيتات (Habitat) التركية عن برنامج لدعم المواهب السورية المختلفة. وكانت فرقة «سكتات» واحدةً من أصل مئتي مشارك. نجح أفراد الفرقة في الوصول إلى مرحلة الـ 35 متنافس، والذين سيتم اختيار ثلاثة منهم فقط. كان من المفترض أن يحصل من وصلوا إلى المرحلة النهائية على مبلغ قدره 6000 دولار، ليبدؤوا مشروعهم الخاص.
«أردنا كسكتات محاربة من (شحدوا) علينا. وعلى الرغم من أننا أردنا من الجمل أذنه فقط، لم نستطع تحصيل الأذن حتى»، يقول زين. فبعد أن تواصلَ مترجمٌ سوريٌ مع الفرقة، وقعَ الاختيار على زين وأسامة لتمثيل سكتات في مؤتمر أقامته المنظمة دعماً لبرنامج المواهب. أقام الشابان ومعهما آخرون في فندق الهوليداي إن (Holiday Inn) في شيشلي. تم توديع الشباب بعد أن وثِّقَت جلسات المؤتمر وفعاليته، التي حضرتها قنوات تلفزيونية كثيرة ومن ضمنها (TRT).
وعلى الرغم من أن برنامج دعم المواهب والمؤتمر كانا قد كلّفا ما يقارب الـ 100 ألف دولار وفقاً لأسامة، اقتصرت جائزة الشباب على الوداع المعنوي. لم يحصل أيٌّ من المشاركين على الجائزة المُدعاة، فيما ماطلَ المترجم بالردّ على أسئلة زين وأسامة، اللذين طالبا فقط بتعويض عن أيام المؤتمر التي لم يعملوا خلالها. لم تستجب المنظمة، واستمر المترجم بنشر إشاعات حول حصولهما على مبلغ الـ 6000 دولار لاستدراج غيرهم، ليتم استعمالهم «كديكور» خلال مساعي المنظمة للحصول على مبالغ أكبر، من المفترض أن تُوجَّه لدعم السوريين.
«حرب شوارع»
الحياة في شارع «استقلال» مقاومةٌ للجوع والتشرد بأبسط أشكالها، وإذا ما خُضنا في التفاصيل، تتحول البساطة إلى معارك مع الموسيقيين الآخرين، ومع الشارع نفسه.
يصف زين الوضع بـ «حرب شوارع»، وللحرب في تقسيم وشارع «استقلال»، معالم مشابهة لكل الحروب: نقاط تمركز وجبهات، حربٌ على السلطة، وانقسامات.
أما نقاط التمركز، والتي غالباً ما تُحدِّدُ إذا ما كانت الفرقة ستحصل على نقود كافية أم لا، فعددها 10، وتزداد أهميتها كلما اقتربت من الساحة. يتأثر مقياس الأهمية بالبعد أيضاً، فكلما كانت النقاط بعيدة عن المراكز الأمنية والمحال التجارية، ازداد تهافت الموسيقيين عليها وازدادت قدرتهم على توسيع حلقة الجمهور من حولهم.
على الرغم من أن عدداً من الموسيقيين السوريين «الكبار»، قد خلقوا ديكتاتوريات في الشارع، بحيث لا يمكن لغيرهم من السوريين منافستهم أو مفاوضتهم على موقع قد حجزوه باللجوء إلى ميزة الاسم والخبرة، وبعض هؤلاء رافق صباح فخري في كثير من حفلاته وبعضهم الآخر أساتذة موسيقى مرموقون، لا تُوزَّع النقاط عادةً وإنما تُكتسب بشكل يومي واعتماداً على الحظ، فمن يأتي أولاً ليستقر في المكان، يمتلكه، ويفرض الشتاتَ على الباقين من الموسيقيين على تنوع جنسياتهم.
شرطة البلدية (Zabıta)
تتمثل سلطة الشارع بعناصر شرطة البلدية المنتشرين في أرجائه، يضبطُ هؤلاء، تبعاً لما قاله ورد، بائعَ القهوة والشاي المتنقل، الرسامَ الذي يترك محله الصغير ويأتي إلى تقسيم ليرسم المارة فيحصل على قدر إضافي من المال وعلى جمهور أوسع للوحاته. غير أن الموسيقيين يشكلون هدفاً يلقى الحصة الأكبر من تركيز عناصر البلدية، وتتعدد أنشطتهم بين المراقبة، الضبط، التعنيف والمصادرة.
يرى ورد في الشارع مزاجيةً أمنيةً تعكسها تحركات الزابطة التي تفتقر إلى مبررات في كثيرٍ من الأحيان. وفي غياب أي قوانين واضحة، يعتمدُ الموسيقيون على التجربة والخبرة التراكمية للتعامل مع الضوابط الأمنية شديدة التقلب، الأقرب إلى تفاهمٍ يومي منها إلى ثوابت يمكن العمل وفقها، فالشرطي الذي يمنعك اليوم من مزاولة العمل، قد يطلب منك شخصياً الاستمرار بالغناء غداً، وقد يستفيض بكرمه فيسمح لعلامات الاستمتاع بالظهور على وجهه، الذي اعتاد العبوس في وجوه فناني الشارع.
تستمر الضابطة، على طول الشارع لساعات طويلة وعلى اختلاف الأحوال الجوية، بالمراقبة الصبورة، الحذرة والدقيقة، ترصد أبسط تحركات الموسيقيين، وكأنها تعدُّ الأنفاس عليهم أو تنتظر أبسط هفواتهم، التي قد تكون ارتفاعاً في حدة الموسيقى، ارتفاعٌ يعرف أفراد الزابطة وحدهم إذا ما كان يستدعي التنبيه، ليتدخلوا حينما يحلو لهم، أو عندما يستدعيهم أحد أصحاب المحلات لإنذار أو طرد فرقة موسيقية أزعجت الزبائن بالموسيقى أو الازدحام، وقد يكون التدخل هنا رقيقاً فيقتصر على إصدار أمر تنتقل بموجبه الفرقة إلى مكان آخر.
يأخذ التدخل بهدف الضبط منحاً أقسى في حال التجمهر، على الرغم من أن الموسيقيين لا يتحملون عبء هذا الأمر، وإنما موسيقاهم، إذا أمكن القول، والجمهور المنجذب؛ فإذا ما لاحظ أحد أفراد الضابطة أن عدد الناس الملتفين حول الفرقة قد زاد على ثلاثين، وهو رقمٌ يُحسب تقديرياً وليس عدّاً، فإنه وبنظرة متوعدة يلقيها على الفرقة من خلف زجاج سيارته، فهذا الحد من التجاوز غير كاف ليترجل، يُجبِرُ أحد أفراد الفرقة على تفرقة الجمهور بإعلان انتهاء الأغنية، ولو كانت في منتصفها.
أما التعنيف فهو يأخذ شكل نبرة حادّة ومُذِّلَة، قد تدفع المغني أو العازف إلى «أكل نفسه [من الغيظ]» حسب تعبير زين بعدما تعرض للطرد أكثر من مرة دون مبرر، أو شكل دفعٍ بالجسد إذا ما انفعل أحد الطرفين، الشرطي أو المغني، وغالباً ما ينتهي الشكل الثاني، كما قال ورد، بالحرمان من العمل طيلة اليوم. يأتي التعنيف كردّ فعلٍ على أيٍّ من التهم سابقة الذكر، وهو أيضاً منوط بمزاج الشرطي والشارع، وإذا ما كان راغباً بالتغاضي أم بالانفجار.
تحت ذريعة الضجيج، في شارع مكتظ، قد يلجأ أفراد الضابطة إلى مصادرة الآلات الموسيقية واحتجازها لمدة أربعة أشهر قبل أن يتمكن أصحابها من استردادها. وبينما يتردد عناصر الضابطة بمصادرة الآلات الثمينة كالعود والقانون، إلا في حالات قصوى هم فقط قادرون على تحديدها، فإنهم لا يبدون أي تردد في احتجاز الآلات الإيقاعية ما أن يكتشفوا استخدامها، ولا سيما آلة الكاخون. «لطالما خبأت الرقَّ في ملابسي خوفاً عليه من المصادرة»، يقول ورد واصفاً عملية التخبئة هذه بأنها مقاومة، لا للضوابط الأمنية، وإنما للمزاجية.
تحوَّلَ بعض أفراد الضابطة إلى أيقونات رعب، و«الأشقر» أحدهم: «لهذا الشرطي مناوبتان أسبوعياً. وهو عنصريٌ بطبعه. ما أن ينزل إلى الشارع، ينتهي العمل»، يقول زين.
تناقض
أسهبَ من قابلتُهم في وصف الشارع بالمزاجي أو بالمتناقض، وبالقول إن كلا الصفتين تنعكسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد يجوز القول ظاهرة أو مخفية، على مختلف مكونات الشارع، عدا المارة الذين لا يتخطى تفاعل أغلبهم مع الشارع فعل المشي والاستمتاع.
أكثر ما يربك ورد هو غياب الصراحة القانونية في الشارع، وعلى الرغم من أن عازف الميترو يُطلَب منه رخصة تصدرها البلدية وتُحدَّدُ وفقها ساعات العمل المسموح بها، فإنه لا يُطلَبُ من موسيقي الشارع أو باعة القهوة أو الرسامين أي تصريح، ويكتفي أفراد البلدية عند سؤالهم بالقول إن كل شيء مسموح وكل شيء ممنوع في الوقت نفسه. يقول ورد: «يسعون إلى خلق شارع موسيقي، فيمنعون فيه الإيقاع بسبب الضجيج!».
وفي السياق التنظيمي والأمني نفسه، حصلتُ على ثلاث إجابات مختلفة عن سؤالي حول ما إذا كانت مزاجية القوانين تنطبق على السوريين فقط، أم على غيرهم أيضاً؟
أجابني ورد أنه كان للسوريين حصةٌ أوفر من التساهل، فـ «الأتراك والزابطة وأصحاب المحلات على علم بأننا لاجئون»، فيما أكد زين وأسامة أن المعاملة كانت متساوية، فانطبق على الأتراك وغيرهم من الأجانب ما كان ينطبق على السوريين. أما الجواب الثالث، فقد صدر عن السيد أحمد بدوي، القائم على مركز بيت الفن العربي حالياً، وهو مغنٍ سابقٌ في تقسيم، إذ قال إن السوريين كان يتم التعامل معهم بأسوأ الأساليب، وغالباً ما كانت تطردهم الزابطة من أماكنهم لانفعال أحد أصحاب المحلات أو الفِرَق التركية في الشارع.
لا استقرار
يواجه الموسيقيون عوامل عدة عليهم تخطيها تأهباً لاستمرارهم في الشارع، وقد يتحول بعضها إلى هلوسات. مخاوف ينجم بعضها عن قلق من الغد، وبعضها الآخر عن التغيير المستمر في الحياة الناجمة عن العمل في تقسيم وشارع «استقلال».
لم ينزعج ورد من التوترات المصاحبة لعمله، فعلى تقلب الشارع المستمر، بات كل تفصيل فيه جزءً من أيامه المتتالية هناك؛ جزءٌ بات ناقصاً فعلاً بعد رحيله عن الشارع للعمل كمغنٍ محترفٍ ومستقل. غير أن التقلب كان له آثارٌ جانبية: «لم أشعر يوماً أن المال الذي أحصل عليه لي فعلاً، أو أن لي حرية إنفاقه. كان عليَّ أن أفكر بالغد، أو بعد غد، في كل يوم. لطالما انتابني الخوف من أن الغد لن يحمل أي نقود».
يشعر ورد بالارتياح لزوال هذه الآثار، فقد ساعد ما يشبه الراتب الثابت الذي يحصل عليه حالياً بخلق شعور من الأمان لديه، لم يعرفه يوماً في الشارع. فبعد صبر طويل ومثابرة تمكن من توقيع عقود مؤقتة، يمتد أقصرها لأشهر، مع عدد من المقاهي التي كفلت له مكاناً أكثر انضباطاً من تقسيم وشارع «استقلال»، وسِعةً مالية مَكَّنتهُ من تغيير كثيرٍ من تفاصيل حياته السابقة.
وعلى عكس ما هو متوقع، كان أكثر ما يشتاق إليه زين وأسامة هو الروتين، الرتابة اليومية ونمطٌ يمكن توقعه فيسهل التعامل معه. قال أسامة: «على مدار عام ونصف، تخللها ما يقارب 400 يوم من العمل في الشارع، لم يتشابه يومان، لا من حيث المردود المادي، ولا التعامل مع الشرطة أو التعامل مع الناس. فالشارع مزاجي، لا يمكن توقعه». كان التغيير المستمر سبباً للاكتئاب، التشتت، وعدم القدرة على التركيز، وهي الأمور التي يفرغونها بالضحك والمزاح أحياناً، وبالغضب على بعضهم بعضهاً في أحيان أخرى.
الانسلاخ
على الرغم من أن الشارع كان مساحةً كَسَرَ فيها زين كثيراً من القيود السالفة، فإنه مثلاً لم يستطع إخبار والديه، وهو ابن مدلل لم ينقصه شيء وكان من المفترض أن يبني لنفسه مستقبلاً رائعاً، أنه يعمل كمغن أو عازف في شارع تركي: «أخفيتُ عن أهلي الموضوع لثمانية أشهر، وبعدها قررتُ أنني في الشارع، وسأفعل ما عليّ فعله لكي أحيا». رافقَ لحظةَ التحرر تلك انكسارٌ في مفهوم الموسيقى/الموسيقي وصورتهما في ذهن زين، وخلال وجوده في تقسيم، فقدَت الموسيقى جزءً من طهرها، فهي لم تعد غذاءً للروح، ولا مهرباً من صوت الحرب، ولا أداةً للتعبير عما يجري في النفس أو ما يعتمل في الرأس من أفكار، ففي الشارع يجوز للموسيقى أن تندرج تحت فئة التمثيل، الترويج والاستقطاب التجاري البحت.
على حدّ تعبير أسامة «متل السوق بتسوق»، وبعد صدمات متوالية تلقاها إثر عزف أغان لم يتوقع أدائها في حياته، كونها مختلفة تماماً عن الموسيقى الكلاسيكية التي درسها منذ الصغر، تمكن من الانخراط كلياً في متطلبات الشارع، وتقبل الانسلاخ عن أسلوبه المعتاد ليكفل تحصيل لقمة العيش: «كان أول ما اكتشفتُه في الشارع، أن بإمكان الموسيقيّ أن يكون ممثلاً، لا بل إن عليه التمثيل».
يضيف زين: «غنيتُ موطني، لأنها تستقطب كثيراً من المارة العرب، فتفاعلتُ شعورياً وبكيت. تفاعلت في المرة الثانية والثالثة مع أدائها، وبعدها أصبحت الأغنية للجذب فقط، دون أي قيمة عاطفية».
خَلَقَ الأشخاصُ في محاولتهم لمزاولة الحياة من خلال هذا الشارع، وبعضهم أشخاصٌ في هذا المقال، احتمالات جديدة عن حقيقة هذا الحيّز الصلب المؤلف من أبنية وأزقة تبدو وكأنها لا تنتهي. وسَّعَ الموسيقيون السوريون إطار النافذة، فاختلفَ المشهد الأول، وتقسيم لم تعد خروجاً على النمط فحسب، وإنما هويةً هلامية يصنع حدودَها التناقض، المزاجية، المفارقات، الاستغلال، الحرب، والانسلاخ عن الذات؛ هويةً انحلّوا فيها؛ لينكشف بهذا وجهٌ آخر، لكنه ليس الأخير، لتقسيم.