تنتقد ريما ماجد في مقالتها الأخيرة في الجمهورية، التوافقية: التشخيص الخطأ والعلاج الزور، طرحَ الديموقراطية التوافقية كأنسب نظام لحلّ النزاع القائم في سوريا. وتركّزُ ماجد في مقالتها على نقد افتراضين اثنين تقوم عليهما الاقتراحات التوافقية؛ الافتراض الأوّل هو أنّ للجماعات الإثنية والطائفية حقيقةً أنطولوجية (أي أنّ الجماعات واضحة المعالم ليست فقط نتيجة تصنيفات يفرضها المحلّل على المجتمع، بل هي فعلاً موجودة، ينقسم ويتفاعل على أساسها أفراده). والافتراض الثاني هو أنّ النزاع في بلدان كلبنان وسوريا والعراق والبوسنة وإيرلندا سببه هذه الجماعات والتنافس بينها (وليس أسباباً أخرى اقتصادية مثلاً). وهي تقدّمُ كذلك حجّةً ثالثةً ضد الأنظمة التوافقية، وهي أنّها تؤدي بذاتها إلى ترسيخ الانقسامات الطائفية والإثنية، من خلال مأسستها لهذه الانقسامات. سأناقشُ فيما يلي هذه الحجج الثلاث، لأُظهِرَ أنّ التشخيص الذي ترتكز عليه الاقتراحات التوافقية ليس خطأً، وأنّ شكلاً من أشكال الحلّ التوافقي، نظراً إلى صحة هذا التشخيص، ضروري.
بالنسبة لحقيقة الجماعات، تنطلق ماجد من «الطبيعة المرنة والظرفية والتركيبية لتكوين الهويات والجماعات»، لتستنتج أنّ الجماعات الطائفية والإثنية ليست «معطيات»، وأنّ المطلوب هو «فهم العوامل والآليات التي تظهّر الحدود الإثنية أو الطائفية وتقود (أو لا تقود) إلى تشكيل الجماعة». لا اعتراض على هذين القولين. الجماعات الطائفية والإثنيّة (من سنة وشيعة وعلويين وأكراد) ليست تركيبات أبدية، ولم تتواجد لمئات السنين وليست وليدة مشاعر فطريّة. هي تكوينات سياسية نشأت مع نشوء الدول اللبنانية والسورية والعراقية الحديثة، وما سبقها من ممارسات استعمارية، وما تلاها من ممارسات سياسية خاصة من قبل النخب التي أسست لهذه الدول. إذن هي ظرفية إذا اعتبرنا أنّ الظروف تطول لأجيال (وليس فقط لشهور أو سنوات). وتبعاً لهذا المنطق، فإنّ الأنظمة السياسية ظرفيةٌ أيضاً، فالدولة السيادية الحديثة هي أيضاً تركيبية إذ هي نتيجة عمليّات وتغيّرات سياسية، لم تتواجد دوماً، وهي في طريقها إلى تغيير جذري في المستقبل الآتي. وقد يُقال إنّ الأنظمة السياسية «ماديّة»، بينما الجماعات والهويات لا شكل مادي لها، بل هي صنيعة مشاعر وغرائز وأفكار يصعب على المحلّل أن يحدّدها من الخارج، لكنّ آلان باتن أظهر في كتابه الأخيرAlan Patten, Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights (Princeton: 2014).، أنّه يمكن تحديد الجماعات بصورة ماديّة أو موضوعية من خلال التركيز على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كالعائلة والمدرسة ووسائل الإعلام والمراكز السياسية المحليّة وحتى اللغة، فهذه المؤسسات تصنع الجماعات مثلما تصنع مؤسسات الدولة الحديثة المواطنين.
لا يولد العلويون مع شعور فطري بالانتماء إلى الجماعة العلوية، بل يتم صنع هذا الانتماء من خلال المؤسسات التي يرتادونها. هذا يعني بالفعل أنّ الانتماءات يمكن أن تتغيّر بتغيّر هذه المؤسسات، ولكنّها تتغيّر بصورة بطيئة وتدريجية، ولا يمكن إبدالها كلّها بمؤسسات مدنيّة خالية من أي فكر جماعي ومن العادات والتقاليد التي ترافقه. فمثلما لا تزال العائلة الجماعة الأولى ومركز التنشئة الأول للأغلبية الساحقة من الناس في عالمنا اليوم، لا تزال المؤسسات المحلية الدينية والثقافية والتعليمية تلعب دوراً كبيراً في نقل القيم المتنوّعة حتى في البلدان الأوروبية الأكثر مدنيّة، فتكون بذلك صلة الوصل، أو العنصر الفاصل، بين الأفراد والدولة، وهو الدور الذي تلعبه العشائر والطوائف والإثنيات في الدول العربية والأفريقية والآسيوية لأسباب مختلفة سياسية وتاريخية واقتصادية. الجماعات إذن جزءٌ لا يتجزأ من المجتمعات الحديثة، وهي بذلك معطىً ضروري للبحث السياسي والسوسيولوجي.
السؤال الثاني هو ما إذا كانت هذه الجماعات سَبَبَ الصراعات في «المجتمعات شديدة الانقسام» كسوريا اليوم. ترى ماجد في مقالتها أنّ التركيز على التقسيمات الطائفية في سوريا، يؤدي إلى إشاحة النظر عن الأسباب الاقتصادية لهذه الصراعات، مثلاً «التحالفات الطبقية بين أغنياء السنة والعلويين المقربين من النظام، والظلم الطبقي الذي لا يميز بين هويات فقراء السوريين». ولكن العكس صحيح أيضاً، فإنّ التركيز على الأسباب الاقتصادية على الطريقة الماركسية التقليدية، يتجاهل وقائع أساسية لا يمكن نكرانها وهي أنّ الأغلبيّة الساحقة من المسؤولين في النظام السوري علويون، والأغلبية الساحقة من المتظاهرين ضد النظام هم سنّة (العلويون إن شاركوا قاموا بذلك كأفراد لا كجماعات). هذا لا يعني أنّ الأسباب الاقتصادية لم يكن لها دور في إشعال الثورة السورية وفي بعض مظاهرها، أو أنّه لا انقسامات بين السنّة أنفسهم، لأسباب اقتصادية وغيرها، ولكنّ الثورة السورية ليست ثورة فقراء ضد الأغنياء. هذا لا ينتقص من شرعيّة الثورة، ولا ينتقص من أهميّة مطالبها، إنّ معظم الثورات حول العالم اليوم ليست ثورات طبقية. الإقرار بالتقسيم الطائفي للثورة السورية ضروري بالتحديد من أجل «فهم العوامل والآليات التي تظهّر الحدود الإثنية أو الطائفية وتقود (أو لا تقود) إلى تشكيل الجماعة». لا يمكن إلّا البدء من هذا الإقرار للشروع بالإجابة عن الأسئلة الشائكة حول أسباب التطييف وشرعيّته وطرق التعامل معه.
أمّا السؤال الأخير الذي يطرح نفسه، بعد الإقرار بحقيقة الجماعات ودورها في النزاعات، هو ما إذا كانت الديموقراطية التوافقية تحدُّ من الانقسامات والنزاعات أو تؤججها. هذا هو السؤال الأصعب. تشيرُ ماجد إلى المشكلة مع الأنظمة التوافقية في مقالتها، وهي أنّها تساهم في الزبائنية والإقطاعية السياسية، ما تصفه ماجد بـتقاسم الكعكة بين «قادة المجتمعات المحلية». ولكن غضَّ النظر عن مطلب الجماعات بالاعتراف بها كجماعات سياسية له تبعات سلبيّة أيضاً، إذ أنّ نكران تطلّعات جماعات كانت مغبونة لفترة طويلة، وخطر اضطهاد الأقليات، يقوّضان، ليس فقط الاستقرار، بل العدالة أيضاً. المطلوب إذن التوفيق بين الانصهار الوطني والعدالة، وبين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات. وهنا يمكن مثلاً التمييز بين المؤسسات السياسية ذات الماهية التمثيلية (المجلس النيابي، رؤساء الدولة)، ومؤسسات الدولة ذات الأهداف المدنية (الإدارات العامة والمؤسسات العامة كالجامعات والمدارس). أن يتم توزيع الأدوار في الأولى على أساس طائفي لا يتنافى بالضرورة مع أهدافها، ولكن يمكن القول إنه يتنافى مع أهداف الثانية. ثمة أشكال متعدّدة إذن من الحلول التوافقية، مختلفة عن النموذج اللبناني، من المجدي التفكير فيها.
السؤال الملحّ في سوريا هو كيف ننهي الحرب القائمة، والسؤال في لبنان هو كيف نمنع أخرى. ولكن السؤال في الحالتين هو أيضاً كيف نبني نظاماً سياسياً أفضل في السنوات المقبلة، ولو لم يكن هذا النظام هو المثالي الذي كنّا لنفضّله لو كان الواقع مختلفاً، أو لو كنّا نفكّر بالمستقبل البعيد لا القريب. ظنّي أنّ الإقرار بدور الجماعات الطائفية ليس خطأً كما تراه ماجد، بل هو بالعكس يفتح الباب أمام نقاش بنّاء حول مستقبل مجتمعاتنا.