تستمرُّ المعارك داخل وفي محيط إدارة المركبات بمدينة حرستا قرب دمشق للأسبوع الثامن على التوالي، ومع إعلان مصادر من الفصائل المشاركة في المعركة اقتراب السيطرة على كامل مباني الإدارة، فإننا قد نكون أمام اكتمال مشهد بدأ منذ منتصف شهر تشرين الثاني الفائت مع معركة «بأنهم ظلموا» التي أطلقتها حركة أحرار الشام الإسلامية، وانضمَّ لها لاحقاً فيلق الرحمن، بهدف تحرير أبرز مواقع قوات النظام داخل الغوطة الشرقية.
حقَّقت المعركة خلال مرحلتها الأولى عدة تحولات في التوازن العسكري ضمن الغوطة الشرقية، وذلك بسيطرة مقاتلي الفصائل على أحياء العجمي والحدائق خلال الأسبوع الأول للمعركة، ونقل المعركة إلى داخل أسوار وأبنية إدارة المركبات، مما وضع قوات النظام هناك في موقف دفاعي حرج، نتج عنه حصارها وقطع خطوط الإمداد عنها بعد سيطرة الفصائل على الفرن الآلي وطريق عربين نهاية شهر كانون الأول. وأعلنت مصادر عسكرية في معركة «بأنهم ظلموا» السيطرة على أبنية جديدة داخل إدارة المركبات، واغتنام دبابة من قوات النظام خلال معارك اليومين الماضيين، ونفت ما أُشيعَ عن نجاح قوات النظام في فتح ثغرة باتجاه الإدارة المحاصرة.
بالتوازي مع بدء المعركة، بدأ النظام حملة قصف مكثفة على مدينة حرستا، التي تعرضت لأكثر من 250 غارة جوية منذ نهاية شهر كانون الأول، بالإضافة إلى قصف مدفعي وصاروخي عنيف، ووثّقَ المجلس المحلي لمدينة حرستا أكثر من خمسين شهيداً مدنياً قضوا نتيجة القصف على المدينة، ومنذ بداية الأسبوع الماضي تعرضت أيضاً بلدات الغوطة الأخرى إلى حملة مشابهة خلفت عدداً كبيراً من الشهداء.
المعارك التي تجري الآن داخل أسوار إدارة المركبات هي الحدث العسكري الأبرز في الغوطة الشرقية منذ معارك القابون وجوبر العام الماضي، وستمكّنُ السيطرةُ على هذا الموقع فصائلَ الغوطة من تحقيق تفوق نوعي على قوات النظام بالقرب من العاصمة دمشق، إذ تعدُّ إدارة المركبات في حرستا الموقع الأهم للنظام السوري في الغوطة الشرقية، وتشكّلُ لساناً لسيطرة النظام يمتد في عمق المناطق المحررة، ويمكّنه من قطع الطريق بين حرستا وعربين. وتطلُّ أبنية الإدارة على كل من حرستا وعربين ومديرة، وعلى طريق دوما–حرستا الرئيسي، كما تقع بالقرب من مباني أساسية مثل وزارة الري ومبنى محافظة ريف دمشق.
خمس سنوات على «ربيع المجاهدين»
شكّلت إدارة المركبات، التي تتألف من أبنية الإدارة والرحبة والمعهد الفني، نقطة تجمع لقوات النظام، تقصف منها أحياء حرستا ومسرابا وعربين بقذائف المدفعية والهاون، وهي تحولت بعد تحرير أجزاء من مدينة حرستا نهاية عام 2012، إلى نقطة انطلاقٍ لقواته في معاركها ضد فصائل المعارضة ضمن مدينة حرستا.
ولم تكن المعارك في الأيام الماضية المحاولة الأولى للسيطرة على إدارة المركبات من قبل فصائل المعارضة، التي أطلقت بداية عام 2013 «ربيع المجاهدين» للسيطرة على الإدارة التي كانت العقبة الأبرز بعد تحرير أجزاء واسعة من الغوطة الشرقية، وتعرّضَ المبنى الرئيسي في إدارة المركبات، والمؤلف من ستة طوابق، لتفجير هدمه بالكامل نهاية العام نفسه، 2013.
تتالت المعارك في محيط الإدارة، وخاصة ضمن حي العجمي في مدينة حرستا، الذي يقع بالقرب من أسوار الإدارة، وأصبح خطّ الدفاع الأول لقوات النظام عن مواقعها هناك، ليسيطر «لواء فجر الأمة» على أجزاء منه إلى جانب منطقة الكوع نهاية العام 2015. ومنذ ذلك الوقت أصبح اللواء هو الفصيل المسيطر في مدينة حرستا، ومعظم مقاتليه من أبنائها، لينضم قبيل منتصف العام الماضي إلى حركة أحرار الشام، ويصبح النواة الأساسية والقوة الضاربة لها في الغوطة الشرقية.
كان مسار المعارك على إدارة المركبات في حرستا أحد أهم محددات الأوضاع العسكرية في الغوطة الشرقية، إلى جانب نقاط التماس الحيوية في جوبر والجبهات الشرقية والقطاع الجنوبي، واستطاع النظام من خلال استمرار سيطرته على هذه النقطة منع أي عملية مشتركة بين جبهات حرستا وعربين باتجاه أوتوستراد حمص–دمشق الدولي. وستشكلُ خسارة قوات النظام لمواقعها هناك بدايةَ مرحلة جديدة في مسار المعارك بالقرب من مدينة دمشق، وهي المعارك التي تؤثر بشكل كبير في قدرة النظام وحلفائه على تصنيع صيغة «الانتصار العسكري» على المعارضة المسلحة، مما قد يعيد ترتيب الحسابات في المسارات السياسية.
كيف ستتغير جبهات دمشق؟
أطلقت الانتصارات التي حققتها فصائل المعارضة في حرستا دينامية جديدة في المسار العسكري في سوريا عموماً، فالنظام الذي استطاع تحقيق انتصارات واسعة خلال العامين الماضيين يواجه انكساراً خطيراً بالقرب من العاصمة، وفي منطقة تعدّ أبرز نقاط ارتكازه شمالي شرق دمشق، وقد تكون الآثار السياسية والمعنوية للمعركة أكبر حتى من آثارها العسكرية، فالاتجاه الذي أخذته الأوضاع في الغوطة الشرقية المحاصرة خلال العام الماضي، خاصةً بعد سيطرة النظام على حي القابون، وإغلاقه آخر الأنفاق بين الغوطة ومدينة دمشق، كان ضربة موجعة للمُحاصَرين.
وقد لا تكون السيطرة على إدارة المركبات هي الحل النهائي للأوضاع التي فاقمتها خسارة الأنفاق خلال العام 2017، إلا أنها خطوةٌ قد تقود إلى زعزعة سيطرة قوات النظام على منطقة هامة اعتُبِرَت شبه ساكنة طوال الأعوام الماضية. وبالمقابل فإن تسارع معارك إدلب وتقدم النظام نحو مطار أبو ضهور العسكري جنوبي شرق المحافظة، قد يعطي الفرصة لتتفرغ قواته لجبهات الغوطة في حال استطاع تثبيت انتصاراته شمالاً. ولكن على أي حال، فإن خاصرةً هشةً جديدةً للنظام على أطراف مدينة دمشق، ستكون حدثاً قادراً على تغيير توازناتٍ بدا أنها قد رجحت ونهائياً لصالح النظام السوري، بعد الدعم الواسع الذي قدمته روسيا.
بعد أكثر من خمسة أعوام على طرد قوات النظام من معظم أحياء مدينة حرستا، يبدو أن الموقع العسكري المسؤول عن مقتل عدد كبير من المدنيين قصفاً وقنصاً قد أصبح خارج الخدمة، وهو على وشك أن يصبح بيد أبناء المدينة.