أعجبني البيان الفرنسي المعارض لحركة (#أنا_أيضاً/MeToo#) الذي وقّعته دونوف وأخريات، ونَشرنَه في صحيفة اللوموند الأسبوع الماضي. أعجبني للغاية. لكن كما هو الغزل «الأخرق» الذي تمنّى البيان على النساء أن يتحمّلنه، بدا البيان نفسه محاولة «خرقاء» لإدانة حركة #أنا_أيضاً، فانتهى به المطاف دليلاً على ضرورة وجود هذه الحركة.
ذلك أن البيان كان واضحاً للغاية حول حدود الحرية الجنسية التي تدافع عنها الموقِّعات: الرجال يضايقون والنساء يستجبن (مغازلة جنسية)، الرجال يلامسون النساء في المترو والنساء يتحمّلن (ما يحدث يومياً خلال مشوار الصباح). كان المغزى واضحاً: كل ما تتحمّله الإناث يتحول إلى استحقاق للذكور، وذلك هو تعريف الجنس. لكن هذا التعبير البسيط و«الأخرق» عن المسألة يجعل الرد السريع والحاسم على البيان من أبسط ما يكون: لِمَ لا يتحمّل هو؟ ليس هناك شيء اسمه السوق «الحرة» للجنس: ما هو استحقاق بالنسبة لك في السوق الجنسية هو بالضرورة تضييقُ حريةٍ بالنسبة للآخرين. استحقاقي أن أُترَكَ وشأني، وليتحمّل هو.
تصوير ذلك على أنه «كراهية للرجال وللحرية الجنسية» صحيحٌ نوعاً ما. ما هو أصحّ في المقابل أن الرجال أنفسهم لا يريدون – ويقاومون بشدة – خسارة استحقاقاتهم وما يرافقها من سلع إيروتيكية مثيرة، ويكرهون بشدة النساء اللواتي يهدّدن هذه الاستحقاقات. فأن تخسرَ استحقاقكَ يعني أن تصبح مشوّشاً للغاية حيال الجنس، وحيال معنى رجولتك. وإذا كانت أنوثتي مُقحمة في مفهوم «الحرية الجنسية» ذاك والسلع المثيرة المرافقة له – كأن يكون التحمّل مصدر إثارة جنسية بالنسبة لي – ففي ذلك أيضاً ما يدفعني لـ «الهلع الجنسي»: الهلع من أن أُترَك لوحدي أو أن أحتاج أنا للمبادرة. وهو أمرٌ مخيفٌ فعلاً.
ما أثار إعجابي أيضاً في البيان الفرنسي المعارض أنه بمحاولته «الخرقاء» للتمسك بالاختلاف الجنسي الفرنسي، لم يكن واعياً بكمية الأمركة التي تخلّلت خطابه. فالإدانة التي وجّهها البيان لحركة #أنا_أيضاً ما هي إلا اجترارٌ لخطابٍ قديم، عمره ثلاثة أو أربعة عقود، وهو خطاب أميركي جداً جداً. أن تصيح «الهلع من الجنس يهيمن على العالم» في كل مرة يضطرُ الواقعُ النسويةَ الليبراليةَ الحاكمة للميل نحو يسار الليبرالية الكلاسيكية – حيث الخطأ الوحيد هو «العنف» و«التمييز» – فهذا قديم… جداً. كل مرة تتم فيها أشكلة «الموافقة [على القيام بالجنس]»، يعلو الصوت نفسه «الهلع من الجنس في كل مكان». نفسها الحجج القديمة يتم تكرارها اليوم: معاملة النساء كأطفال، تشجيع المحافظين والمتدينين، تجاهل الإجراءات القانونية الواجبة، التنفير من «الجنس». يستخدم البيان هذه الحجج الأربعة جميعها، ما يجعله نسخة عن حركات «الجنس الإيجابي» في الولايات المتحدة، والتي أنا شخصياً على علم بها منذ أواخر الثمانينياتتقوم حركات الجنس الإيجابي على اعتبار جميع أشكال التعبير والممارسة الجنسية الحاصلة بالتراضي جيدة وصحية وممتعة بالضرورة، وهي تشجّع على التجريب الجنسي والتربية الجنسية وتناهض الاعتبارات الأخلاقية التقليدية، المترجم..
وكما نظيره الأميركي، يقدم البيان شكلاً من أشكال التنازل الخطابي للنسوية قبل أن ينسحب بسرعة، وبشكل هيستيري، نحو «الليبرالية الكلاسيكية». يؤكد البيان أنه بالفعل يعارض «الاغتصاب» (لأنه عنيف) و«إساءة استعمال السلطة» (أمر غير مقبول وإن لم ينمّ عن عنف)، ولكنه ما إن يقدم تنازله حتى يتراجع عن معارضة الثانية، ويركز على معارضة الأول عبر التماسِ الاستثناءات لـ «إساءة الاستعمال»، بما في ذلك الهجوم على أشكال الحراك النسوي التي كانت ضرورية لبيان «الإساءات» المُتَضَمَّنة في «الاستعمال»: لِمَ نعاقب رجالاً أساءوا استعمال السلطة قبل عقود؟ تصبح «إساءة استعمال السلطة» متعينة بالزمن. ولِمَ نعاقب رجالاً لم يقوموا بأي شيء مختلف؟ تصبح إساءة استعمال السلطة متعينة بـ «الثقافة السائدة». ولِمَ نعاقب رجالاً يقصدون «التغزّل»؟ تصبح إساءة استعمال السلطة متعينة بـ «النية».
ثم: ألا نجعل بذلك النساء ضحايا أبديات؟
يمكن النظر إلى «النسوية» الداعية للتحرر الجنسي، سواء كانت فرنسية أو أميركية، على أنها يمين النسوية الليبرالية الحاكمة، أي ذاك التيار الذي يسعى إلى المحافظة على الوضع الجنسي /الجنساني الراهن، ومقاومة أية محاولة نسوية لإعادة تعريف شروط التفاعل الجنسي بين الجنسين. يمكن مقارنته بيمينييّ حزبٍ ليبراليٍّ يصيحون «يا للهول» كلما اقترح زملاؤهم الليبراليون تنظيم السوق بما يتجاوز سقف «الحرية» كما يرونه. قد يقرّ هذا الجناح اليميني بأن «فساد» النخبة مشكلة جدية في «السوق»، لكنه يُهرع بعد ذلك لجعل إقراره بلا معنى (السقوط بالتقادم، الثقافة، النية). دعاة التحرر الجنسي هم النظير النسوي لليبرالييّ الكلب الأزرقتقصد الكاتبة «ائتلاف الكلب الأزرق» الذي تأسس في صفوف الحزب الديموقراطي عام 1995، ويمثل اليوم الجناح المحافظ لقواعد الحزب، والذي يعارض بشدة الإصلاحات المالية والتنظيمات الحكومية، ولا سيما مشروع أوباما كير..
برأيي، وجّهت حركة #أنا_أيضاً ضربةً مزدوجةً للتحرريين الجنسيين من فرنسيين وأميركيين:
فمن جهة، أظهرت الحركة «شذوذ» خطاب هؤلاء: الاعتداءات الجنسية التي راحت تشاركها النساء تحت شعار «أنا أيضاً»، باتّساعه وعمقه وعالميته – بما يشمل كل «صنعة» وكل ركن من أركان المعمورة – تُظهِرُ أن القراءة النسوية لتلك الأحداث هي الأقرب إلى الحقائق. الشذوذ الكامن في ردّ فعل التحرريين تمثَّلَ في إصرارهم، كالعادة منذ عقود، على أن «النسوية» هي من يخترع «حقائق» التأذي الجنسي، وأنه لولا النسوية لما كانت هذه الحقائق موجودة أصلاً. يمكنكَ بيع هذه الأفكار لبعض الوقت، لعقود حتى، لكن قوة الحقائق، الساحقة في راهنيتها، والمشيرة إلى السياسة الأقرب إلى تمثيلها، ستسحقكَ عاجلاً أم آجلاً، كما فعلت الآن؛ بينما ستزداد بحّة صوتك وسخافة منطقك ووتيرة جنونك وشذوذك، حتى أمام جمهورك الأكثر ولاءً. كلا، ليست النسوية هي من اخترعَ التأذي الجنسي، بل التأذي الجنسي هو الذي دعا إلى سياسات نسوية.
من جهة أخرى، أظهرت #أنا_أيضاً أن الدفاع عن «الانعتاق الجنسي» ضد توغّلات النسوية هو محاولة «شمطاء». فعلى مدار العقدين الماضيين، سيطر نظام جديد من «الجنس الإيجابي» على العالم، وبطريقة لم يكن يحلم بها دعاة الجنس الإيجابي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. فالثورة الجنسية الرقمية التي تقدم تكثيفاً شديداً للّذّة – إن لم يكن كحقيقة فكإمكانية، وإن لم يكن كعلاقة اجتماعية فكتوقّع اجتماعي – اخترقت أبعد الثقافات وأقربها. بالنسبة للأجيال الجديدة التي نشأت على استهلاك ما يُمليه هذا الواقع الرقمي، من المواد الإباحية إلى تطبيقات المواعدة، أصبحت إيجابية الجنس فكرة سابقة على الجنس نفسه. إلا أن هذه الثورة الرقمية خلقت أشكالاً جديدةً ومكثّفةً بشكل غير مسبوق من العنف والاعتداء الجنسي والاستحقاق الاجتماعي. لقد سيطرت هذه الثورة الجنسية على النظام الجنسي القديم الذي تعدُّ فيه «المغازلة» شكلاً من أشكال المضايقة التي تتحمّلها النساء. اليوم تحدث المغازلة بتمرير إصبع على صورة تظهر في تطبيق مواعدة، وبتوجيه التحية للآخر قبل الالتقاء به بوقت طويل.
ليست #أنا_أيضاً عدواً للثورة الجنسية التي أطلقتها تطبيقات المواعدة؛ بل هي وليدة هذه الثورة. إنهم الشباب والشابّات القادمات من عالم المُتع الجنسية من يتحدثنَ عن الإجحاف والعنف الذي يلحق بالبالغين في هذا العالم، وهم من يصرخنَ «انتهى ذلك الزمن». من الأفضل للكبار اليوم أن يصغوا إلى ما يقوله الشباب كي لا يبدوا سخفاء، وفي الوقت نفسه عليهم أن يودّعوا النظام الجنسي القديم وخطاباته التحررية التي شبّوا عليها.