من المفترض أن تبدأ اليوم أعمال مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه موسكو في ختام الجولة السابعة من مباحثات أستانا نهاية شهر تشرين الأول من العام الفائت، وكانت هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة أعلنت مقاطعتها للمؤتمر في ختام جولة التاسعة من مفاوضات الحل السياسي، التي جرت بشكل استثنائي في فيينا.
وعلى الرغم من إعلان الهيئة لرفضها حضور المؤتمر، إلا أن منصة موسكو المشاركة في الهيئة سارعت إلى إعلان تبرؤها من هذا الرفض، باعتبار أن ممثليها قد صوتوا مع عدد من الأعضاء الآخرين بنعم لسوتشي، وتحدثت بعض التسريبات في الساعات الأخيرة عن احتمال مشاركة بعض أعضاء الهيئة بصفتهم الشخصية، بالمقابل فإن هيئة التنسيق المشاركة أيضاً في هيئة المفاوضات أعلنت عبر رئيسها حسن عبد العظيم الالتزام بقرار المقاطعة.
هذه التطورات التي ارتبطت خلال الأيام الماضية بتحركات سياسية إقليمية ودولية، كانت ضمن حزمة من التوجهات التي حملت أيضاً تبعات ميدانية على الأرض في سوريا.
وكانت عدة مصادر مقربة من المعارضة السورية قالت إن هيئة التفاوض قد تعرضت لضغوطات كبيرة من الرياض وأنقرة لحضور مؤتمر سوتشي، الأمر الذي جعل زيارة وفد الهيئة إلى موسكو واللقاء بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إيذاناً باتخاذ القرار بالذهاب إلى المؤتمر، لكن بروز موقف الولايات المتحدة خلال اجتماع مصغر عُقِدَ في باريس على هامش مؤتمر دولي تحت شعار «شراكة دولية ضد الإفلات من العقاب»، أتاح هامشاً لـ «لا» لم يعد الحلفاء التقليديون للمعارضة السورية في الإقليم يوفرونه.
من باريس أرسلت الدول المجتمعة هناك، والتي ضمت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأردن والسعودية، ورقةً «غير رسمية»، تضمنت مقترحات حول شكل الدستور وتحديد صلاحيات الرئيس، ومنح مزيد من النفوذ السياسي لـ «حكومات الأقاليم».
واشترك كل من وفد النظام السوري ومنصة موسكو برفض هذه الورقة، التي حملت رسائل سياسية من واشنطن حول مؤتمر سوتشي أكثر مما حملته من توصيات حول مفاوضات المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، فقد صنع الإعلان الجديد عن الموقف الأمريكي والتحفظ الغربي تجاه مؤتمر سوتشي، بالإضافة إلى اجتماع باريس وما نتج عنه، هامشاً للمعارضة السورية لرفض الذهاب إلى المؤتمر في اللحظة الأخيرة، بعد أن أجلت هيئة التفاوض إعلان قرارها حتى انتهاء أعمال جولة المفاوضات في فيينا.
المعارضة والإقليم
شكَّلَ الموقف التركي المعلن والسعودي–الإماراتي غير المعلن من الذهاب إلى سوتشي، ذروةً جديدة في علاقة الحلفاء التقليديين للمعارضة السورية بالمسألة السورية، هذا المشهد كان بدأ بالتشكل منذ انخراط تركيا في مباحثات أستانا التي قامت برعايتها بالاشتراك مع إيران وروسيا، أما على الجانب السعودي فقد شكَّلَت اجتماعات «الرياض 2» العنوان الأبرز للتحول في الموقف من الوضع في سوريا.
التحول الإقليمي كان نتيجة لعدة تحولات في الأوضاع السياسية والعسكرية للإقليم، وبالذات ضمن الدول المعنية بهذا التحول (السعودية وتركيا بشكل رئيسي)، إلا أن الأسباب الموضوعية للتحول كانت جزءاً من صورة متكاملة تضافرت مع رغبة لدى صانعي السياسات الخارجية في البلدين (بقيت غير معلنة طوال العامين الماضيين) «بالانتهاء من الملف السوري والتعقيدات التي جلبها على سياساتهم».
توجهٌ مشابه كانت الدوحة قد سبق وعبرت عنه من خلال تصريحات وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم الشهيرة «تهاوشنا على الصيدة»، في تصريح قد يكون تعبيراً مكثفاً عن الموقف الإقليمي الحالي من الوضع في سوريا، مبرره الرئيسي طوال الفترة الماضية هو «التراجع الأمريكي» أمام النفوذ الروسي والإيراني في الشرق الأوسط، إلا أن موقف واشنطن الأخير قد يكون فرصة لإعادة معاينة مواقف القوى الإقليمية وبالذات الحلفاء التقليديين للمعارضة السورية، باعتبارها تعبيراً عن رغبة كامنة لدى تلك الدول بالقبول بالحل الروسي في سوريا (إعادة تعويم النظام السوري، فرض حل عسكري، وانهاء أي فرصة لوجود معارضة سياسية)، مقابل إخماد المخاطر المباشرة التي تواجه سياساتها وطموحاتها في المنطقة.
تحول بنيوي في المعارضة السورية
استطاعت المعارضة السورية، المتمثلة بهيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة، رفض حضور مؤتمر سوتشي في اختبار للتركيبة الجديدة التي صُنِعَت في «الرياض 2»، إلا أن الألغام المزروعة بحرص داخل بنية الهيئة الجديدة، ستكون قابلة للانفجار في أي لحظة، مُمهدةً لإنهاء أحد مؤسسات المعارضة السورية الرئيسية، من دون وجود أي رغبة إقليمية بدعم تماسك مؤسسات المعارضة. وتبدو ورقة الدعوات التي تسربت على وسائل التواصل الاجتماعي مساء أمس الأول تعبيراً واضحاً عن موقف الدول الإقليمية من المعارضة السورية، فقد تولت ثلاث جهات/شخصيات توجيه الدعوات لما يفترض أنهم المعارضون السوريون، إذ تشاركَ كل من ريم تركماني ورندة قسيس وأحمد الجربا توجيه الدعوات لأكثر من ثلاثمئة شخص يُفترض بهم أن يمثلوا جانب المعارضة السورية، ويمثل الثلاثة نموذجاً للعلاقات العابرة للصراع الإقليمي والدولي بالإضافة إلى موقف ضبابي من المحددات الأساسية التي تتضمنها القرارات الدولية والمطالب السياسية للمعارضة للحل السياسي، مما يجعلهم النموذج المثالي المقبل ربما للجيل الجديد من المعارضة السورية، وإن صحت قائمة الدعوات المسربة، فإنها تشكل نقلة جديدة لبنية وشكل ما قد يُطلَقُ عليه المعارضة السورية، فبعد التحول الذي حصل في مباحثات أستانا حيث تحملت المكاتب السياسية التابعة للفصائل مسؤولية التفاوض مع النظام، يبدو أن الوجوه (القديمة–الجديدة) قد تكون معبرةً عن مسار تريد موسكو فرضه بموافقة إقليمية، يتمثل بشكل جديد من التفاوض المبني على رؤيةٍ روسيةٍ خلاصتها الرئيسية هي بدء ما تسميه «حواراً وطنياً»، ينتهي بإعادة إنتاج النظام السوري، وتتويجها كمتحكم رئيسي بمصير الصراع في سوريا.
على الرغم من التحولات الإقليمية، والتقدم العسكري الذي تحرزه قوات النظام في إدلب بمظلة الطيران الروسي، لم تستطع موسكو أن تخرج سوتشي حتى بمظهر مسار أستانا، فحتى الفصائل العسكرية والقوى السياسية المرتبطة عضوياً بالموقف التركي لم تخرج بموقف موحد يوافق على الذهاب إلى سوتشي، ورَفَضَ بعضُ من ذهبَ من ممثليها مغادرة مطار سوتشي، محتجين على وجود علم النظام في شعارات المؤتمر، وهو ما أدى إلى تأخير بدء أعماله. فشلُ موسكو هذا، الذي انتهى بظهور المؤتمر على شكل مهزلة سمجة، شكّلَ ضربةً لاستراتيجية موسكو لمرحلة «ما بعد الانتصار العسكري»، لترد الأخيرة بمجازر في مختلف مدن وبلدات إدلب، وعلى وجه الخصوص سراقب التي تتعرض لحملة قصف جوي واسعة النطاق، كرسالة إلى هؤلاء الذين أفشلوا مؤتمرها.
في النهاية، يبدو أن ما اعتقدته القوى الإقليمية حول تحكمها المطلق بمجريات الأوضاع في سوريا، هو تقدير بعيد عن الصحة.