youtube://v/–sDBQuz6DY
هل أطلتُ الوقوف هنا؟ لا ينقصني الحماس، لأمشي الخطوات القليلة المتبقية، هناك احتمال أن أقف وجهاً لوجه مع آخر فرصة متاحة لأحظى بما ذابت سنوات حياتي وأنا أسعى من أجله: الغفران. مع ذلك لا أجد ضرورة للعجلة. شعرتُ بأول نقطةٍ تلامس شفتي السفلى، ومن ثم بلل الهطول الكثيف للمطر كل شيء حتى حذائي. كنتُ وحدي في مواجهة المدخل المعتم الأزرق للغابة.
لا أحد يريد أن يكتب عن الوضيع
لا أحد يريد حقاً أن يكون في حذاء الجرذ
لذلك فإن امتزاج الحبر والدم أكذوبة
من تجرأوا على ذلك بالفعل لن تجدهم بيننا، هكذا ببساطة، ستدفعهم حدة الفعل إلى أقاصي الحياة، وهم من سنحكي عنهم اليوم:
كيف انتزعتُ خلاصي انتزاعاً من بين يدي الفتى مجاهد راسم الوشوم، كيف تمكنتُ من حمله على مطاوعتي في كل ذلك حتى انتهت إبرة وشومه في رقبتي، كيف كان قوس الدم يضيء وجهه المنقبض في عتمة المكان، كيف ابتهجتُ عندما أتمَّ الحبرُ دورة كاملة في جسمي ومن ثم تمكنتُ من بصقه على بلوكات الإسمنت الكالحة التي تملأ الحديقة، أو باختصار كيف قمنا بتخريب الحفل المفاجئ لعيد ميلاد موتسارت التاسع عشر.
بدأ كل ذلك، عندما وجدتُ نفسي ذات ليلة على مشارف الغابة المعتمة الزرقاء مرة أخرى. كنتُ أعرف أن عليَّ خلع حذائي قبل أن أدخل، فهنا فقط، حيث ستظهر العلامة بعد قليل: انتصاب الأطراف المنحنية المبتلة لأغصان الشجر لتضرب قلب السماء محمرة ومتوهجة في قلب العماء الكثيف، عندها فقط، أعرف أنني سأرى مجاهد، وسأجرب مرة أخرى لأعرف ما إذا كنت سأجد مطلبي لديه. سارعتُ لقطع المسافة حتى أصل إليه. خاب ظني، لم يكن هذا يومي. دون أن أنظر إلى الورقة التي يحملها في يده، عرفت ما يريد قوله الآن، وعلام يريد أن يعاتبني. الورقة التي يحملها، لي، أنا التي رسمتها، لا مجال لإنكار ذلك، الأجساد العارية، لنساء ورجال، بحبر كحلي رخيص، بقعه تتفشى عن خطوط الأجساد في الورقة التي يحملها مجاهد. كان ذلك منذ زمن طويل، وقد تعايشت لوقت كاف مع الذنب. ولكنني لا أستطيع الحديث لأشرح أياً من ذلك، لأن هذه هي القوانين هنا.
لا أحد يريد أن يكتب عن الوضيع
لا أحد يريد حقاً أن يكون في حذاء الجرذ
لذلك فإن امتزاج الحبر والدم أكذوبة
قدماي ليستا أقل دنساً من حذائي، ولكنني لا أجرؤ على دوس العشب الأزرق به، لماذا يطالب من هم مثلي بخلع أحذيتهم؟
أفتحُ عيني على صوت بابٍ يغلق بعنف في المنزل مقفلاً بوابة الحلم. الموعد الليلي المعتاد لاستيقاظ والدي. أتجهزُ لقضاء الساعات القادمة متنبهة بسبب صوت أنين العجوز الذي سيدخل بعد قليل في نوباتٍ من الصراخ، حتى أنهك وأتمكن من معاودة النوم قرب الفجر لألتحق بدوامي في الصيدلية في فترة الظهيرة.
كانت رائحة الدخان تلفُّ المكان عندما خرجت في جولة مشي سريعة مع فم السمكة قبل أن يبدأ موعد دوامي. غالباً قاموا بضرب المسيل للدموع مجدداً منذ قليل، على الجدران الكالحة توزعت كتابات بألوان زاهية مضيئة، كانت هناك عدة أسباب لتنال هذا اللقب، على اسم الزهرة الشهيرة، أبرزها سبب كان ليحرج أي فتاة أخرى ولكن ليس هي بالطبع. قصصتُ عليها حلم البارحة، استمَعَتْ باهتمام ثم فَكَرَتْ قليلاً وخَرَجَتْ بقرار مناسب: طالما أنني لم أقم بقص شعري أو أظافري ولم أرَ نفسي في عرس فلا وجود لما يُخشى منه. أو وانتقلنا للنقاش الأكثر أهمية: الحفلة المفاجئة التي ستقام بمناسبة عيد ميلاد موتسارت اليوم.
لم نكن مهتمتين بموتسارت نفسه، موهبته في نحت بقايا الأخشاب التي يعثر عليها في الحاويات لصناعة آلات الناي كانت ملفتة دون شك، ولكن سوى ذلك لم يكن لديه ما نكترث لشأنه. ما جعلني مهتمة بالحفل هو احتمال حضور مجاهد، جالباً عدة الوشم، باحثاً عن زبائن ممن يحملون النقود أو مواد مخدرة. كنتُ أرتدي بنطال جينز واسعاً عليّ، سَبَقَ وأن رأيته مرمياً في الطريق، وكانت رائحة كاز خفيفة تنبعث منه بعد أن حاولت تنظيفه بها. كنتُ أتوق بشدة إلى أن أحصل على وشم لصورة جرذ أزرق خلف أذني، اتفقنا أن أختلس بعض دواء السعال ذي الخواص المخدرة من الصيدلية لأعرضه على مجاهد لقاء الوشم. كنا قد وصلنا إلى أطراف البلدة، وبدأنا بدخول الأراضي الزراعية.
– اخلعي حذاءك
قالت. أوضَحَتْ لي أنه قبيح بما يكفي، لا داعي لأن يتلوث بعد بالأتربة قبل الحفل.
حملتُ حذائي ومشيت إلى جانبها دون أن ننطق. ودعتني عندما وصلنا إلى مقدمة نفق إسمنتي حُفِرَ في قلب الأراضي الزراعية. انزلقتُ في قلب النفق بخفة وحماس، وقفتُ قليلاً قبل أن أغادر المنطقة. كنتُ أتخيلُ فم السمكة تمرح في الأسفل مع أصدقائها المقاتلين المتمردين الذين كانوا يثيرونها بشكل جنوني، وكذلك لم أكن متحمسة للعودة إلى دوامي في الصيدلية.
لم يضايقني الطين على قدمي، كان سيزول بعد بضعة خطوات على الإسفلت. كنتُ خائفة قليلاً فقط من احتمال أن يتم افتضاح أمرنا ذات يوم، زياراتنا إلى مخبأ المتمردين. يتواجد دائماً، في مكان ما، في كل الأزمنة، من يجلسون ليكتبوا عنا برفق، أنا ببنطالي المتسخ ورائحة الكاز التي تنبعث منه وقدميَّ الغارقتين بالطين، وفم السمكة التي لا تهدأ رغباتها أبداً، منهم من يرتعش نشوةً مستثاراً لوقائع يومياتنا هذه، متحدثاً عن نبل المسحوقين، لكن لا أحد يريد أن يكون وضيعاً حقاً.
لم يكن هناك الكثير مما نبيعه في الصيدلية في هذه الظروف، بعض الأربطة المصنوعة من الشاش واللاصق الطبي. حبوب رخيصة لتسكين الألم وبعض علب الدواء مما يتوفر. طلبتُ إذناً بمغادرة العمل في ساعة مبكرة وأنا أتهيأ لما سيتبع هذا الطلب. ومن ثم حبستُ أنفاسي بينما كانت يد الصيدلاني الكهل تجول على فخذي، فوق البنطال القذر، إذ كان توتري يبهجه وإظهاري للاشمئزاز يثير غضبه، لذلك حرصتُ على أن أتجمد فقط.
عزة أبو ربعية
انتظرتُ لحظة خروج الجميع، وسحبت علبة دواء السعال الحمراء عن أحد الرفوف، لمَعَتْ في رأسي صورة الأشجار المنتصبة متوهجة الأغصان، تضيء وجه مجاهد في ظلمة الحلم الغريب. قبل أن أطفئ الأنوار لمحته يقف خلف زجاج واجهة الصيدلية، الرجل الشاحب الأصلع مرة أخرى، بمعطفٍ أصفر، الرجل الذي يريد مني أن أنقذه. قبل أن أفكر في أي شيء كان قد دفع الباب وجرى باتجاهي. أمسكني من ياقتي، عاد جسدي يرتعش من صوته المبحوح. قال إنه سيريني مثالاً عما أفعله به عندما أرفض مساعدته. تمكن من جري بسهولة إلى خارج الصيدلية، ثبت رأسي لأنظر إلى مشهد يجري أسفل غطاء معدني مرمي في الزقاق الضيق الذي يجاور بناء الصيدلية. كانت قطة الزقاق تلعب بما ظننته فأراً أو فرخ جرذ صغير ربما.
– أنا في عداد الأموات على كل حال، ولكنك ترمين بي إلى مصير هذا الجرذ، السمّ أفضل من هذا.
كانت القطة تمزق الجرذ بمخالبها وتعبث بأحشائه، بدأت أشعر بالدوار ولا أستطيع منع نفسي مع ذلك من التحديق في الأعضاء الداخلية الدقيقة للجرذ التي كانت تنتاثر بين مخالب وأنياب الهرة. أفلتني صاحب المعطف الأصفر وظهر الكفن الذي كان يصر على ارتدائه تحت معطفه ليزعج كل أهل الحي حتى يوافق أحدهم أخيراً على تخليصه من محنته. هددني قليلاً وتوعد بالقدوم غداً كمهلة أخيرة ثم مضى. كان يطالب بشراء سمّ الجرذان من الصيدلية، كان قد سئم مرضه ولم يكن أحد يرضى بيعه السمّ لوضوح نواياه. كان يعوّلُ عليَّ في ذلك، واعتزمت على ألا أخيبه إن جاء غداً.
في حفل موتسارت، الذي أقامه شبان الحي في بقايا حديقةٍ انغمرَ معظمها بالقطع الإسمنتية التي خَلَّفها انهيار المبنى الملاصق في إحدى جولات القصف، كنتُ أحاول جلب البهجة إلى نفسي قليلاً قبل وصول مجاهد. الإيقاع الذي تصاعَدَ من دفٍّ يحمله أحدهم بدأ يجلب لي الصداع وضيق الصدر، كما نوبات الصراخ التي توقظني كل ليلة وتبقيني متيقظة منهكة حتى طلوع الفجر. عندما مرَّ عليَّ أحد الحاضرين بطبق يحمل عصيّاً مخبوزة مملحة، استعدتُ صوت طقطقة العظام الصغيرة للجرذ بين مخالب الهرة في الزقاق. أعدتُ العصا المملحة إلى الطبق وبدأت معدتي تنقبض. بينما كنت أحاول منع نفسي من التقيؤ، كان أربعة من الشبّان قد دخلوا إلى الحديقة، يحملون قوائم كرسي خرب وجدوه في الحديقة المهجورة، يجلسُ عليه موتسارت سعيداً، مخموراً، وقد وضعو له تاجاً من الورق المقوى على رأسه.
عاد شعور الغثيان، الفأر وأحشاؤه يلتصقان بمخيلتي، أتحسَّسُ رقبتي، عظام الجرذ الصغيرة تجري في بلعومي، وتسده قبل أن تصدر صوت الطقطقة. الإيقاع المتصاعد يجلب إليَّ صراخَ العجوز من بيتنا في الطرف الآخر من الحي، هذا الصراخ يحتل مساحة كبرى في المنزل إلى درجة أننا بتنا شبه بُكمٍ هناك. خيل إليَّ أنني لمحتُ مجاهد يدخل إلى مكان الحفل، فاستجمعتُ قواي لأُخرِجَ علبة الدواء من الحقيبة.
لم نبذل كثيراً من الجهود حتى نعثر على فسحة خالية يفصلها حاجز من البلوكات الإسمنتية عن مكان الحفل، كان صوتهم يصل إلينا، يطغى عليه، لحسن الحظ، صوتُ البرية التي تحيط بالفسحة من الجانب الآخر. تمكنتُ من التمدد على مجموعة من الأحجار، بعد ثوان كنت قد ألفت ملمسها على ظهري ولم تعد تضايقني. أشرتُ إلى رقبتي، في المنطقة أسفل أذني. قلتُ له إنني أريدُ رَسمَ جرذ صغير هنا. مدَّ يده ليتفحص بشرتي في هذا المكان. أضفت: مُجنَّح. رسمٌ لجرذٍ مُجنَّح. جثا على ركبتيه وسمعتُ صوت المحرك الصغير لمكنة الوشم يقترب من أذني. بدا عليه التبرم، غالبُ الظن أنه لم يبتهج كثيراً بالصفقة التي أبرمناها. لم تكن علبة دواء السعال منتهى طموحاته، ولكن لم يكن واثقاً أنه سيؤمن عرضاً أفضل لهذه الليلة.
– الفأر سهل، كان بإمكاني أن أجعل الموضوع أكثر صعوبة
قبضتُ بأصابعي على يده الممسكة بالآلة.
– كان من الممكن أن أطلب منك أن ترسم زهرة فم السمكة، ماذا كنت لتفعل حينها.
ضغطتُ على يده مرة واحدة، بقوة كافية لتنفذ الإبرة إلى أعمق نقطة ممكنة، حتى لامس مقبض المكنة سطح بشرتي. ارتَجَفَتْ أصابعه وحاول أن يُخلِّصَ يده في البداية، ومن ثم سَكَنَت حركته تماماً مستسلماً بعد أول دفقة دافئة منتفضة خرجت من مكان وخز الإبرة. كنتُ قادرة بعد على سماع أزيز المحرك الصغير للمكنة قرب أذني، وكان قد بسط راحة يده الثانية بتسليم ليمسح على وجهي، امتلأ قلبي بالامتنان الحقيقي لمجاهد ويَدِهِ المتسخة بالأحبار الملونة، إذ كانت رائحتها تملأ صدري وتخدرني لأتمكن من إغماض عيني دون أي جهد هذه المرة. والأهم، كانت هذه الرائحة المنبعثة من باطن يده، والتي ساعدتني اليقظة الصافية الأخيرة على إدراكها بدقة شديدة، خليطاً من الحبر الرخيص والعرق الآدمي والحشيش، كانت رسالة الصفح التي انتظرتها طيلة ذلك الوقت، كنتُ أشعر برعب شديد من فكرة ألا أميزها إذا مرت من قربي يوماً، ولكنها كانت هنا الآن: نقية بيّنة كاملة، ومن ثم لم تعد وضاعتي شأناً ذا أهمية لي ولا لأي أحد.