«أفكار على هامش الحياة في عصر الديستوبيا أو المدينة الفاسدة (نقيض الفاضلة) نبثها إليكم من قبو نهاية العالم»، هذه هي العبارة التعريفية بمشروع ديستوبيا عربي كما جاءت على صفحته على فيسبوك، أما هدفه المُعلن، فهو «إلقاء الضوء على مختلف جوانب الحياة الديستوبية العربية» حسب تعبير مُقدِّمه في نهاية الحلقة الأولى.
قبل الحلقة الأولى كانت الحلقة صفر، التي تم نشرها في 25 كانون الأول 2017، وعنوانها سلطان زمانك، وفيها حديثٌ عن وسائل الاتصال وتطورها التاريخي وصولاً إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وعن خيبة الأمل المتكررة من عدم قدرة هذا التطور على المساهمة في تخفيف الآلام والحروب، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان.
في الحلقة صفر لم يكن هدف البرنامج وتوجّهه العام واضحاً، لكنه قدّمَ حزمة من المعلومات ذات الصلة المباشرة بحياتنا اليوم، والمُسنَدَة إلى مراجع معروفة مذكورة في نهاية الحلقة، وبأسلوب لطيف بعيد عن الوعظ ونزعة الإرشاد. ثم كانت الحلقة الأولى في 8 كانون الثاني 2018، وفيها جاء الشرح الواضح والمباشر للهدف من البرنامج، إذ انتقدت التفسيرات الأخلاقية للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، شارحةً كيف أن الأوضاع الديستوبية الكارثية التي نعيشها في العالم العربي هي نتاج التردي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وليست نتاج التردي الأخلاقي الفردي، بل إن التردي الثاني هو نتاج التردي الأول.
في نهاية الحلقة الأولى قال مُقدِّمُ البرنامج إنه وبانتظار خروجنا من أوضاعنا الكارثية، الذي سيأتي حتماً ولكن بعد زمن قد يكون طويلاً جداً، فإن البرنامج سيستمر محاولاً الإضاءة على مختلف أشكال التردي في الحياة العربية، بما فيها تلك المتعلقة بالجوانب الفكرية والعلمية وحتى الفنية.
في الحلقة الثانية، بذرة عاطلة، حاول البرنامج تقديم شرحٍ مبسطٍ يدحض فكرة أن هناك جوهراً ثابتاً يجعل من شعوب المشرق شعوباً متخلفة، مؤكداً مجدداً على أن الأوضاع المتردية هي نتاج الظروف والبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، معرجاً على مسائل الاستشراق والاستشراق المعكوس والنسبوية والجوهرانية.
ما قَدَّمَه البرنامج في حلقاته الثلاثة الأولى يجعله برنامجاً فريداً على المستوى السوري، لكنه لا يجعله فريداً على المستوى العربي، وخاصة عند مقارنته بما أنتجه مصريون خلال السنوات الأخيرة. ومنذ اللحظات الأولى واجه فريق ديستوبيا عربي اتهاماتٍ بتقليد برنامج الدحيح المصري، وبعضُ هذه الاتهامات على فيسبوك كانت قاسيةً على نحوٍ مبالغٍ فيه.
إذا كان صحيحاً أن المصري أحمد الغندور في برنامج الدحيح يقدم معلومات مستندة إلى مراجع علمية بأسلوب خفيف الظل، وهو ما يجمعه مع ديستوبيا عربي، فإن البرنامجين مختلفان تماماً من حيث الأفكار وكيفية طرحها وترتيبها، ومن حيث الهدف من طرح الأفكار وعلاقة الحلقات ببعضها، وهو ما حاول ديستوبيا عربي شرحه بوضوح في حلقته الأولى.
يقدم الدحيح حلقات تتناول مواضيع تجمعها جدتها وإشكاليتها وغرائبيتها ورصانتها، وتتناول مجالات مختلفة من الاقتصاد إلى الفيزياء والرياضيات الحديثة وغيرها، أما في ديستوبيا عربي فإننا أمام محاولة لتحليل أزمات العالم العربي والإضاءة على أسبابها من وجهة نظر علمية، أي أنه برنامجٌ يحمل أهدافاً سياسية وثقافية واجتماعية مُحددةً ومُعلنة. وعلى أي حال، فإن انتقاد البرنامج لتشابه قالبه العام مع برنامج آخر لا يبدو صائباً على الإطلاق، وإلا لكان على برامج الحوار السياسي التقليدية مثلاً أن تتوقف منذ نحو 50 عاماً.
ديستوبيا عربي، الذي يُعدّه عمرو نجار ويُقدمه ويُخرجه بشر نجار، وانضمَّ لهما في الحلقة الثالثة مأمون النونو في المونتاج، لا يزال في خطواته الأولى، ومن المبكر الحكم عليه، لكنه حاز نجاحاً أولياً واضحاً رغم الانتقادات المشار إليها أعلاه، ونالت حلقاته الثلاثة الأولى عشرات آلاف المشاهدات على يوتيوب وفيسبوك. وهو أيضاً متواضع على المستوى الفني والإنتاجي، لكن هذا يرتبط دون شك بكونه لا يزال عملاً غير ممول، يعتمد على المجهود الذاتي لفردين أو ثلاثة أفراد.
صحيحٌ أن حلقات البرنامج الثلاثة الأولى لم تتضمن مواقف مباشرة أو تفصيلية من الاصطفافات السياسية الحادة في سوريا والعالم العربي، لكنها تضمَّنت انحيازاً واضحاً لقيم الحرية والعقلانية، وهي مسائل سياسية في المقام الأول.
يسعى البرنامج إلى تناول مسائل معقدة وإشكالية بأسلوب خفيف الظلّ، ولا شكَّ أن الاستمرار في تقديم هذا المزيج من الرصانة والظُرف أمرٌ شديد الصعوبة، خاصة في ظروف الاستقطاب الحاد والعنف الشديد السائدة، لكنه في حال نجاحه سيكون إضافةً جديدةً بالغة الأهمية.