من غير الواضح بالنسبة لي متى تحولت الحياة اليومية (حياتي) إلى تصورات عامة وغير شخصية، تلك اللحظةُ التي أصبحتُ فيها قادراً على الكتابة عن إدارة المركبات دون أن أذكر أن قذيفة هاون أُطلِقَت منها كادت تقتل أخي، أو أن أحلِّلَ تقدم قوات المعارضة على محور طريق حرستا–عربين وسيطرتهم على مدرستي، دون أن أقول إنني خسرت سباق الركض حولها في طفولتي (لاحقاً كنت الأسرع عندما أطلق الأمن الرصاص باتجاهنا على طريق دوما). كيف لي تمييزُ اللحظةِ التي أصبحَ عليَّ الحديث فيها عن خطوط التماس في منطقة الكوع، عوضاً عن النصيحة التقليدية بتناول الشاورما من عند مطعم الكمال بدلاً من شاورما الكناري الأكثر شهرة؟
السؤال ليس مُلِّحاً، لكنه يعود كلما تحدثتُ عنها.
في جميع الأحوال، ها أنا أتكلم عنها مجدداً، من غير رتوش، ها هي حرستا…
بدأت حرستا بالتوسع كمدينة صغيرة، منذ الثمانينات، مع وصول موجات السكان من دمشق التي ضاقت بالنمو السكّاني وقتها، لتصبح خلال العقد الماضي واحدة من كبرى مدن الغوطة قرب دمشق، ويقتربَ عدد سكانها من المئتي ألف نسمة قبيل عام 2011. التضخمُ المتسارع الذي أصاب حرستا، أخلَّ بتوازن البلدة القديمة، التي كانت قد بقيت لفترات طويلة معزولةً من التحولات السكانية في العاصمة، الأمر الذي يتضح من خلال أنماط الارتباطات العائلية بين السكان المحليين. كما خلقت موجات السكان التي شكّل الدمشقيون جزءاً كبيراً منها نوعاً من النزعة المدينية المعكوسة، خاصة أن نمو عدد السكان والمساحات السكنية لم يترافق بنموٍ موازٍ في المجالات الاقتصادية، التي تعرضت على العكس من ذلك لعدة أزمات منها أزمة الإفلاس التي طالت جزءاً كبيراً من مصانع الألبسة في المدينة التي كانت تضم النسبة الأكبر من اليد العاملة في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة.
ساهم في هذا التضخم السكاني، وجود عدد كبير من المرافق العامة بالقرب من حرستا، نتيجة وقوعها على عقدة المواصلات الرئيسية لطريق دمشق–حمص الدولي، وقربها من نقطة التقاء الطريقين الدائريين (المتحلق الشمالي والمتحلق الجنوبي)، كما ضمَّت المدينة ومحيطها عدة ضواحٍ سكنية كان معظمها تابعاً لقطاع الأمن والجيش، لقربها من عدة قطعات ومراكز عسكرية كبيرة منها إدارة المركبات، التي تضم الرحبة العسكرية الأكبر لصيانة الدبابات في الجيش.
على بعد سبعة كيلومترات تقريباً من ساحة العباسيين، بدا أفق هذا التوسع محدوداً نتيجة سياسات الانفتاح الاقتصادي التي جعلت حرستا نموذجاً عن النمو السكاني الذي حمل بذور انقسامات اجتماعية طبقية ومدنية–ريفية، ففي مقابل خسارة حرستا لنمط إنتاجها الزراعي، لم تمتلك الفرصة لخلق أنماط إنتاجية أخرى تخلق فرصاً جديدة. كانت حرستا قد أصيبت بالمرض ذاته الذي أصيبت فيه دمشق؛ الاستعصاء أمام استمرار الحياة والنمو بشكل طبيعي.
كانت العائلات الكبيرة في المدينة (محفوض، العصّ، شلّة، غبيس، زيتون…) تمتلك النسبة الأكبر من الأراضي الزراعية التي أصبحت بعد دخولها في المخطط التنظيمي مصدر الدخل الرئيسي في المدينة. بالمقابل، فإن هذا الارتفاع في أسعار العقارات مثلاً لم ينعكس في زيادة القدرة على الدخول في مجالات اقتصادية أخرى (صناعية أو تجارية) لعدم القدرة على التنافس في سوق يحكمه متنفّذون في العاصمة دمشق. أوجه انسداد الأفق هذه أدت إلى نزعة انكفائية لدى السكان المحليين، في مقابل اعتماد تام من السكان الوافدين على العاصمة القريبة في كل شيء. كانت المجاورةُ في السكن لا تعني أبداً الانخراط في خلق مجتمع جديد.
هذه الظروف خلقت على مدى السنوات العشرة التي سبقت انطلاق الثورة، حالة متوترة ضمن مجتمع المدينة، كان الانتماء المناطقي والعلاقات العائلية تسيطر بشكل كبير على شكل الحياة في المدينة، لتصبح لحظةُ انطلاق الثورة فرصةً لنزع خطوط التماس الداخلية في المدينة وصُنع ِنموذج جديد، فتلك الانقسامات لم تعد تهمّ أحداً.
youtube://v/SYR6tI-h5L4
كان التآكل الذاتي واضحاً بعد أن انضمَّت آخر الأراضي الزراعية في المدينة إلى مخططات التنظيم، فقد كان الأهالي يميلون بشكل كبير إلى تكوين غيتوهات غير واضحة المعالم داخل المدينة. أبناء مدينة دمشق كانوا مقربين من بعضهم، فيما عائلات حرستا الكبيرة شَكَّلَت مجالسها الخاصة التي تُبنى فيها العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. كان هذا التشكل المتصاعد يهدِّدُ مستقبل المدينة بالتفكك، أصبح السكان الأصليون يشكلون ثلث السكان فقط، إلّا أن ذلك لم يكن داعياً لمزيد من الانفتاح على التنوع. وعلى الرغم من أن مجتمع المدينة ضمَّ سكاناً ينتمون إلى كل المناطق السورية، نتيجة عدة أسباب منها نشاط القطاع العقاري وقرب المدينة من دمشق، إلا أن ذلك لم يعنِ أن المجتمع في حرستا أصبح متنوعاً بمعنى الانفتاح على التنوع وتقبله.
ومع بداية المظاهرات في المدينة في شهر نيسان عام 2011، بدا وكأن تلك الديناميات قد انعكست تماماً، وعلى الرغم من أن أسباب الإشكالات تلك لم تختفِ فجأةً، إلا أن أشكال التضامن التي أظهرها السكان بشكل عابر للانقسامات التقليدية، كانت مؤشراً على نمو هذه الدينامية المعاكسة.
أتاحت الثورة الفرصةَ أمام مجتمع المدينة للخروج من الاستعصاء الذي خَلَقَه النموذج السياسي والاقتصادي للنظام في دمشق، وكان انحيازُ المدينة واضحاً منذ اللحظات الأولى، وفي حين انخرط قسم كبير فوراً من السكان في الحراك، لم يقف ضد الثورة مكونٌ أهليٌ واضح، ولم تستطع الشخصيات المرتبطة بشكل مباشر بالنظام خلق نموذج مليشياوي قادر على قمع المظاهرات، ما أجبر النظام منذ الشهور الأولى على استقدام تعزيزات عسكرية وأمنية كبيرة إليها في سبيل قمع الحراك. من جهة أخرى كان الحراك الثوري قوة معاكسة للانقسامات المناطقية التقليدية في عموم الغوطة وليس في حرستا فقط، مما ساهم في استعادة مصطلح «الغوطة» باعتبارها منطقة واحدة تشهد تطورات وتأثيرات متشابهة.
بدأت أحياء المدينة تُنتِجُ تظاهراتها الخاصة، ومع ازدياد تواتر الأحداث أصبحت تلك التظاهرات يومية، وعلى الرغم من تعرض المدينة إلى حملات عسكرية واسعة، منها الحملة التي نفذتها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في شهر حزيران عام 2011، حين حوصرت المدينة بشكل كامل وقطعت عنها الكهرباء والمياه وتعرضت لعمليات دهم واسعة طالت عدداً كبيراً من الناشطين في التظاهرات، إلا أن ذلك لم يتسبب في إضعاف زخم توسع الحراك في المدينة.
خلال السنتين الأولى والثانية من الثورة بدأت الحواجز العسكرية بالانتشار داخل المدينة وفي محيطها، كان التركيز موجهاً على السكان المحليين بشكل رئيسي. بعض أصدقائي فضَّلوا عدم الخروج لمدة عام ونص من المدينة، بعد تعرض عددٍ منهم للاعتقال والضرب على حاجز مؤسسة المياه فقط لكونهم من حرستا. هذه الأجواء لم تضعف في أي لحظة الحراك المدني في حرستا، فقد سجلت مشاركتها الكاملة تقريباً في كل دعوات الإضراب ومنها إضراب الكرامة. كان مشهد جنود النظام وهم يخلعون أقفال المحلات صباح ذاك اليوم في كل الطرقات مؤشراً على نجاح الإضراب في المدينة، ومشهدُ المحلات المفتوحة دون وجود أصحابها واحداً من أهم اللحظات التي استطاع فيها المجتمع في حرستا التعبيرَ بكل ثقة عن موقف واحد ومتماسك.
youtube://v/_Qc4vrg4_Rw
مع نهاية عام 2011 كانت المجموعات الصغيرة التي حملت السلاح لمقاومة الحواجز العسكرية داخل المدينة، قد بدأت بالتجمع ضمن كتائب صغيرة، تَوَفَّر لها بعض الدعم الشخصي من رجال أعمال محليين وأقارب مغتربين. كانت النماذج التي بدأت بالظهور أقل تسليحاً من نظيراتها في باقي بلدات الغوطة الشرقية، لأسباب اقتصادية في الأساس. ومن ثم بدأت تلك الكتائب التي التحقت بتشكيلات محلية، وأخرى على مستوى المحافظة، بالتمركز ضمن المناطق الزراعية في محيط حرستا كمزارع بسطرا، ومن تلك الكتائب تشكّلَ «لواء السيف الدمشقي» و«لواء درع العاصمة»، اللذين كانا من التشكيلات الأقدم في المدينة.
لاحقاً وَجَدت تلك التشكيلات نفسها أمام واحدٍ من أكبر الاستحقاقات التي واجهتها، مدينةٌ هُجِّر سكانها، وسط جبهات مستعصية عند النقاط العسكرية الأكبر للنظام في المنطقة (إدارة المركبات، محيط مشفى حرستا العسكري، مقرات الفرقة الرابعة في جبل الضاحية، منطقة مساكن الشرطة التي أصبحت منطقة عسكرية محصنة منذ العام الأول من الثورة).
تحطيم المجتمع المحلي
في الأسبوع الأخير من شهر أيلول عام 2012 بدأ النظام السوري حملة عسكرية واسعة ضد بلدات الغوطة ومن ضمنها مدينة حرستا، نتيجة ذلك هُجِّرت الغالبية العظمى من السكان وسيطر النظام على المدينة لمدة شهرين.
ومع فراغ معظم أحياء المدينة ونزوح أعداد كبيرة من السكان نحو مدينة التل، ونحو قلب الغوطة، أصبحت حرستا ساحة معركة لأكثر من شهرين، استطاعت بعدها كتائب المدينة استعادة عدد كبير من الأحياء، بينها حي زحلة وكتل سكنية بالقرب من شارع الثانوية، وجزء من حي السيل، وتركَّزَ وجود المدنيين في البداية ضمن المنطقة القريبة من طريق دوما باعتبارها الأبعد عن خطوط الجبهة.
youtube://v/Tchk4VKiUHQ
في هذه الأجواء سادت أوضاعٌ جديدة في حرستا، إذ بقيت الأقلَّ كثافةً سكانياً نتيجة موقعها على خطوط التماس بالمقارنة مع بلدات الغوطة الداخلية، في المقابل لم تسيطر تشكيلات كبيرة على المدينة بشكل مباشر كما حدث في بلدات الغوطة، وعدا لواء درع العاصمة الذي امتلك لاحقاً توجهات إسلامية أكثر وضوحاً قرَّبتهُ من جيش الإسلام، حافظت فصائل حرستا الصغيرة على محلّيتها وابتعادها عن الموجة السلفية التي سيطرت على جزء كبير من المشهد العسكري للمعارضة في سوريا. وقد شجَّعَ الصدام المبكر مع جيش الإسلام على تشكيل «لواء فجر الأمة» في شهر آذار 2014 من كتائب حرستا التي دخلت في وقت سابق في صدامات غير معلنة مع جيش الإسلام، وتعرضت لحملة اغتيالات طالت عناصر وقيادات فيها. هذا التحول ساهم في إيقاف تمدد جيش الإسلام في حرستا، الأمر الذي أجبره إلى التحول إلى قوة عسكرية تحكم دوما ومحيطها.
انطلاقاً من هذا الواقع، استطاع «لواء فجر الأمة» السيطرة على الأنفاق في مدينة حرستا، التي أمنت له قدرة على التمويل الذاتي، الأمر الذي ساهم في استقرار الطابع المحلي لهذا التشكيل.
عودة الصدام المسلح وبشكل واسع مع جيش الإسلام خلال عام 2016 كان أحد العوامل الأساسية التي خلقت حالة من تقسيم النفوذ الواضح بين الفصائل، وكان لواء فجر الأمة الذي قاد معارك ضد النظام في أحياء العجمي والكوع قبل ذلك بعام، قد استطاع بسط سيطرته على المدينة بشكل أكبر.
بُنيَ النزاع مع جيش الإسلام على عدة عوامل رئيسية، منها النزعة الاستقلالية لفصائل حرستا، التي كانت حداً فاصلاً أمام نمو سيطرة جيش الإسلام على مناطق الغوطة الشرقية، وقدرة تلك الفصائل التي اندمجت لاحقاً في لواء فجر الأمة على الاستمرار على الرغم من تحول معظم التدفق المادي والعسكري نحو التنظيمات التي تمتلك ارتباطات إقليمية جيدة ومن بينها جيش الإسلام، الذي سيطر على موارد اقتصادية كبيرة سمحت له بابتلاع فصائل ومناطق واسعة في الغوطة خلال عامي 2013 و2014.
انضم لواء فجر الأمة خلال صيف عام 2017 إلى «حركة أحرار الشام» ضمن تحرك يبدو أنه أمَّنَ للّواءِ غطاءً ضمن صراع القوى الكبرى في الغوطة (فيلق الرحمن – جيش الإسلام) للحيلولة دون ابتلاعه من قبل أحدهما، وكمحاولة لتغطية الثغرة التي سبَّبها توقفُ الأنفاق التي كانت تشكل مورداً للتمويل الذاتي للواء، وذلك بعد سيطرة النظام على القابون وبرزة خلال العام 2017.
جبهة إدارة المركبات من جديد
كانت المعارك التي أطلقتها حركة أحرار الشام (لواء فجر الأمة) في الأيام الأخيرة من العام الماضي باتجاه إدارة المركبات، المعقلِ العسكري الأبرز للنظام في الغوطة الشرقية، بدايةَ عودةِ حرستا إلى قلب خارطة المعارك مع النظام، كما أنها وضعت الحركة و«فيلق الرحمن» في واجهة الصدام مع النظام، بعد أن كانت معارك القابون العام الماضي المؤشر الأهم على نهاية الدور العسكري لجيش الإسلام على جبهات دمشق الحيوية.
المعارك التي بدأت لاستكمالِ تقدُّمٍ كان لواء فجر الأمة قد حققه منذ صيف عام 2015 حين سيطر على أجزاء من أحياء العجمي والحدائق المحاذية لمبنى إدارة المركبات، تستمرُ حتى اليوم على جبهتي إدارة المركبات والمشافي التي حاول النظام التقدم عبرها نحو عمق حرستا عدة مرات خلال الأيام الماضية. وفي حين لم تستطع المراحل الأولى من معارك الإدارة طرد النظام نهائياً من الموقع بالغ الأهميّة هناك، إلا أنها شكَّلَت تعبيراً عن قدرة فصيل محلي في حرستا على تهديد واحدة من أهم النقاط العسكرية للنظام قرب دمشق، رغم سنوات القمع والحصار والقصف بكل صنوف الأسلحة، بما فيها سلاح الجو الروسي، ما أدى إلى استشهاد المئات من أبنائها وإصابة وتهجير عشرات الآلاف، وتدمير ما يزيد على نصف أبنيتها.
لم يستطع النظام إخضاع مدينة حرستا، فدمَّرَها وهجَّرَ معظم سكانها، لكنه لم ينجح حتى اللحظة في السيطرة على عمق البلدة/المدينة، التي لا زالت قادرةً على تهديد النظام في أكثر مناطق سيطرته حيوية.