ليس واضحاً ما إذا كان المقصود بإنكار الإبادة الأرمنية الذي ينسبه فيكين شيتريان للعرب هو إنكارهم وقوع الإبادة ذاتها، أم إنكارُ ضلوعٍ عربيٍ فيها، وذلك في مقالته: How do you say “genocide” in Arabic. ونُشرت ترجمتها العربية على موقع درج: موقع العرب من الجينوسايد الأرمني.
مفهوم الإنكار قويٌ جداً لكونه بمثابة استمرار لجرائم الإبادة الكبيرة، يحول دون التئام جروحها، ويُبقي الإبادةَ معاصرةً لأخلاف المُبادين، لا تمضي بمضي الزمان. ولذلك فإن من شأن إرسال مفهوم الإنكار دون نقاش جدي، أن يجعله أداة في تراشق المظلوميات، على نحو ربما تحركه أوضاع سياسية راهنة، أو يُستخدَم في تبرير مواقع راهنة.
نكون أقرب إلى الإنصاف في تصوري إذا تكلمنا على لا مبالاة أو عدم اهتمام من جهة، وعلى قلة إلمام أو عدم دراية من جهة ثانية، بدلاً من عدم اعترافٍ أو إنكارٍ كما يفعل فيكين. القضية هامشية جداً في الإطار السوري (السوريون وحدهم من العرب هم المعنيون بالإبادة الأرمنية بصورة ما)، لأسباب تاريخية يسهل تبيانها. فلم يكن ثمة كيانٌ سوريٌ في ذلك الوقت، ولم تكن هناك مشاركة سورية أو عربية منظمة في إبادة الأرمن. وما يقوله فيكين عن مشاركة قبائل عربية في مأساة الأرمن يحتاج إلى ما هو أكثر من إشارة عابرة، بما يُظهِرُ إن كان انتفاعاً عارضاً من وضع جماعة مُضطهَدَة بلا حماية (وهو مدانٌ بطبيعة الحال)، أو أن هناك نسقاً لهذا الانتفاع يستهدف هذه الجماعة بصورة منهجية وبغرض تحطيمها. يتعلق الأمر بانتفاع عارض في تصوري، ولو حُذِفَ لما نقص شيء من الجينوسايد الأرمني الذي تولته أجهزة الحكم العثماني في سنوات حكم الاتحاد والترقي، وتحت جُنح الحرب العالمية الأولى.
ثم إنه إذا جرى الكلام على إنكارٍ عربيٍ للإبادة الأرمنية، فما هي الكلمة التي يستخدمها فيكين لوصف الإنكار التركي؟ تركيا معنيةٌ جداً بالجنيوسايد الأرمني، ليس فقط لأن المرتكبين أتراك والتخطيط السياسي تركي، وإنما كذلك لأن الجمهورية التركية قامت بقدر كبير على كبتِ هذه الواقعة المهولة. مسؤولية الدولة التركية عن الإبادة الأرمنية تُماثِلُ مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست، والتعافي الأخلاقي والسياسي للمجتمع التركي يمرّ عبر إخراج المكبوت والاعتراف بالذنب والتصالح مع الضحايا. سيكون مبالغاً فيه جداً أن يُقالَ شيءٌ مقاربٌ، ولو من بعيد، بخصوص سورية. في تاريخ بلدنا مكبوتات وجرائم كبيرة، وتعافينا يمرُّ بالاعتراف بها والكلام في شأنها والاعتذار من ضحاياها، لكن ليس بينها الإبادة الأرمنية. أعلمُ أن الإنكار يمكن أن يأخذ شكل صمت أو تجاهل أو خطاب معاكس، على ما أظهرت الباحثة التركية فاطمة موغه غوتشك في كتاب بالغ الأهمية Denial of Violence، لكن الأمر يتعلق هنا بالأحرى بلا مبالاة ناشئة عن غياب دور منظم من أي طرف محلي في الإبادة الأرمنية، قراراً وتنفيذاً ومشاركةً. ولا يبدو على كل حال أن أحداً من الأرمن السوريين (أو غير السوريين بقدر ما أعلم) ألمحَ إلى إنكار قبل فيكين، وإن تكن معلومةً ومذكورةً وقائعُ تَفرُّقِ نساء وأطفال من الأرمن بين سكان مناطق الشمال السوري، وإدماجهم فيها (علاقة قوة غير عادلة يَسَّرَت تحويلهم إلى مسلمين، والزواج من أرمنيات، حملت بعضهنَّ الوشومَ التي تحملها النساء المحليات في تلك المناطق).
أتكلمُ كذلك على قلة إلمام أو عدم دراية، ليس لأن وقائع الجينوسايد الأرمني وإلى اليوم لا تكاد تكون معروفة إلا على نطاق ضيق، ولكن لأنه ليس هناك خطاب، ليس هناك مسألة ونقاش حول الأمر، وليس هناك دفاع وانفعال. في تركيا هناك خطاب، وهناك نقاش، وهناك انفعال بالغ القوة وهناك إنكارٌ نشطٌ جداً، مكرسٌ تعليمياً ومحميٌ سياسياً.
قرب نهاية مقاله يشير فيكين بطريقة تبدو لي غريبة بعض الشيء إلى «العنف الذي نشهده اليوم» في سورية، ويربطه بما جرى للأرمن الذي جلبوا إلى دير الزور على يد الحكم العثماني المتقهقر عام 1916. ليس واضحاً ما يقصد، وهو لا يساعد قارئه في توضيح نوعية الصلة. يتولد لديكَ الانطباع بأن هناك حدثاً واحداً كبيراً ومولداً للتاريخ، هو الجينوسايد الأرمني، وهناك أحداث «عنف» غامض مجردة لا تسمى، لكنها تتصل به بصورة ما. ما العلاقة؟ هل يقع «العنف الذي نشهده اليوم» بسبب إنكار الجينوسايد الأرمني الذي وقع قبل قرن؟ لا يؤكد فيكين أن هذا هو السبب، لكنه ينصح بمزيد من الدراسة. لا بأس، ربما، كلنا محتاجون لذلك. أترك جانباً أن فيكين يتكلم على «العنف الذي نشهده اليوم» كأنه يجري في مكان بعيد ومنذ زمن بعيد، ولا يسمي أي فاعلين، ولا يدينُ أحداً ولا يعبّرُ عن تضامن مع أحد. هذا مُستغرَبٌ لأنه يمكن أن يكون شكلاً من الإنكار من دارسٍ يعرف أن الإنكار يمكن أن يأخذ أشكالاً متعددة، منها تجريد مأساة تاريخية هائلة تجري اليوم، واعتبارها «عنفاً» غامضاً ما، ربما يعود إلى كبتِ عنفٍ سابقٍ وقعَ قبل قرن.
هنا مشكلتان في تناول فيكين في تصوري، أولهما تمركز تفكيره حول الجماعات والهويات، وليس حول الدولة والأوضاع الدولية والسياقات التاريخية. والثاني هو تحكيمه للمظلومية الأرمنية في أوضاع اليوم، على نحو يفضي حتماً إلى إلحاق الضرر بهما معاً: زج الإبادة الأرمنية في سياقات صراعية راهنة، وهذا دون أن يسعف ذلك بحالٍ في فهم أوضاع اليوم.
المشكلة الأولى تُفاقِمُ عيباً متأصلاً في مفهوم الجينوسايد ذاته. المفهوم ظهر كما أشار فيكين عام 1944 من قبل حقوقي يهودي بولوني الأصل، رافائيل لمكين، فقدَ نحو خمسين من أفراد أسرته في بولونيا التي كان غادرها إلى السويد فأميركا أثناء الحرب العالمية الثانية. واعتمدت الأمم المتحدة تجريم الجينوسايد عام 1948، وعرَّفتهُ بأنه أي فعل يُرتَكَبُ بِنية التدمير الجزئي أو الكلّي لجماعة قومية أو عرقية أو إثنية أو دينية. وفي المناقشات التمهيدية لإقرار الميثاق جرى إغفال الجماعات السياسية من أحزاب أو منظمات بضغوط من الاتحاد السوفييتي الذي نجح نظامه الستاليني في إبادة معارضيه منذ الثورة قبل 30 عاماً وقتها، بل وفي إبادة أكثر البلاشفة القدماء بالذات. بريطانيا أيضاً اعترضت على تشميل الجماعات السياسية خشية من أن يؤدي ذلك إلى تفحّصِ سجلّها الاستعماري. في المحصلة طورَ مفهوم الجينوسايد تمركزاً قوياً حول جماعات معطاة الهوية سلفاً، بحيث لا ينطبق مثلاً على إبادة الشيوعيين الأندونيسيين، بين نصف مليون ومليون قتلوا بأساليب فظيعة غالباً خلال أقل من عام بين 1956 و1966. ولأن مفهوم الجينوسايد «موجه نحو العمل»، أي الإدانة والتدخل والعقاب، مثلما يقول كرستيان غرلاخ في مجتمعات العنف المفرط، فإنه صار علينا أن نثبت أن ما جرى جينوسايد كي نحظى باعتراف مؤسسات القمة العالمية، وذلك بأن نُبرِزَ أن الضحايا ولو كانوا بالمئات، ينحدرون من جماعة مميزة استُهدِفَت بسبب هويتها، فيما يخرج من المفهوم الضحايا ولو كانوا بمئات الألوف إن لم يكن واضحاً أنهم استهدفوا لأسباب هوياتية. وهو ما يفتح باباً للتنافس بين الناشطين السياسيين والحقوقيين والكتاب على إثبات الجينوسايد هنا ونفيه هناك، وعلى تنافس الإنكارات والمظلوميات الجمعية، وكذلك على إدخال الضحايا في مراتب بعضها أرفعُ من بعض. بعبارة أخرى، يشجع هذا المفهوم على تطييف أو أثننة أو قومنة التفكير في الإبادات والحروب والصراعات السياسية، بينما يفترض المرء أن عمل الدارسين والحقوقيين هو بالأحرى إظهار عمليات تكوّن الجماعات بالذات، أو تحولها من شكل إلى غيره كجزء من الحرب والإبادة.
الهويات نتاج التمييز والقتل والإبادة أكثر من العكس، لكن في كل حال ينبغي فحص الصراعات والسياقات بالتفصيل، وكلٌّ منها على حدة. فالإيزيديون في العراق استُهدِفوا من قبل داعش لأنهم إيزيديون. هذا جينوسايد مخبري إن جاز التعبير. مع ذلك فإن المؤرخ والباحث الجديّ مدعو لأن يُظهِرَ التراكيب الاجتماعية والسياسية والنفسية التي جعلت مثل هذا المبيد (داعش)، ومثل هذه الإبادة الإيزيدية، مُمكنَين.
وبفعل تمركزه الهوياتي، لا يزكي تشخيص الجينوسايد غير معالجات من نوع إسرائيلي: دول إثنية أو دينية-إثنية، أو متحدات قائمة على تقاسم ديني-إثني للسلطة. إسرائيل هي النتاج الأصفى للإبادة الأكثر تنظيماً وصناعية في القرن العشرين، وهي مضخّةٌ مستمرةٌ للعنف والعنصرية، جينوسايد بارد مديد.
هناك من طوروا لتداركِ تمركزِ مفهومِ الجينوسايد حول جماعات ناجزةِ التميّز مفاهيمَ مجاورة مثل مفهوم البوليتيسايد (باربرا هرف وروبرت غر، 1988)، الذي يمكن ترجمته بالإبادة السياسية. والمفهوم يعني اليوم شيئين: إبادة السكان أو مجموعة من السكان سياسياً دون إبادتهم فيزيائياً (أي استعبادهم سياسياً: باروخ كمرلنغ يتكلم على إبادة سياسية للفسطينيين في إسرائيل، لكن شارون وحده هو من يبدو البطل الشرير في قصته)، أو إبادة السكان أو مجموعة منهم فيزيائياً لأسباب سياسية. من ذلك التمرد أو الثورة، أو كل ما يندرج تحت العصيان والخروج من طاعة الحكام. وهو ما يتيح في رأيي عقلنة مفهوم الجينوسايد، والنظر إلى الهويات كعلاقات وعمليات اجتماعية وسياسية.
العيب الوراثي في مفهوم الجينوسايد يتضخم أكثر في تناول فيكين، الذي يميل إلى المزيد من حصر الجماعات في هويات مستقرة معطاة سلفاً بدل العكس. ذو دلالة مثلاً أنه يتكلم على إنكار عربي، وليس سوري. من هي الذات العربية، يا ترى، التي يُفتَرَضُ أن تتراجع عن هذا الإنكار؟ يُفاقِمُ من ذلك أنه يغيب من تناول فيكين ما يتكرر في أدبيات الجينوسايد من أنه عنف منهجي تمارسه الدولة ومنظمات تابعة لها، لتبدو الإبادة عنده علاقة بين أديان وهويات وأعراق منزوعة السياسة، وهو يحتفي بأن آدم جونز في طبعةٍ لاحقةٍ من كتابه الذي تَرجمتُ فقرتين منه، نُشِرَتَا قبل حين في الجمهورية، تحوَّلَ من الكلام على الجينوسايد الأرمني إلى «التدمير العثماني للأقليات المسيحية». خلافاً لذلك يقول أفضل الأدب التركي بخصوص الإبادة الأرمنية إنها جرت في سياق ظهور الدولة القومية التركية، وانهيار السلطنة العثمانية المتعددة القوميات. وهذا عكس ما يتجه إليه تفضيل فيكين في كتابه: جروح مفتوحة: الأرمن والأتراك في قرن من الإبادة، من إبراز العناصر الهوياتية الثابتة في الصراع: مسلمين/ مسيحيين، أرمن/ أتراك (وفي مقالته: عرب وكرد).
ويبدو أن هذا النازع الهوياتي هو ما حدا بفيكين إلى تثبيتٍ للأرمن في وضع الضحية. وهذا لا يسلب الكتاب حسَّ الصراع وتصادم التطلعات القومية في زمن الإمبريالية وصعود القوميات، مما كان من شأنه أن يغني الكتاب، بل هو يسلب الأرمن بالذات الفاعلية والولاية (agency) من حيث هو يحاول الدفاع عن حقوقهم وجدارتهم. أعتقد أن سعيَ فيكين وراء إدانة مطلقة للجينوسايد الأرمني دفعه إلى تصوير الأرمن كضحية مطلقة، مجردين من أي فاعلية إيجابية تخصهم. هذا غير مُنصفٍ للواقع التاريخي، وغير مُنصفٍ للأرمن.
والآن ماذا بشأن «العنف الذي نشهده اليوم» في سورية، هل هو جينوسايد؟ ما يدفع إلى التحفظ هو التمركز الهوياتي للمفهوم، كما تقدَّم، وما يفضي إليه من تغذية المظلوميات، وبالتالي المسالك غير العقلانية، هذا بينما يفترض المرء أننا، بالأحرى، بحاجة إلى إدراج الهويات في سياقات اجتماعية وتاريخية وسياسية مفتوحة، تجعلها هي بالذات نتاج عمليات فرز وعزل وتصنيف تسبق الإبادات وتُزامِنُها. ليس في هذا ما يضفي صفةً نسبيةً على الإبادات، العكس هو الصحيح. فاعتبار الإبادات صراعات هوياتية تنبع من كرهنا لهم وكرههم لنا هو ما يبقينا في إطار صراعات هوياتية تتسلسل وتتناسل إلى ما لا نهاية، ولا يستطيع أحدنا تأكيد مظلوميته دون إنكار مظلومية غيره، ما يُغرِقُ الفواجع كلها في اللامعقول والابتذال والتوحش. وتغدو الحقائق آراءً بحيث أن لكل منا حقيقته الصحيحة مثلما أن لكل منا رأيه الحر، على ما يقضي به مذهب ما بعد الحقيقة المزدهر اليوم.
وأخشى أن تناول فيكين يشجعُ على ولوج درب النسبية وتنافس المظلوميات والتراشق بالإنكارات، مما يحمل في باطنه أن يكون تاريخنا حلقة شريرة من الإبادات والمظلوميات والإنكارات. وهذا بقدر ما يجري تفسير التاريخ بالهويات، بدل أن يجري تفسير الهويات بالتاريخ.
من شأن نظرٍ تاريخي يرى تشكّلَ الهويات وإعادة تشكّلها وانحلالها عمليات تاريخية نتقصاها بمنطق تاريخي واحد لا بمنطق هويات كثيرة، أن يسعفنا أكثر في بناء ضمير وسياسة عابرة للجماعات تعترض على الإبادة كإبادة، وليس على إبادات دون غيرها.