ما أضيقَ الباب وأكربَ الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه!
(مَتّى (7: 14
فَرَضَت الحملةُ العسكرية على الغوطة الشرقية مُعطياتها محلّياً على النخب المدنية، فخلقت حصاراً مضاعفاً يحشرها بين أربعة أضلاع:
-
الضغطُ العسكري الذي يمارسه الروس والنظام عبر القصف بعنف غير مسبوق، والذي تبعه التقدم البري بعد أسبوع من بداية التصعيد في 18 شباط الماضي.
-
الفصائل وخطابها العام غير المنضبط وإعلامها المحلّي «الصحّافي»، واستمرارُ عدم الشفافية حتى ضمن الدوائر الأضيق.
-
المبادرات المُستسلمة.
-
الواقعُ الطبي والإنساني الصعب، واحتمالية انفجار أو انفلات داخلي للناس.
وتمّ إيصالُ رسالة مباشرة للمدنيين، وعبر قنوات مختلفة، مفادها أن وقف المأساة يقتضي تسوية «واقعية» بعيدة عن الأحلام والطموحات الربيعية.
قد يحدث -وسيحدث- أن نكون ضحية لتسوية غير عادلة، فالعدل يبدو أفقاً بعيداً ضمن المعطيات الحالية.
لا نعرف شكل وماهية المآل، لكننا نعرف أنه سيفتقر للعدالة، فالعالم مستعدٌّ للتعايش مع تسوية حتى من رتبة تسويتنا بالأرض، وعجننا بها ثم الدوس فوقها بـ «سلام».
لا نختلفُ حول أن الواقع الجهنمي الحالي هو نتيجة أخطاء كبيرة وصغيرة، تبدأ من المستويات الشخصية، ومنذ بدايات الثورة ومما قبلها، وتمتدُّ إلى أكبر الدوائر في المؤسسات الدولية والعلائق الإقليمية والعالمية، وأيضاً إلى الدولة العميقة لكل بلد ولكل العالم، بما فيها الشركات العابرة ورؤوس الأموال… كلُّ ذلك لن يتغير الآن بيوم وليلة، ولذلك لن يكون هناك حلٌّ عادلٌ وكريمٌ لمشكلة الغوطة الشرقية المتأزمة الآن.
والحالُ كذلك، فلا يصحّ منا أن نجعل ما هو غير عادل ضمن مطالبنا، ولو كان حاصلاً لا محالة.
كما أنه من غير الأخلاقي اليومَ التركيزُ على لوم الضحايا (لوم الذات). أخطأت الثورة، نعم، لكن ذلك لا علاقة له بطرحها الأساسي المحقّ، والذي يبقى محقّاً، وإن ضلّت الطريق الموصلَ إليه.
الثوارُ اليوم من الضالّين، وذلك لا يعني بأي حال أفضليةً للمغضوب عليهم؛ جماعة «حضن الوطن»، كما لا يعني أن المعتزلين والمتفرجين هم أصحابُ الصراط المستقيم.
السلاحُ هو الانحراف الجذري في الثورة، باقي الأشياء كانت تحصيلَ حاصل، وتبعات متلازمة مع الشرّ الأساسي المتمثّل في حمل السلاح في وقت كفّ اليد، ومنافسة الوحوش في المكان الذي تتفوق فيه، وهو مقدار الوحشية.
*****
لا يحاسبنا الله لماذا لم نغير العالم كله، لكن يسألنا هل بذلنا وسعنا في المساحات التي يمكننا تغييرها ضمن عالمنا الصغير؟ وهي -بالمناسبة- الطريق المؤدي لتغيير العالم.
كلما نُرحِّل المشكلة إلى مكان آخر خارج دائرة التأثير وإمكانية التغيير، نكون قد انحرفنا عن الصواب بقدر، وانتقلنا من التفكير بالحلول إلى التفكير بالأعذار والمبررات، ويتوجَّبُ علينا العودة خطوة للوراء، والعمل على المربع الذي يمكننا إحداثُ فارقٍ فيه، بدلَ الاستغراق في فرز ومحاكمة الأبيض والأسود، وقدح باقي الرقعة والأحجار عليها والأيدي التي تحركها.
ومن هنا، فمهمتنا ليست وضع المبادرات. طرح الثورة الدائم هو الحرية والكرامة والعدالة وما يلزم لكل ذلك، وهذه القيم هي ما يؤدي بالضرورة إلى السلام المحقّ والمنشود.
«ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان»، الشيطانُ يعني الطاغية. والهدوءُ في أرض الطغيان ليس سلاماً.
والمفروض أننا ندعو للسلام على طول الخط، وليس الآن فقط. ندعو لسلامنا أو سلامتنا نحن، فنكون تناسخاً للغرب الذي يدعو للديموقراطية في أرضه فقط، بينما يدعم الطغيان في كل مكان، وكذلك يدعو لحقوق الإنسان من «العالم الأول» فقط، ويحرق الإنسان وحقوقه في العوالم الأخرى.
أثناء ذلك، وقبله ودوماً، نستمر بطرح الحقيقة المجردة، والتي تُوافِقُ أصلَ القوانين والشرائع:
-
قصفُ المدن وقتلُ سكانها جريمة، مهما كان مرتكبها ومهما صغر أو كبر حجمها.
-
إجبارُ الناس بالقوة على هجر ممتلكاتهم وأرضهم جريمة، وكذلك حبسهم في حيّز من الأرض أو منعهم من التنقل في بلدهم.
-
إجبارُ الشباب والرجال على حمل السلاح في معارك واقتتالات تُنافي قناعاتهم جريمة.
-
الجريمةُ الأخطر هي إكراه الناس على تغيير معتقداتهم تحت تهديد السلاح أو الإيذاء البدني أو المعنوي، هذه هي الفتنة الأشدُّ من القتل، لأنها قتلٌ لروح الإنسان والإنسانية كلها.
الأخيرة هي «التسوية» المطروحة في كل المدن والبلدات؛ إذ جرت العادة، بعد إجراءات تسليم السلاح وإجلاء المسلّحين، وبعد تقارير القنوات الموالية للقتلة عن تحرير المناطق من قبل «الجيش الباسل»… يتم سوق شبابِ ورجالِ هذه المناطق للانضمام لهذا الجيش نفسه، الذي كان يقصفهم ويحاصرهم ويمرمرهم حتى يصل لاجتياحهم وسرقة ممتلكاتهم، لينضموا له في ارتكاب الشيء نفسه بحقّ سوريين آخرين في مناطق سورية أخرى.
والحالُ كذلك، يعود السؤال الذي تؤدي الإجابة عليه إلى فرز المواقف:
ما العمل؟
براغماتية: «الوضع صعبٌ وحَرِج، ويجبُ أن نتعامل معه بواقعية» أو: «ما تقوله صحيح، لكن…» وما أكثر اللاّكنات، للانقلاب على أي مقدمة وأي منطق. بعد كل «لكن…» يغرق أصحاب «اللاكنات» في الواقعية والبراغماتية، ليتحولوا إلى جزء من هذا الخطأ، وتصيرَ مهمتهم هي اختيار مكانهم في طيف الخطأ، وتبريره.
طهرانية: «الجميع مخطئون… مجتمعنا لم يكن جاهزاً للتغيير… الثوّار يقصفون مدنيين أيضاً… وعندهم سجونٌ وانتهاكات… الجميع خذلنا… قلنا لكم…» وعشراتُ المقدمات المنطقية الأخرى، كلها توصل إلى متنٍ غير مكتوبٍ للاستقالة من الفعل.
من يترفّع عن الخوض في الوحل كي لا تتسخ ثيابه، تبقى بذلته نظيفة بينما يتابع فيلم الرعب، لكن روحه هي التي تتلوث.
وغير هذا وذاك، يختار مرابطون المشي على حدّ الخنجر؛ بالعمل بأدوات واقعية على تغيير الحال السيء، وإن استعصى الواقع على التغيير يعيدون التذكير بالحقيقة، مجردةً وبسيطة، من غير «لاكنات»…
قد لا يعني ذلك شيئاً لمراقبين، وقد يصعبُ التفريق بين المآل القريب لكلٍّ من الأصناف الثلاثة، لكن مكسب الأخيرين أنهم يقيمون الشهادة على الجميع وعلى الواقع المستعصي على التغيير، فلا مرمغة بالوحل، ولا قهوة على شرفة البرج العاجي. وإنما صدحٌ بحقٍّ دائمٍ ومطلق: حرية، كرامة، عدالة!