خلال ثلاث سنوات قضيتُها في برلين، أستطيعُ القول إن فكرة النضال ومفهوم المقاومة، يصلان إلى ذهني كلّما دخلتُ إلى حمّامٍ عام.

أبدأُ باسترجاع السنوات الطويلة التي قضيتها من حياتي، بأسلوب مُختزل تقليليّ، في ممارسة دور المتلقي لكل أنواع النضال والمقاومة بدون اختيار أو تفكير أو جدال، لأنني على سبيل الصدفة، كنتُ نتيجةً فيزيائيةً لمكان جغرافي مُعيّن.

أتجوّلُ بحذرٍ شديد داخل مساحة لا تتجاوز المتر أو المترين كأقصى حدّ، بخصوصيةٍ تامة، أمارسُ القلق من ملامسة أي كتلة ظاهرية داخل المكان خوفاً من الجراثيم، الفيروسات، ومُخلَّفاَت من قبلي. أضحكُ عالياً، ليس بسبب قلقي المتوارث جينياً، بل لتشابهه مع قلق الرومان القدماء تجاه المراحيض.

يتحدّثُ أحد شخصيات فيلم يوناني كوميدي مغمور، عن أسطورة قلق الرومان القدماء من الدخول إلى المراحيض العامة. كان قضاء الحاجة فعلاً هامشياً، وكانت الكتابات الإرشادية الموضوعة آنذاك في المدخل، وعلى طول الطرقات إلى الأماكن المخصصة للتبوّل الجماعي، مثل «لا تقضي حاجتك هنا»، مُجهِدَةً بالنسبة للبعض، لكن ليس هذا فقط ما كان مجهداً، بل أيضاً اعتقادهم أن هذا الفضاء مليءٌ بالشر، ومُسبِّبٌ للعنات لكل من يلامسه.

أَنظرُ للأعلى لتخفيف جديّة الموقف، ثمة ملصقٌ في أعلى المرحاض يدعو إلى التخلص من الخوف تجاه المتحولين والمثليين. على جانبي الأيسر، أعلى لفافة الورق القابل للتدوير، ملصقٌ ينادي بالمساواة الجندرية بين النساء والرجال، مع بعض الخطوط الحمراء الدائرية، وأحياناً المستقيمة، على كلمة «نساء» المُكرّرة مراراً بخطوط لأحبارٍ متنوعةٍ من الواضح أنها لا تعود لشخصٍ واحد، للتأكيد على أهمية المناداة بالمساواة.

جدرانٌ مليئة بملصقات المقاومة والنضال، أقرأُها وأستغربُ وكأني أراها للمرة الأولى.

أتابعُ القراءة والتبوّلَ في اللحظة ذاتها على كرسي شبه متهالك، لا ألمسُهُ ولا يلمسني، بسبب الاضطراب الوسواسي القهري المتعلّق بالنظافة، الذي أُصِبتُ به منذ سنوات طويلة.

أفتحُ باب المرحاض بواسطة ورق مُعاد التكرير، قابل للتدوير. أشعرُ بالفخر لمساهماتي المتواضعة في تقليل الخطر على البيئة، والعمل على استنزاف الموارد الطبيعية بتسارع أقل، وحماية الكوالا والباندا من الانقراض. كلانا مستفيدان، أقول.

أعودُ إلى الداخل، إلى المكان الضيّق، أمارسُ هواية قراءة ملصقات المقاومة تجاه كل الأنظمة الظالمة المستبدة، داخل مكانٍ مبنيٍّ، وإن بشكل غير مباشر، من قبل المؤسسات ذاتها. كلماتٌ وجملٌ مكتوبةٌ تعود إلى شهور أو سنين عديدة خلت، بخط رديء وسريع، يدلُّ على الوضعية الجسدية لصاحبه أثناء ممارسته لفعل الكتابة، القرفصاء غالباً.

في أحد الحانات المفضلّة لديّ، هناك حمامٌ فقط مخصّصٌ للملصقات النسويّة، منها يميل إلى اللون البني المُصفرّ، ومنها مُشقَّق، مُتداخلٌ مع كلمات من ملصقات أخرى أعلى وأسفل، بحيث تبدو كأنها لوحة ضخمة بتقنية الكولاج. وفي داخله مبولة متهالكة، غير قابلة للتدوير.

تتنوع الشعارات على اختلافها نوعاً وقيمة، بين المطالبة بتحقيق العدالة بين الرجال والنساء، والقضاء على حامليّ أفكار الخوف من المثليين والمتحولين جنسياً، والعنصريين سواء تجاه اللون أو العرق أو الدين. الدعوة إلى عالم يعمُّهُ السلام والحب، فيه لاجئون وسكانٌ أصليون تحت شعار الإنسانية الواحد، لا حروب ولا تُجّار أعضاء هواة.

يختفي المنفذ الوحيد لدخول الشمس والتهوية. وجودُ الفتحةِ مربعةِ الشكل أو المستطيلة، المُسمّاة بالنافذة، فائضٌ لا حاجة له، فأغلب القضايا الإنسانية في وضعية الهزيمة القلقة، والملصقات هنا حركة احتجاج على هذه الوضعية الراهنة، تأتي لتحلَّ محلَّ الزجاج والضوء، مُكتفيةً بذاتها.

الإفراطُ اللغوي والمحتوى البصري على السواء، أضفى على المشهد حيرةً وقلقاً وعدم تركيز على مفهوم نضالي واحد، رغم الفضاء الضيّق. بالعكس، يستدعي كل هذا الاحتواء البصري، استهلاكاً لا يختلف عمّا تروج له المؤسسات المُحارَبَة من قبل الشعاراتِ ذاتها.

بنظرة حيادية، لا مناصَ من الإشارة إلى أن الفضاء، أعني أماكنَ الملصقات، والإفراط في الشعارات والرسومات، يحوِّلان القارئ إلى متلقٍ يمارس قراءةً ذهنيةً صامتةً لكمٍّ من الحشو الفارغ، مُترافِقَةً مع وضعية التبول، وكأن فعل المقاومة والاحتجاج يتحوَّلُ في هذا الفضاء عفوياً إلى محاكاة لفعل المقاومة السائد في العصر الحديث.

فعلٌ شعاراتيٌ، مُهمَلٌ، فائضٌ لا حاجةَ له.