للخارجين من معتقلات النظام السوري العديدة، ومن قضوا أياماً وأسابيع وأشهراً وربما سنوات في أسوأ أماكن الاحتجاز صيتاً خلال السنوات السبعة الأخيرة، ذاكرةٌ لا تشبه أي ذاكرة أخرى. للمعتقلات السوريّة مفرداتها ورموزها وطقوسها وأسرارها، التي تتحول إلى ما يشبه الرابط بين جميع من اختبروا هذه التجربة، وكذلك قسوتها التي تبرر كثيراً من الأفعال غير المُبرَّرة خارجها. أفعالُ الطلب والخضوع التي تصل حدَّ التذلل والاستجداء، وأيضاً أفعال الأنانية والغيرية المفرطتين في تطرفهما، التي تتحولُّ ملاذاً من مستقبل مجهول لا أفق له، وعنفٍ واقعٍ أو وشيكِ الوقوع.
هنا قد تكمن مفارقةٌ ما: فمن زار أو سمع أو قرأ عن مراكز الإيواء التي أعدّتها الحكومة السورية في محيط العاصمة دمشق لاستقبال النازحين من الغوطة الشرقية، لن يصعب عليه تخيّلُ صور شديدة التطابق من المعتقلات السورية. مراكز إيواء أو مراكز احتجاز، قد تختلف المفردات والشروط لكن النتيجة واحدة: أماكن مخصصة لأولئك الخارجين عن طاعة الحاكم. من نجا من الموت قد لا ينجو من الاعتقال، ومن نجا من الحصار سيكون حصارٌ آخر بانتظاره.
«الدوير»، «عدرا الكهرباء»، «حرجّلة»، «الفيحاء»، «أمن الدولة»، «الأمن السياسي»، «الأمن العسكري»، «المخابرات الجوية»، أسماءٌ سترتبط في ذاكرة من اختبروا الحياة فيها بأدوات القهر المتنوعة التي استخدمها النظام السوري ضدّ معارضيه، وضدّ حاضنتهم الشعبية، وضدّ كل من كانت له الجرأة يوماً ليقول «لا».
البداية
بعد أيام من انطلاق الحملة العسكرية على غوطة دمشق الشرقية أواسط شباط الفائت، والتي وُصِفَت بأنها أعنف هجوم شنّه النظام السوري على هذه المنطقة الخارجة عن سيطرته منذ العام 2012، أعلنت روسيا فتحَ معبر مخيم الوافدين قرب مدينة دوما لخروج من يرغب من المدنيين إلى العاصمة دمشق، فيما أطلقت عليه «المعبر الإنساني للمدنيين المحتجزين كدروع بشرية من قبل الإرهابيين».
أيامٌ مرّت ولم يخرج أحد، مع استمرار تخوّف سكان الغوطة المحاصرة منذ سنوات من ردود فعل انتقامية من مقاتلي ومؤيدي النظام السوري، لتتصاعد وتيرة القصف والهجوم البرّي، وتتقلص مساحة سيطرة مقاتلي المعارضة المسلّحة، وبالتالي الأماكن التي يمكن لأكثر من 350 ألف مدني الاحتماء فيها، مع تقدّم الجيش السوري والميليشيات المقاتلة إلى جانبه، والدمار الكبير الذي خلّفه القصف والغارات الجوية، إلى جانب مئات الضحايا والجرحى.
وما هي إلا أيام حتى بدأت أولى مجموعات المدنيين بالخروج من معبر «إنساني» جديد فُتِحَ من جهة بلدة حمورية، لتنتشر صورٌ تُظهِرُ هَولَ ما يحدث: عشرات آلاف الفارّين من ماكينة الموت التي حصدت مئات الأرواح في الغوطة، إلى ملاذ قد يكون أكثر أمناً في دمشق. نساءٌ ورجالٌ وأطفالٌ ورُضَّع، مصابون وعجائز، يقطعون عدة كيلومترات سيراً على الأقدام وهم يحملون ما تيّسرَ لهم من أمتعة، ويهربون من جحيم مؤكد إلى آخر لا يدركون مداه بعد، لكن احتمال كونه أقل قسوة دفع بهم للهروب إليه، علّه يحمل لهم ولأطفالهم موتاً أبطأ، أو حياة أفضل.
أعداد الخارجين كانت مُفاجِأةً للجميع، إذ وصلت حتى بداية شهر نيسان إلى أكثر من مئة ألف شخص وفق أرقام وزارة الدفاع الروسية، التي تنشرها بشكل يومي عبر منصّات التواصل الاجتماعي. لم يكن أمام النظام والعاملين في المجال الإنساني في دمشق، سوى الاستنفار لتأمين مراكز إيواء تحتوي على الخدمات الضرورية لمدنيي الغوطة الشرقية، وهنا بدأت الحكاية، فالعمل الإنساني في مناطق سيطرة الحكومة السورية لا يسير إلّا حسب مزاجها وأهوائها وأوامرها. هنا، يروي متطوعون ممن يذهبون بشكل شبه يومي إلى مراكز الإيواء كيف يعيش عشرات الآلاف في كلٍّ منها، وكيف تُقدَّمُ لهم أهمّ الخدمات الأساسية. روايات تذكِّرُ في أجزاء منها بمعتقلات النظام السوري، بشكلٍ أو بآخر.
لنتعرّف معاً إلى مركز الإيواء
بدأت مراكز الإيواء بالانتشار مع أولى حركات النزوح الكبيرة التي شهدتها مدنٌ وقرىً سوريّة، تزامناً مع عمليات النظام العسكرية فيها. وفي دمشق، كان منتصف العام 2012 بداية ظهور مراكز الإيواء التي تأسست في العديد من الأحياء والضواحي، وبشكل أساسي في المدارس، لاستيعاب آلاف النازحين من الريف الدمشقي، وأيضاً من مدن سوريّة أخرى. قُدِّمَت للوافدين العديد من الخدمات الإغاثية والاجتماعية، وكانت لهم في معظم الأحيان حريّة الخروج والعمل والتنقل، مع القيود ذاتها التي تُفرض على كل يحمل على هويته اسم منطقة معارضة للنظام.
خلال الأعوام التالية، شهدت تلك المراكز في دمشق زيادة أو نقصاناً في أعداد المقيمين فيها حسب حركة العمليات العسكرية في مناطقهم، ليصل هذا العدد في نهاية العام الفائت إلى ما يقارب ستة آلاف نازح، مما دفع بلجنة الإغاثة في دمشق إلى إغلاق بعض المراكز غير الضرورية. في الفترة نفسها، تحدَّثَ ناشطون عن إفراغ بعض المراكز وإجبار المقيمين فيها على العودة إلى منازلهم في المناطق «المحررة» حديثاً، أو الانتقال لمراكز إيواء بعيدة في محيط دمشق، مثل الدوير في ريفها الشرقي، وحرجّلة في ريفها الغربي، وهو المركز الذي خُصِّصَ بشكل أساسي لاستقبال العائلات التي هُجرت في شهر آب العام 2016 من مدينة داريا، فيما يعدُّ أول عملية تهجير قسري في محيط العاصمة.
لكن لمراكز إيواء أهالي الغوطة الشرقية حكايات أخرى.
هل المقارنة ممكنة؟
نُقِلَ جميع الخارجين من معابر الغوطة الشرقية إلى عدة مراكز إيواء في دمشق ومحيطها، أبرزها مراكز حرجّلة والدوير وعدرا وصالة الفيحاء، ويعيش في كل منها عدة آلاف حسب قدرتها على الاستيعاب، فمركز عدرا-الكهرباء استضاف قرابة عشرة آلاف نازح، فيما وصل عدد الوافدين إلى مركز حرجّلة لأكثر من عشرين ألف شخص، وذلك وفق تقديرات سوريّة رسمية.
يُجرَّد الداخلون إلى أي مركز إيواء من بطاقاتهم الشخصية، التي تصبح رهناً بأفرع النظام الأمنية بهدف إجراء عملية التدقيق الأمني، ولعلّ ذلك أول مؤشرات تحوّل تلك الأماكن إلى معسكرات اعتقال كبيرة، ينتظر من بداخلها الإفراج عنهم.
هذا الإفراج يمكن أن يتم بطرق مختلفة: فمن له أقرباء خارج المركز يستطيع الخروج فيما يسمى «استضافة»، وهي عملية تشمل فقط النساء والأطفال والرجال ممن تجاوزوا الثانية والخمسين من عمرهم، وتتطلب تثبيت عنوان منزل الأقرباء وتقديم نسخة عن أوراقهم الثبوتية، وبالطبع التأكد من عدم وجود أي تهمة أمنية تلاحق الخارجين من المركز، وهو ما يتطلب إجراء تسوية وضع ومصالحة للأغلبية. أما من لم يحالفه الحظ بوجود مضيف قادر على إخراجه، فما عليه سوى انتظار قرار الإفراج أو السماح بالعودة إلى الغوطة.
أما الرجال بين الثامنة عشرة والثانية والخمسين، وهو سنّ الالتحاق بالخدمة العسكرية، فما عليهم سوى انتظار «التفييش»، أي التأكد فيما إذا كانوا مطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية. حينها، يجري الحديث عن إعطائهم أوراق تأجيل لمدة ستة أشهر ينبغي عليهم بعدها الالتحاق بتلك الخدمة، وهو ما لم يتأكد بعد بشكل رسمي سوى عن طريق تصريحات متفرّقة.
كثيرون لن يمانعوا ذلك، فما هي الخيارات التي كانت متاحة لهم؟ البقاء في الغوطة أي الموت، أو الرحيل إلى إدلب وهو مصيرٌ مجهولٌ تماماً، خاصة مع الإغلاق شبه التام للحدود مع تركيا، والتكلفة الكبيرة لعمليات التهريب الممكنة، أو البقاء وتأدية الخدمة العسكرية، الذي قد يكون الخيار الأقلّ كلفة والأكثر أماناً في الوقت الحالي، لهم ولعائلاتهم.
عمليات التسوية والتدقيق الأمني تتمّ بشكل يومي، وكذلك معاملات الاستضافة. تُذاع أسماء «المُفرّج عنهم» من مراكز الإيواء عبر مكبرات الصوت، ليهرعوا إلى نقطة معينة قد تعني لهم الانطلاق للحرية، ويعيش الجميع في ترقب ولهفة لسماع أسمائهم، فيما يشبه تَسَارُعَ دقات قلوب المعتقلين كلما اقترب صوت خطوات من باب الزنزانة: ماذا يريد السجان؟ هل سينطق باسم أحدنا؟ تحقيق أم إفراج أم تحويل؟
في السجن يحتاج الخروج للعلاج بشكل إسعافي إلى موافقات عدة، وفي مركز الإيواء أيضاً. في أحد المراكز، سقط شخصٌ مغشياً على الأرض نتيجة نوبة قلبية، واستغرقَ الأمر أكثر من ساعتين للحصول على موافقة أمنية لإخراجه إلى واحدة من مشافي دمشق.
حادثةٌ أخرى رويت عن أمٍ أرادت إخراج طفلتها للعلاج، ولم يُسمح لطفلها ذي العامين بالمغادرة معهما، فهو يحتاج إلى موافقة أمنية. الأم ذهبت مع طفلتها، والطفل بقي وحيداً. المصيبة التي توحّد الأقارب والجيران، وحتى من لا يعرفون بعضهم بعضاً، سمحت لأم أخرى بالاعتناء به ريثما تنتهي الرحلة «الترفيهية» إلى المشفى.
وبعيداً عن الشقّ الأمني، يعيشُ أهالي الغوطة ضمن غرف مسبقة الصنع أو أبنية أو خيام، ويختلف ذلك من مركز لآخر. بالطبع تكتظّ الغرف أو الخيام بالمقيمين فيها، ففي غرف لا تتجاوز مساحتها عشرين متراً مربعاً يقيم أكثر من ثلاثين شخصاً. ما أشبه ذلك بغرف الاعتقال، حيث يضطر المعتقلون في كثيرٍ من الأحيان للنوم وقوفاً أو جلوساً، وفي أحسن الأحوال استلقاءً على الطرف، وهي عملية يطلق عليها مصطلح «تسييف»، بهدف شَغلِ أقلّ مساحة ممكنة.
الوضع الخدمي والإنساني في تلك المراكز هو الأسوأ. يعمل في كل منها عدة منظمات إنسانية على رأسها الهلال الأحمر والصليب الأحمر والأمانة السورية للتنمية التابعة لأسماء الأسد زوجة رأس النظام السوري، إضافة لبعض وكالات الأمم المتحدة وعدد من الجمعيات والمبادرات المحلّية. لكن العشوائية المطلقة، والمقصودة دون شك، هي سمة ذلك العمل وكل محاولات تقديم المساعدة على اختلاف أنواعها.
خلال الأسابيع الأخيرة، سُئِلَت كل عائلة عن بياناتها الشخصية عدة مرات متتالية، فكل منظمة تدخل المركز تُنفِّذُ الإحصاء الذي يناسب قاعدة بياناتها، وأهدافها، وعلى ربّ العائلة أو المسؤول/ة عنها الاكتفاء بالإجابة عن عدد الأفراد وجنسهم وأسمائهم الثلاثية وأعمارهم ومقاساتهم، من ضمن معلومات أخرى. على ماذا سيحصلون في المقابل؟ ربما الملابس أو الملابس الداخلية أو الأحذية البلاستيكية. ليس من الضروري أن تناسب مقاساتهم، ولا يهم إن كان بإمكانهم الاستحمام قبل ارتداء الملابس الجديدة، فمعظم المراكز غير مجهزة بعد بالمياه والحمامات والسخانات الكافية.
«كم هو مقاس حذائك؟ أربعون؟ نعتذر. ليس لدينا إلا أربع وأربعون. شو رأيك تدبر حالك فيه؟».
«لا تعرفين مقاسك؟ خسرتِ كثيراً من وزنكِ في الحصار، ولم تشترِ ثياباً جديدة منذ سنين؟ لا يهمّ. لنقل إن مقاسك أربعين. نعم، أربعون جيد».
المهمّ أن تُوزَّعَ تلك المعونات، وأن يُسَجَّلَ على ورقة صغيرة أو على جهاز لابتوب اسم المستفيد وعدد أفراد عائلته، مع إشارة تفيد بأنه قد حصل على الملابس أو الأحذية. التقاطُ الصور في هذه الحالات مفيدٌ أيضاً لتوثيق عمليات التوزيع، وهي عملية لا يُسمَحُ بها للجميع. يمكن لموظفي الأمانة السورية للتنمية التقاط صور «سيلفي» مع الأطفال، في حين يُمنَعُ موظفو معظم الجمعيات الأخرى من التقاط الصور، تحت طائلة العقوبة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، المشرفة بشكل تام على مراكز الإيواء.
في بعض السجون أيضاً تُوزَّعُ الملابس. في أحد الأفرع الأمنية يمكن للمعتقلين شراء مناشف وأحذية بنقودهم الخاصة. قد لا يحصلون على مقاسهم، فالفرع ليس مكاناً للتسوق، وعندها يختارون المقاس الأقرب. في أفرعٍ أخرى قد تُوزَّعُ بعض الملابس المستعملة، إن حلّ الشتاء وكان هناك بعض المعتقلين القادمين في فصل الصيف. أيضاً لا يهمّ المقاس. المهم التوزيع، إنما دون التقاط الصور.
لعلّ من أبرز الصور التي حفرت في ذاكرة من شاهدوها داخل مراكز الإيواء، امرأةٌ تحاول الحصول على علبة حليب أطفال، وتقول إنها كانت تحصل على واحدة كل خمسة أيام داخل الغوطة، لكنها وبعد مضي خمسة عشر يوماً على وصولها للمركز، لا زالت غير قادرة على تأمين علبة واحدة. أيضاً أطفالٌ يتراكضون خلف سيارة صغيرة متنقلة توزِّعُ المثلجات، ومن يحصل عليها يمتلئ وجهه بآثارها بعد التهامها بلقمة واحدة، والكاميرات تلاحقهم.
امرأةٌ أخرى تصرخ وسط الجموع التي تنتظر التوزيع: «الله يخليلنا بشار الأسد». لا يمكن معرفة دافعها الحقيقي. ربما هي فعلاً تؤيد بشار الأسد، أو ربما تعتقد أن عبارتها هذه ستتيح لها الحصول على مواد إضافية. ربما حذاءٌ بمقاسٍ أكثرَ مُلاءمةً لقدميها.