تقفُ الباصاتُ الآن في شوارع مدينة دوما لتهجير أهلها، ولم تمضِ بعد ثمانٍ وأربعون ساعةً على مجزرة استُخدِمَ فيها السلاح الكيميائي ضد المدنيين، في الأحياء والشوارع ذاتها، إذ تمّ الإعلان البارحة عن الوصول إلى اتفاق لإجلاء المقاتلين ومن يرغب من المدنيين إلى الشمال السوري.
وكانت قوات النظام قد بدأت حملة قصف مركزة على المدينة ظهر يوم الجمعة الفائت، شملت قصفاً بالبراميل المتفجرة وصواريخ الراجمات، وفي اليوم التالي (السبت 7 نيسان) بالتوازي مع استمرار القصف، «سُجِّلَ استهدافُ المدينة مرتين بالسلاح الكيميائي، الأولى كانت في الأحياء الغربية ولم ينجم عنها سوى إصابةٌ واحدةٌ لطفل جرى إسعافه سريعاً، وفي قرابة الساعة السابعة والنصف استهدفَ الطيران الحربي ساحة الشهداء بقذائف محمّلة بغازات سامة تسببت بالمجزرة»، يقول ثائر حجازي مدير مكتب الغوطة في مركز توثيق الانتهاكات في سوريا (VDC) للجمهورية.
الأرقامُ الأولية التي أصدرتها الطواقم الطبية في اليوم الأول شملت أكثر من خمسمئة مصاب، واثنين وأربعين شهيداً من المدنيين بينهم نساء وأطفال، فيما ارتفع هذا الرقم لاحقاً ليبلغ عدد ضحايا المجزرة قرابة المئة وخمسين شهيداً، قُتِلَ معظمهم في الأقبية دون أن تستطيع الكوادر الطبية أو فِرَقُ الدفاع المدني الوصول إليهم نتيجة القصف العنيف المستمر، واستهداف النظام لنقاط الإسعاف المركزية ومشافي المدينة في أوقات متقاربة.
يقول ثائر حجازي للجمهورية: «الكوادر الطبية كانت شبه عاجزة نتيجة القصف المستمر والأعداد الكبيرة للمصابين والضحايا، وخاصةً أن المنطقة المستهدفة (الحيّ بالقرب من جامع النعمان) تعتبر من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في مدينة دوما».
وقد أفادت الجمعية الطبية السورية الأمريكية SAMS في بيان لها عن الحادثة، أنَّ الأعراض شملت حدقةً دبوسية وتباطؤاً في التنفس وضربات القلب، وخروجَ زبدٍ من الأنف والفم. ولا تتوافق هذه الأعراض مع التسمم بغاز الكلور، بل هي أقرب للتعرض لغازات مشابهة للسارين، حسب ما أفاد طبيب من المدينة لمركز توثيق الانتهاكات في سوريا، ضمن تقرير نَشَره عن المجزرة.
وقد وثَّقَ ناشطون وحقوقيون في المدينة المجزرة، صورٌ لأطفال مختنقين في الأقبية، عائلاتٌ بأكملها قضت اختناقاً، فبعد لجوئهم إلى الأقبية تخوفاً من القصف العنيف، قصف طيران النظام حيّهم بالغاز السام. كانت مشاهد الفظائع تلك، مشابهةً للمجزرة التي حدثت في آب 2013.
مساء اليوم التالي للمجزرة (الأحد)، أعلنت اللجنة المدنية المُشاركة في المفاوضات من مدينة دوما، التوصَّل إلى اتفاق بين «جيش الإسلام» وروسيا، يقضي بخروج مقاتلي الأول إلى الشمال السوري مع عائلاتهم ومن يرغب من المدنيين. وأضافت اللجنة المدنية للمفاوضات في مدينة دوما عبر حسابها على تلغرام أن: «من يرغب بالبقاء في دوما فستتم تسوية أوضاعهم مع ضمان عدم الملاحقة وعدم طلب أحد للخدمة الإلزامية أو الاحتياطية لمدة ستة أشهر، كما تضمّن الاتفاق دخول الشرطة العسكرية الروسية كضامن لعدم دخول قوات الجيش والأمن، ويمكن لطلاب الجامعات العودة لجامعاتهم بعد تسوية أوضاعهم».
ويشمل الاتفاق أيضاً إفراج «جيش الإسلام» عن مختطفين لديه منذ سيطرتهم على عدرا العمالية، وقد بدأ تسليمهم عند نقطة معبر مخيم الوافدين صباح اليوم، ونشر تلفزيون النظام السوري لقطات مصورة للعملية.
وعلى الرغم من إعلان الاتفاق، لم يخرج قادة تنظيم «جيش الإسلام» عن صمتهم، الأمر الذي أثار غضب السكان، ففي حين كانت تجري المفاوضات أعلنت مصادر روسية وقنوات تابعة للنظام السوري التوصل للاتفاق عدة مرات، في الوقت الذي كان ينفي فيه قادة التنظيم أي اتفاق نهائي، في ظل تعتيم كبير حول ما يجي عن السكان، وقد خرجت مظاهرة غاضبة لأهالي مدينة دوما البارحة ظهراً حول منزل شرعي «جيش الإسلام» سمير كعكة، طالبت بإعلان ما يجري للناس وهتفت «دوما حرة حرة… كعكة يطلع برا».
وأفادت صحيفة عنب بلدي في تقرير لها نُشِرَ مساء أمس، أن تركيا رفضت استقبال مقاتلي «جيش الإسلام» في مدينة جرابلس، وسيكون البديل هو التوجه نحو جبل الزاوية في إدلب، فيما سيتم استقبال المهجرين من المدنيين في جرابلس وريف حلب الشمالي.
ومن المرجح أن تخرج أعداد كبيرة من المدنيين نحو الشمال، وخاصة بعد تجربة مهجري الغوطة السابقة في مناطق النظام، والتي شملت حالات اعتقال بالإضافة إلى احتجاز العائلات في «مراكز إيواء»، في ظروف سيئة للغاية.
ردة الفعل الدولية على المجزرة، كانت متفاوتة، إلا أن الضربات الجوية التي تعرّضَ لها مطار T4 في ريف حمص ليل أمس، تشيرُ إلى أن هامش الردّ سيكون ربما في حدود المرة الماضية، حينما استهدفت صواريخ توماهوك أمريكية مطار الشعيرات، الذي انطلقت منه الطائرة التي قصفت مدينة خان شيخون بغاز السارين العام الماضي.
حتى اللحظة نفت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل توجيه هذه الضربة، فيما اتهمت روسيا إسرائيل بتوجيهها، ويبدو أن الإدارة الأمريكية اختارت أقل الخيارات إثارةً للصدام مع روسيا للرد على المجزرة.
لن توقِفَ صواريخ الجو-أرض تهجير مدنيي دوما نحو الشمال، مئة ألف مدني ينتظرون اليوم، ينشرون صور الباصات التي أتت لتهجّرهم من بيوتهم وحاراتهم. تلك الصور ليست أقلّ فظاعةً، لكن الأكثر قبحاً هو أن يستمر كل شيء كما هو بعد مجزرة دوما.