كثَّفَ داعش منذ منتصف شهر شباط الماضي هجماته على مواقع نظام الأسد وحلفائه في محافظة دير الزور، انطلاقاً من جيوبه المتبقية في البادية السورية جنوب دير الزور، في مناطق T2 وحميمة وصولاً إلى الحدود العراقية السورية، وكان أبرزها أوائل شهر آذار، عندما هاجمَ أطراف الميادين والعشارة ملحقاً خسائر كبيرة في صفوف قوات النظام والمليشيات المساندة له، وبعدها أيضاً الهجوم على قرية صبيخان في الأسبوع الثالث من آذار أيضاً.
كذلك شهدت أطراف مدينة البوكمال عدة هجمات خلال الشهر الفائت، تسببت بمقتل العشرات، من بينهم ضباط وقادة في مليشيا زينبيون الأفغانية والمليشيات العراقية التي تقاتل هناك، وفي صفوف ما يسمى قوات الدفاع الوطني.
وفي بداية شهر نيسان الجاري، نفّذَ التنظيم عدة هجمات استهدفت قوات النظام في البادية السورية، أدت إلى سيطرته على عدة مواقع وقطع طريق دمشق بغداد الدولي. وتدلُّ مجمل هذه الهجمات على أن التنظيم، وبعد سلسلة الخسائر الفادحة التي لحقت به، قد بدأ يستعيد عافيته ويُغيّرُ من تكتيكه القتالي، ليعتمد على الكمائن والإغارات على حواجز ومناطق سيطرة قوات النظام والمليشيات، مستخدماً الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وملحقاً خسائر كبيرة في صفوفها.
يعود السبب الرئيس في هذه الصحوة واستعادة الأنفاس وترتيب الصفوف، إلى التوقف شبه التام للعمليات العسكرية ضده شمال نهر الفرات، والتي كانت تقوم بها قوات سوريا الديموقراطية بدعم من التحالف الدولي. ويعود هذا التوقف لأسباب عديدة، لعلّ من أبرزها انسحابُ عدد كبير من عناصر قسد وتوجههم الى عفرين بعد انطلاق المعركة التركية هناك، واستخدام قسد لهذا التوقف كورقة ضغط على الأمريكيين من أجل الاستمرار في الحصول على دعمهم، كونها شريكٌ لهم في قتال داعش، الذي لم يتم القضاء عليه تماماً بعد.
على صعيد آخر، قد لا يكون التحالف راغباً في حسم المعركة مع داعش الآن، بانتظار الوصول إلى تسوية نهائية مع روسيا حول تقاسم النفوذ، وبهدف الاستفادة من عناصر التنظيم كأداة لاستنزاف المليشيات الإيرانية والعراقية المساندة للنظام، من خلال فسح المجال لهم للانتقال إلى الجهة المقابلة من نهر الفرات.
بالإضافة إلى جيوب التنظيم في البادية السورية جنوب الفرات، يسيطرُ تنظيمُ داعش شمال الفرات على مساحة تبلغ نحو 650 كم²، من أطراف قرية البحرة حتى حدود مدينة البوكمال الشمالية، على مسافةٍ يبلغ طولها 50 كم، مروراً بمدن هجين والشعفة والسوسة. وهذه المنطقة أصبحت قاعدة انطلاق لعناصره بعد أن خفَّفَ التحالف من استهدافه لهم فيها، ليتوجّهوا بهجماتهم إلى جنوب الفرات، عابرين النهر لاستهداف أطراف مدينة البوكمال، خاصة حي الكتف على حدود قرية الباغوز، وكذلك عبر طرفي الحدود العراقية السورية، وصولاً إلى أطراف منطقة تواجد جيش مغاوير الثورة المدعوم من التحالف في منطقة التنف ومحيطها، والذي تمّ تجميدُ مهماته حالياً، ويكتفي عناصره بإبعاد خطر عناصر داعش عنهم، بانتظار ما ستؤول إليه الاتفاقات الدولية والإقليمية.
يستخدمُ التنظيم هذه المناطق كلّها كنقاط انطلاق لاستهداف مواقع النظام في المنطقة الممتدة شرق مدينة دير الزور على الضفة الجنوبية للفرات، من مدينة موحسن، مروراً بمدن الميادين والعشارة، وصولاً إلى البوكمال، في وقتٍ لا تزال فيه سيطرة نظام الأسد على تلك المناطق هشّةً، فهو يسيطر على أراضٍ جرداء مُدمّرة، وبيوتٍ تمّ الاستيلاء عليها من قبل عناصره، في حين لم يرجع سوى عدد قليل من الأهالي المدنيين، أغلبهم من عائلات كانت قد نزحت إلى مناطق سيطرة النظام في دمشق وحماة والساحل وأحياء الجورة وهرابش في مدينة دير الزور خلال سنوات سيطرة فصائل الثورة ثم داعش، وعادت بعد سيطرة قوات النظام. بالإضافة إلى بعض العائلات التي قامت بمصالحات مع قوات النظام بوساطة وجهاء محليين مؤيدين للنظام، لم تنفع ضماناتهم التي أَخلَّت قواتُ النظام بها، لتسوق أبناء هذه العائلات إلى المناطق الساخنة كالغوطة الشرقية، بعد أن كانت قد وعدتهم بالبقاء في مناطقهم وحمايتها.
هذه السيطرة الهشّة، تدعمُها مليشياتٌ إيرانيةٌ تعمل على إبقاء المنطقة مشتعلة وخلط الأوراق فيها، من خلال دفع النظام لاستهداف مناطق سيطرة قسد شمال نهر الفرات، خاصة في قرى خشام والجديد والحسينية والصالحية، القريبة من حقول النفط والغاز، خاصة كونيكو والطابيّة والعمر. ولا شكَّ أن من مصلحة الطرف الإيراني الإبقاءُ على التوتر الأمريكي الروسي، لإدراكه أن أي تقارب في المواقف بين أمريكا وروسيا بخصوص دير الزور، قد يكون على حساب الوجود الإيراني فيها.
التحالف الدولي الداعم لقسد، والذي يسيطر على حقول الغاز والنفط بهدف الاستفادة منها وحرمان نظام الاسد وشركائه من هذه الاستفادة، كان بالمرصاد لتلك الهجمات، وكانت أبرزُ محطّات المواجهة قصفُ الطائرات الأمريكية لأماكن تجمعات المليشيات الإيرانية وميليشيا الدفاع الوطني وشركة فاغنر الروسية الأمنية، في قرية الطابية جنوب نهر الفرات، وفي مناطق موحسن وسعلو والزباري، رداً على محاولة تلك المليشيات العبور لأماكن سيطرة قسد في محيط حقل كونيكو للغاز، موقِعةً خسائر كبيرة أودت بحياة العشرات من عناصرها.
يرجع السبب الرئيسي في هشاشة الوضع في دير الزور، إلى عدم الوصول لاتفاق حقيقي بين القوى الدولية والإقليمية بخصوصها، بالإضافة إلى الرفض الشعبي الملحوظ للقوى المسيطرة هناك، سواء قوات سوريا الديموقراطية أو النظام وحلفاؤه، وهذا يعني أنه ربما يكون هناك دورٌ محتملٌ لفصائل الجيش الحر الموجودة في البادية السورية، خاصة مغاوير الثورة، في الدخول إلى مناطق سيطرة النظام في حال اتخذت واشنطن قراراً بذلك.
تدعمُ روسيا حتى اللحظة بقاء قوات النظام في ريف دير الزور، لكن دورها العسكري يتراجع فيه تاركةً الأمر لإيران وميليشياتها، التي ترى في بقائها هناك ضماناً لتحقيق مشروعها في فتح طريق آمنٍ ومستقرٍّ يربط طهران ببغداد ثم دمشق، وهو الأمر الذي لم يتحققّ حتى اللحظة، ويمكن أن يفضي أي تحركٍ أميركيٍ حازمٍ لمنعه إلى اشتعال الحرب مجدداً هناك.