هل ستنفِّذُ الولايات المتحدة الأميركية تهديدات ترمب بتوجيه ضربة قاسيّة لنظام الأسد؟ أم أن الأمر سينتهي إلى مهزلة مُهينة كتلك التي حصلت عند توقيع الصفقة الكيماوية المشؤومة عام 2013؟ ليس هذا واضحاً بعد، لكن بالإمكان طرح سؤال إضافي: ومن قال إن تنفيذ الضربة القاسيّة لن يقود إلى مهزلة أيضاً؟
يبدو سلوك القوى العظمى والإقليمية كلّه أشبه بمهازل متتالية خلال السنوات الأخيرة، تعالوا نتذكر معاً بعضها: «عاصفة» الحزم السعودية وما تلاها من فشلٍ مخزٍ وجرائم حرب متبادلة؛ النزاع السعودي القطري الذي بدا في بعض محطاته مضحكاً بشكلٍ يبعثُ على الأسى؛ «التحالف» التركي الإيراني الروسي بخصوص الملّف السوري؛ مؤتمر سوتشي؛ أيُّ جلسة من جلسات مجلس الأمن بخصوص الملّف السوري… إلخ.
أما بخصوص الحديث عن الضربة الأميركية المحتملة، فإن الأمر يبدو برمّته مهزلة أيضاً حتى الآن، أياً كان ما ستؤول إليه الأحداث. جرت حرب إبادة وتهجير موصوفة على الهواء مباشرةً في الغوطة الشرقية، لكن الاحتجاج الدولي لم يتجاوز في أحسن أحواله الإدانات الغاضبة، وكان مترافقاً مع أجواء دوليّة توحي بأن المطلوب من الأسد وحلفائه هو إنجاز المهمة بسرعة، كي ننتهي من كلّ هذا ونبدأ إجراءات تثبيت الأسد على كرسيّه. وتصريحُ ولي العهد السعودي خير دليلٍ على هذا، عندما قال إن الأسد باقٍ، وينبغي أن يكون قوياً كي لا يصير أُلعوبةً بيد إيران.
يرتكبُ الأسد جريمته الكيماوية الجديدة في دوما، فتنقلبُ الأمور، وتبدأ التصريحات النارية المتبادلة وجلسات مجلس الأمن البهلوانية، ويعلن ترمب أن بلاده بصدد توجيه ضربة عسكرية، فيّغيرُ كثيرون أقوالهم. يهتزّ التعاون التركي الروسي في الملّف السوري، فيتبادل لافروف وأردوغان تصريحات متوترة حول مصير عفرين، ووليُ العهد السعودي نفسُهُ يقول إن بلاده مستعدة للمشاركة في قصف النظام السوري.
يعلن ترمب أكثر من مرّة، عبر تويتر، أن الصواريخ على وشك الانطلاق إلى أهدافها، ويرفع حدّة تصريحاته تجاه روسيا، ويبدأ النظام السوري بتغيير أماكن تمركز قواته، ثم يقول البيت الأبيض إن القرار بتنفيذ الضربة لم يُتخّذ بعد، وإن الضربة التي تحدّثَ عنها ترمب هي إحدى الخيارات بشأن سوريا.
لا شكَّ إذن أن مفاوضاتٍ ما تجري تحت الطاولات، وبعيداً عن تويتر وفيسبوك، وهي تتعلقُ بأشياء لا يعلنها أحد، وترسم ملامح مستقبل ملايين البشر في بلادنا المُستباحة، دون أن يعرف هؤلاء الملايين ما الذي ينتظرهم غير الموت الذي يبدو مفتوحاً بلا أفق.
تشير المعطيات والطبيعة «الكلبية» الصرفة والوقحة لحكام العالم والإقليم، إلى أن الضربة وأحاديثها وتغريداتها تتعلق بصراع النفوذ الأميركي الروسي في المنطقة والعالم، وفي ظلّه وهوامشه، صراعُ النفوذ الإقليمي الإسرائيلي الإيراني التركي السعوي القطري بتشعباته وتعقيداته وتفاهاته. يعني هذا طبعاً أن الضربة في حال حدوثها لن تعود بفائدة على السوريين إلّا بالصدفة، وهذا الأمل بالضبط هو ما يقود مئات آلاف السوريين المناهضين للنظام إلى انتظارها على أحرَّ من الجمر.
يحدثُ أن يستمرَّ كثيرون بترداد العبارة المريحة السهلة التي مفادها: «هل تعتقدون أن أميركا مهتمة بحقوق الإنسان وآلام الضحايا، أنتم حمقى إذن، لأن أميركا لا تتصرف إلّا من أجل مصالحها»، والقصدُ من هذه العبارة انتقادُ الفرحين باحتمال تنفيذ الجيش الأميركي وعيدَ ترمب. لكن هذه العبارة فارغةٌ من أي معنى، لأن الطفل الصغير في سوريا بات يعرف أن أميركا، وقادة هذا العالم الذي يضيقُ في وجوهنا يوماً بعد يوم، لا يحفلون بآلام السوريين، لكن الضربات إذا وقعت ستستهدف جزءً من القوات التي تذبح السوريين المناهضين للأسد، وربما تغيّرُ الأوضاع القائمة على نحوٍ يلجم الوحوش الهائجة في سوريا. هذا هو الأمل الوحيد الباقي، ولا شكّ أن من لا ينتظر شيئاً سوى الإبادة والتهجير والإذلال، سيفرحُ بأي أمرٍ قد يُغيِّرُ المعادلات القائمة.
قد لا تقعُ الضربة أصلاً، وتنتهي الأمور إلى تفاهمٍ روسي أميركي على أشياء لا يعلن حقيقتها أحد، ثم نكتشفها من خلال نتائجها يوماً بعد يوم. وقد تكون محدودةً بحيث تحفظ ماء وجه أميركا وحلفائها فقط، وقد تكون أوسَع وأكثر تأثيراً بحيث تُفضي إلى قصمِ ظهر إيران وما تبقى من جيش النظام، لتصبح الساحة كلها رهناً بتفاهمات روسيا وأميركا وحدهما. كلُّ هذا لا يزال ممكناً، لكن ينبغي أن نتذكَّرَ أن أي ضربة عسكرية لا تفضي إلى إجبار بشار الأسد على القبول بفكرة الانتقال السياسي، ستكون قليلة الفائدة على صعيد وقف المقتلة السورية، وربما معدومة الفائدة.
أيّاً يكن الأمر، لا شكَّ أن ما جرى خلال الأيام الأخيرة فَتَحَ نافذةً صغيرةً من الأمل أمام أولئك السوريين الذين يبدو أن ماكينة الإبادة متوجهةٌ دون أي رادعٍ إلى مدنهم وبلداتهم بالتتالي في قصة موتٍ معلنٍ رهيبة، وأظهرَ حجم هشاشة نظام بشار الأسد وسخافة ما يدعيه من قوّة، وهو يؤكّدُ أنَّ ما مكّنَ هذا القاتل المتسلسل المنفلت من ارتكاب جرائمه، هو السياسات الدوليّة التي بلغت حدّاً من التفاهة، يبشّرُ بانهيار العالم فوق رؤوسنا.