يجري التفكير في المنفى عادة بأنه العيش في مكان بعيد، وتعذّر العودة إلى «الوطن». الوطن هو مكاننا أو أمكنتنا المألوفة التي ولدنا فيها، أو اخترناها، وعشنا فيها معظم حياتنا. قد نعيش بعيداً، في «المنفى»، بسبب القصف والتضييق على حياة الناس في منطقة تتعرض لهجمات مسلحة متكررة مثلما تكرر حدوثه في سورية منذ عام 2012، أو بفعل اقتلاع وتهجير قسري على ما تكرر حدوثه في سورية منذ عام 2014، أو تجنباً لمخاطر الاعتقال أو الخطف أو القتل، وفق مثال سوري عريق، ومتكرر الحدوث بدوره. في كل حال المنفى ضربٌ من سجن مقلوب، نُحبَس فيه عن العودة إلى الوطن. السجن، بالمقابل هو حبس في «وطن» داخلي صغير. لكن ما يجمع بين الحبسين، الحبس عن والحبس في، هو تلازمهما كما نعرف من تاريخ سورية المعاصر. أزمنة الاعتقال هي ذاتها أزمنة المنفى، ومزيد من الاعتقال عنى على الدوام مزيداً من المنفى. المنفي الذي يحاول العودة إلى البلد يجازف بأن يُقَاد فوراً إلى السجن، بعد التحقيق والتعذيب (ما لم تكن هناك ترتيبات خاصة بينه وبين أجهزة النظام، يتخلى فيها عن حقوقه السياسية).

الأبد

من هو من جيلي خَبِرَ مباشرة موجتيّ اعتقال ونفي، مطلع ثمانينات القرن العشرين في سنوات حكم حافظ الأسد، ثم بعد الثورة السورية في عام 2011 في زمن وريثه بشار، أي على يد النظام نفسه، أو ما أسميه الدولة السلطانية المحدثة، القائمة منذ نحو نصف قرن، والمتطلعة صراحة إلى «الأبد».

ما هو الأبد؟ جوهرياً نفي التاريخ، نفي التغيّر الاجتماعي والسياسي، وفرض حاضر دائم لا يتغير. يجري استخدام الدولة كقوة مسلحة للحرب على المستقبل، لمنعه من القدوم. هناك زمن، هناك تعاقبٌ لليل والنهار، وللشهور والسنوات، والعقود والأجيال، هناك ولادة وموت. لكن تحذف أولاً بأول كل كوامن التغير السياسي في المجتمع، ويقمع، بل يستأصل، الأفراد والمجموعات المنظمة الذين يعملون من أجل التغيير العام، ويفكرون بأنفسهم كوكلاء تغيير. الموت نفسه لا يستطيع تحدي الأبد. يموت الأب، فيرثه الابن، فتدوم السلالة، ويسود الأبد. وفي الأبد، السياسة ممتنعة وممنوعة في آن، ومثلها الاجتماع المستقلّ، والفرد المستقلّ. المسموح هو عيشٌ يستبعد التغيير، ويقبل بوجود فوارق مستقرة في المرتبة بين السلالة والمحكومين، وكذلك ضمن المحكومين أنفسهم. مجتمع الأبد مجتمع مراتب قارّة، غير متغيرة. كرّ الأزمان دون تغيير هو التكرار، شكل ظهور الأبد. هناك تكرارات كثيرة في الأبد الأسدي، أبرزها اثنان: المهرجان والمذبحة، الاحتفال بعظمة القائد وذبح العصاة.

المنفى الأهلي

منفيون من التاريخ، ماذا يفعل المحكومون المنكشفون؟ دون سياسة وتنظيم وفكر واختلاط، ودون حرية، تلجأ الكثرة إلى تضامنات أقدم مثل العائلة الممتدة والعشيرة والطائفة التي تقوم في مثل هذه الظروف بدور سياسي غير مباشر. لا يقتصر الأمر على أنها توفر للمحكومين الذين لا يستطيعون تغيير شروط حياتهم العامة قدراً من الحماية، وتشكّلُ بيئات للثقة والتعاضد، وتوفّر أرضاً ثابتة صلبة تحدُّ من انكشافهم المستمر الذي يقتضيه دوام الأبد؛ إنها فوق ذلك تقوم بدور وسيط بين مركز الحكم الأبدي وبين منسوبيها هي، وهو ما يعني استبطانها منطق الأبد واستبعاد الحرية. هذه الأطر الاجتماعية «أبدية»، بمعنى أنها قديمة، «طبيعية»، قائمة على «العادات والتقاليد»، على الأعياد والأعراف، أي على التكرار، لكن بخاصة بمعنى أنها ملاجئ من النفي من التاريخ: مرشحة للفوز بمعركة البقاء في بيئات سياسية قاسية خلافاً لأشكال انتظام أحدَث، مثل المنظمات السياسية أو الاجتماعية.

غير أن تلك الروابط التضامنية ليست أبدية بحال إن عنينا بذلك أنها لا تتغير، أنها صامدة في وجه التغيّر أو مضادة له. العكس هو الصحيح، منع التغيّر هو ما ينفخ الروح في هذه الروابط وما يُلجئ الأفراد والمجموعات إليها لكونها أقدر على حماية الأفراد من عسف سلطة الأبد المحدث التي تقتضي انكشافاً دائماً للمحكومين. يطوّرُ المقيمون في هذه الأطر استعدادات مقاومة للتغيّر بفعل اعتياد الإقامة في هذه الملاجئ الحميمية الدافئة، فتحميهم من الحرية والتغيّر فوق حمايتهم من العسف. من وجهة نظر التاريخ كتغيّر وسياسة، والفاعل التاريخي كتنظيم وتفكير مستقل ونشاط غير تكراري، التضامنات الوراثية هي معتزلات تاريخية، من يتمسكون بها في أزمنة التغيّر هم الأشد محافظة وانعزالاً بيننا فحسب، بينما ينحاز أكثرنا إلى فضاءات مفتوحة توفر طيفاً أوسع من الخيارات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. لكنها تصير فضاءات جمعية بديلة في شروط النفي من التاريخ والحرمان من التغيّر. نعيش في أماكن أليفة محمية بقدر ما أننا محاصرون بالأبد، منفيون من السياسة والتغيّر والتاريخ. لا يدرك المقيمون في هذه الروابط «الطبيعية»، أنهم فيها لاجئون سياسيون. تُكيِّفهم هذ الروابط للأبد الحاكم، فتُطبِّعه، وتحول دون الوعي به.

منفى الجهاد

يمكن أن نلوذ بجغرافيا سياسية متخيلة، مثلما يفعل الإسلاميون. نذهب إلى خارج تاريخٍ نُفينا منه، نقيم في دار الإسلام المتخيّلة، سراً هنا أو علانية في البعيد هناك، ومن هذه الدار التي لا توافق جغرافيتها الخيالية تقطيعات المجال الإسلامي المعاصرة قد نقوم بغارات على ممالك الأبد المحدث. هذا إسلام الإسلاميين، والجهاديين منها بخاصة، هو منفى أبدي يقيم فيه منفيون من التاريخ، وباسم طوبى ماضوية، متخيلة هي ذاتها. كان يمكن لعالم الإسلاميين أن يكون ما كانه فعلاً في أوقات التغيّر التاريخي في بلداننا، أعني عالماً رجعياً منفكئاً على ذاته، لا يغيّر نفسه ولا شيئاً بنفسه، ويخسر جاذبيته كل يوم. لكن مع حلول الأبد في سبعينات القرن العشرين في مجال عربي وإسلامي واسع، استرجعَ هذه العالم قدراً من الجاذبية في أعين كثيرة. تنشَّطَ عالم الإسلام الإبدي بفعل الأبد السياسي، وصار ضرباً من وطن بديل، عالم للمبادرة والصراع، لملحمة الجهاد.

أتكلم على أبد هنا لأن الاعتراض على الأبد السياسي يُضمِر مثالاً أبدياً هو ذاته، ضرباً من نهاية التاريخ. لكن الأمر يتعلق هنا بأبدية مقاتلة، وبقتال أبدي، ماضٍ إلى قيام الساعة. يذكّرُ جهادُ الإسلاميين المستمر الذي «لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» بالثورة المستمرة التي زكاها تروتسكي. يبدو التصوّران نقيضان للأبد، لكنهما في الواقع نقيضان للتاريخ بقدر أكبر. حين تكون الثورة مستمرة تصير هي الغاية، ولا يعود لها من مضمون غير نفسها وتكرار نفسها. وحين يمضي الجهاد إلى نهاية كل النهايات، فإنه يصير غاية نفسه بدوره. ونهاية نفسه.

أبدية الإسلاميين المقاتلة يقود إليها اليوم النفي من التاريخ والحبس في ديمومة لا تغيُّرَ فيها. ليست الحميمية والألفة هي ما يشدّ إلى الجهاد، بل السرية والمغامرة والبطولة. مشروع الجهاديين نخبوي غير شعبي، ومتناقض: يتيح وقتياً امتلاك السياسة، لكن سياسته النخبوية تتلهف إلى إقامة نظام للسمع والطاعة تخضع فيه الكثرة للقلة، والذين لا يعلمون للذين يعلمون، والعامة للخاصّة. وبفعل وفرة طالبي الطاعة والتسيّد ورفعة الشأن، تتحارب أنظمة الطاعة الإسلامية وتتناحر بقدر ما هي تحارب غيرها، على ما يستدل من تجارب الجهاديين في أفغانستان والجزائر وسورية.

على أن أسوأ معالجة للمنفى الإسلامي هي الأبد المحدث، أي نفي التاريخ، الذي تنشطت الإسلامية بفعله فخرجت من رجعية خاملة لتصير قوة صراع وعمل، رجعية مقاتلة، بل فاشية. ما يمكن أن يكون معالجة مثمرة هو السياسة والصراع السياسي، التاريخ كتغيّر، وفي إطاره يمكن أن يرجع الإسلاميون قوة أو قوى رجعية منكفئة، تخسر المعركة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية إن انخرطت فيها، أو تخسرها بالانعزال والنخبوية. وتنحاز قطاعات متسعة من الجمهور لمصلحة حياة متغيرة واعدة. نعرف هذا من تاريخنا السوري المعاصر. منذ حلَّ الأبد في سورية في سبعينات القرن العشرين لم يبقَ ما هو تقدمي في سورية الأسد، وصار حافظ الأسد شخصياً هو المشروع العام الوحيد، وبعده سلالته. الأبدُ مشروعٌ لنفي مستمر، ماضٍ إلى يوم القيامة.

نفي الأبد

نفي التاريخ على يد الأبد لا يدوم من دون حرب مستمرة على التغيّر، كما تقدم. ومنذ الثورة السورية، وكانت أكبر جهد سوري خلال أربعين سنة أسدية للخروج من الأبد إلى التاريخ، فقدَ الأبد القدرة على إعادة إنتاج نفسه، واندرج في أبديات أخرى، إيرانية شيعية تستند إلى لاهوت انتظار المهدي، وروسية استبدادية تروج لنسختها الخاصة من التكرار والأبد. السوريون لا يزالون منفيين سياسياً (بمن فيهم الموالون للنظام، الذين راكموا استقالة أخلاقية فوق نفيهم السياسي)، لكن نظام النفي صار منفياً هو ذاته، فاقداً للسيادة، ولا يتحكم حتى بفرص بقائه كطرف سياسي. منفاه ليس منفانا، هذا أكيد، لكنه لم يعد حراً، ولا صانعاً للسياسة. دولة الأسديين صارت في منفى من التاريخ هي ذاتها، ليس بالضرورة لمصلحة أبد آخر، بل عبر فقدان الاستقلال والاندراج في تواريخ أخرى. الحدث التاريخي في سورية اليوم هو وقوع الأبد الأسدي الذي عامل محكوميه كغرباء في كنف أبديّتين غريبتين يتعذّرُ اليوم تقدير تفاعلاتهما ونزاعاتهما، وما قد تتركه الواحدة منهما أو الأخرى من هوامش للعب الأسديين على حبله أو الحبلين. نكون في موقع أفضل للتفكير في التغيّر والتاريخ، ومقاومة منفى الأبد، إن تنبهنا إلى هذه الديناميكيات الجديدة بدل الاستمرار في خوض الحرب السابقة أو الأسبق. الأرجح أن الأسدية تنزل من الأبد إلى المؤقت دون المرور بالتاريخ، والسياسة.

لكن معظم طيف المعارضة الموروث، الإسلامي وغير الإسلامي، يخبر منفى التاريخ بدوره. وهنا أيضاً ليس لمصلحة أبدٍ ما بالضرورة، بل بفعل فقدان الاستقلال والتبعية لفاعلين تاريخيين آخرين، أبرزهم اليوم تركيا.

على هذا النحو يبدو أن الأبد يُنفى، والتاريخ يبقى منفياً أو يتجدد نفيه.

نهاية المنفى

هل من السوريين من يقاومون الأبد دون أن يركنوا إلى منفى أهلي أو إسلامي، أو إلى قوة أجنبية، أي واحدٍ من ثلاثة أشكال لنفي الذات؟ ليس كقوى منظمة، ليس كسياسة وفعل مفكر أو فكر فاعل. هذا ليس فقط بسبب حرمان مديد من السياسة، وعدم القدرة غالباً على إعادة إنتاج ذاتنا، اقتصادياً وفكرياً، ولكن كذلك بفعل حرمان من الأرض إن جاز التعبير، من مكان لنا نختبر فيه حريتنا أو نتدرب عليها ونتمرّس بمصاعبها. ثم بفعل افتقار العالم كله إلى رؤية أو مشروع أو فكرة موجهة، وحلولِ الإدارةِ محلَّ السياسة، والأزمةِ وتقطيعِ الوقت في مواجهتها محلَّ التغيّر العالمي. وبينما يصير العالم أكثر فأكثر وحدة تحليل يفوتنا الكثير إن لم ننطلق منها، ووحدة عمل تتعثر جهودنا إن لم نأخذ ترابط مشكلاتنا وتالياً صراعاتنا مع مشكلات وصراعات غيرنا فيها، نعلم أن التقدم في أزمة منذ جيلين، والديموقراطية في أزمة منذ جيل، والأزمة في ازدهار وتوسع منذ عقد، وهناك افتتان كبير بها، وابتهاج نرجسي بالدوران حولها يشبه النشوة الصوفية. هذا الافتتان سيء ومفتقر إلى الجديّة. وما قد يسعف في الخروج من الأزمة والدوران الذي هو شكل آخر من الأبدية، هو العالم، التفكير في العالم كوطن، كوحدة تحليل وعمل.

للتفكير في العالم كوحدة تحليل وعمل ميزةٌ أساسية: تطابقُ الوطن والمنفى. الوطن هو العالم الذي هو المنفى أيضاً. هذا يحدد اتجاهاً لاستئناف السياسة والتاريخ: تساوياً بين المنفيّيّن، كلنا، أي بين المواطنين، كلنا ذلك، والعمل من أجل عدالة أكبر وحرية أكبر للبشر في عالم/ منفى مشترك، بما يجنِّبُ الكوكب حروباً أهلية عدمية، لن توفّرَ في النهاية أحداً، وإن كان الأفقر والأضعف أول ضحاياها مثل كل الحروب. هذا الجهد ذاته هو ما من شأنه أن يكون مساهمة في إلغاء الأبد، والنفي من التاريخ. المحافِظُ اليومَ هو من يدافع عن الأبد، في صورة منع التغيير، أو (وهذا هو الشيء نفسه) في صورة مطابقة لا نهاية لها مع الذات: ألمانيا هي ألمانيا، أميركا هي أميركا التي يجب أن تستعيد عظمتها، سورية هي سورية الأسد «إلى الأبد»، إسرائيل وُجِدت لتبقى، الإسلام صالح لكل زمان ومكان. التحرريُّ هو من يصارع ضد الأبديات والنفي من التاريخ.

نحن السوريون الذين نعيش في واحد من منفيين، محبوسين خارج بلدنا أو منفيين من التاريخ داخله، يمكن أن نكون لهذا بالذات في وضع مناسب لإعادة التفكير في السياسة والتاريخ والتقدّم. نقطة الانطلاق يمكن أن تكون «الاستلجاء»، العمل على أن تكون ملاجئنا أوطاناً، وأن نضطلع بشرطنا العالمي: بلا وطن في العالم، وبلا منفى لأننا في العالم.