اتفقت فصائل جبهة تحرير سوريا وهيئة تحرير الشام وصقور الشام يوم الثلاثاء 24 نيسان 2018 على وقف دائم وكامل لإطلاق النار، وإنهاء القتال المستمرّ بينها في مناطق إدلب وريف حلب الغربي منذ ما يزيد على الشهرين. وتضمّنَ الاتفاق ستة بنود شملت وقفاً «دائماً وكاملاً للاقتتال» منذ تاريخ الاتفاق ونشره، ووقف الاعتقالات بين الطرفين بشكل كامل، وفتح الطرقات ورفع الحواجز، وإيقاف «التحريش الإعلامي في الحسابات الرسمية»، وإطلاق سراح المعتقلين من الطرفين وفق جدول زمني، وتشكيل لجنة من قبل الطرفين ولجنة الوساطة (المكونة من ممثلين عن فيلق الشام وجيش الأحرار) لمتابعة تنفيذ الاتفاق، والبدء بمشاورات موسعة ومستمرّة للوصول إلى حلّ شامل على الصُعُد «العسكري والسياسي والإداري والقضائي».
أغلب مضامين الاتفاق ليست جديدة، فهي سبق أن اندرجت في اتفاقيات وقف إطلاق نار سابقة بين هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل، لكن اللافت فيها هو الحديث عن السعي إلى حلّ شامل على المستويات السياسية والإدارية، وتوقيع قائدي الجبهة والهيئة، حسن صوفان والجولاني، وهو ما يعني أن الاتفاق هذه المرة جرى على أعلى المستويات، لتبقى الأسئلة مفتوحةً حول دوافع وأسباب المعارك التي توقفت بموجب هذا الاتفاق، وأثرها على الواقع العسكري والسياسي في الشمال السوري.
تحرير الشام «باقية وتتمدد»
شهدت الأعوام من 2014 وحتى 2016 سيطرة جبهة النصرة على معظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محافظة إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي، وذلك من خلال قضائها تباعاً على أكبر فصائل الجيش الحر في المنطقة، والاستيلاء على سلاحها. وفي أواسط 2016 غيرت النصرة اسمها إلى جبهة فتح الشام، وأعلنت فكّ ارتباطها مع القاعدة، لكنها لم تغيّر سلوكها الساعي إلى السيطرة وابتلاع الفصائل الأخرى وتفكيكها.
في 28 كانون الثاني 2017 تم تشكيل هيئة تحرير الشام من اتحاد فتح الشام مع عدة فصائل أكبرها حركة نور الدين الزنكي، التي تنتشر بشكل أساسي في ريف حلب الغربي ويبلغ تعداد مقاتليها نحو سبعة آلاف. وفي ذلك الوقت، كان الفصيل الوحيد الذي يشكل خطراً على هيمنة هيئة تحرير الشام هو حركة أحرار الشام، الفصيل الكبير المكون من نحو 20 ألف مقاتل، معظمهم في إدلب ومحيطها. وقد أعلن التشكيلُ الجديد، هيئة تحرير الشام، رفضه لمفاوضات أستانة، وعزمه محاسبة الفصائل التي شاركت فيها. وعلى الرغم من عدم مشاركة حركة أحرار الشام في تلك المفاوضات، إلّا أن الهيئة تمكنت تقريباً من القضاء على الحركة من الناحية العسكرية، فتفككت الأخيرة وتراجعت مساحة سيطرتها لتقتصر على بعض الجيوب في المنطقة، وتصبح الهيئة القوة الأكبر في المنطقة على الإطلاق.
لم تشارك حركة الزنكي في المعارك ضد أحرار الشام، بل خاضتها «النصرة» وحدها تحت اسم الهيئة، وفي أواسط 2017 أعلنت حركة الزنكي انفصالها عن هيئة تحرير الشام، لتصبح الهيئة مكونةً من «النصرة» فقط، ومعها بعض الكتائب والمجموعات الصغيرة.
طوال تلك الفترة، حافظت فصائل عدة على وجودها في المنطقة، وكان هناك أحاديث دائمة عن ضرورة مواجهة مشروع «النصرة»، لكن في كل مرة كانت الفصائل تنأى بنفسها عن أي معركة تخوضها «النصرة» مع أحدها. وأيضاً طوال تلك الفترة، كان يبدو واضحاً أن «النصرة» تسعى عبر تحالفاتها وأسمائها المتغيرة، إلى السيطرة وفرض نفسها كقوة أمر واقع. ومن بين محاولاتها للسيطرة، كان مشروع حكومة الإنقاذ، التي قامت بإغلاق مكاتب الحكومة المؤقتة في مناطق سيطرتها، وحاولت السيطرة على جميع النقابات والمؤسسات المدنية والمجالس المحليّة.
جبهة تحرير سوريا، تحالف جديد يهدد سيطرة الهيئة
في 19 شباط 2018 تم الإعلان عن تأسيس جبهة تحرير سوريا، من تحالف ما تبقى من حركة أحرار الشام مع حركة الزنكي. وقدّمت الجبهة نفسها بحسب ناشطين تواصلت معهم الجمهورية، على أنها «مشروع فكري وسياسي له قوة على الأرض ويحظى بالقبول الشعبي والإقليمي».
استشعرت هيئة تحرير الشام الخطر القادم، في ظروف كان يبدو فيها أن الاتفاق الإقليمي والدولي على مصير المنطقة يقترب. ويقولُ جميعُ من تواصلنا معهم من ناشطين، رفضوا الكشف عن أسمائهم بسبب خطورة الوضع الأمني وتعقيداته، إن هيئة تحرير الشام أرادت القضاء على الجبهة الجديدة سريعاً، وذلك لتجبر العالم على القبول بها والتعامل معها بوصفها قوة الأمر الواقع المسيطرة على المنطقة بكاملها، استباقاً لاحتمال مشاركة فصائل درع الفرات في المعركة ضدها بعد انتهاء المعارك التي تخوضها بقيادة تركيّة في عفرين، إذ تضم الفصائل المنضوية في درع الفرات كثيراً من مقاتلي الفصائل التي قامت الجبهة بالقضاء عليها.
كان الخلاف الجديد بين هيئة تحرير الشام من جهة، والزنكي وبقية الفصائل المسلحة من جهة أخرى، قد بدأ منذ نهاية 2017، إثر اتهام الفصائل للهيئة بالانسحاب أمام قوات الأسد خلال معارك ريفي حلب وإدلب الجنوبيين، التي أسفرت عن سقوط عشرات القرى والمواقع في يد الأخيرة، كان أهمها مطار أبو الظهور. في حين حمّلت الهيئة هذه الفصائل المسؤولية، واتمتها «ببيع» المنطقة من خلال صفقات سياسية في مفاوضات أستانة.
تطور الخلاف بين الهيئة والزنكي، وبدأ التراشق الإعلامي بينهما، واتهمت الهيئةُ الحركةَ باغتيال عدد من قياداتها والمشايخ المقربين منها، كان آخرهم الشيخ أبو أيمن المصري، الذي اغتيل يوم في 16 شباط 2018 على أحد حواجز الزنكي وفق ادعاء الهيئة، أي قبل ثلاثة أيام من إعلان تأسيس جبهة تحرير سوريا.
عدّت الحركة تلك الاتهامات باطلة ومزيفة، وقالت إن الهيئة تحاول توريطها بتهم كاذبة للقضاء عليها والسيطرة على كامل المنطقة، والسيطرة على جميع المعابر الرئيسية التي تشكل المورد المالي الأكبر للهيئة. وبعد تأسيس جبهة تحرير سوريا بيوم واحد، أي في يوم 20 شباط 2018، انطلقت المعارك التي يُحمّل كلٌّ من الطرفين الآخرَ مسؤولية اندلاعها، والتي شاعت تسمية «حرب الإلغاء» لوصفها منذ الأيام الأولى.
حققت جبهة تحرير سوريا تقدّماً سريعاً على حساب الهيئة، التي تراجعت عن عدد من المدن والبلدات، أبرزها دارة عزة في ريف حلب الغربي، وأريحا ومعرة النعمان وخان شيخون في إدلب، لتستعيد جزءً منها في الأيام الأخيرة. وطوال شهرين، كانت المعارك مستمرة بشكل يومي تقريباً، باستثناء فترات متقطعة من وقف إطلاق النار، بوساطة من فيلق الشام وجيش الأحرار، والأخير هو كتلةٌ وازنةٌ انشقت عن أحرار الشام سابقاً، والتزمت الحياد ودخلت على خط الوساطة في هذه المعركة.
أسفرت المعارك عن مصرع مئات المقاتلين من الطرفين، قالت بعض الجهات الإعلامية إن عددهم وصل إلى نحو ألف، إلّا أن مصادر متقاطعة قالت للجمهورية إن هذه الأرقام غير حقيقية، وإن الأعداد لا تتجاوز 200 قتيل من الطرفين. كما أدّت المعارك إلى قطع الطرق بين المناطق والبلدات، واستشهاد عدد من المدنيين، وتعرض عشرات المنازل لأضرار كبيرة بسبب القذائف والأسلحة الثقيلة التي استخدمت من قبل طرفي الصراع.
حيادٌ مشكوكٌ فيه
باستثناء مشاركة فصيل صقور الشام في معارك ريف إدلب إلى جانب جبهة تحرير سوريا، أعلنت بقية الفصائل العسكرية في المنطقة تحييد نفسها عن الصراع الدائر، وكان أبرزها فيلق الشام والحزب الإسلامي التركستاني وجيش العزة وجيش النصر وجيش إدلب الحر وجيش الأحرار. وإذا كان صحيحاً أن هذه الفصائل قليلة العدة والعتاد قياساً بالفصيلين الكبيرين، فإن المشاركة الجديّة لها، أو لبعضها، كانت لتغيّر مسار المعركة دون شكّ.
إلّا أن جبهة تحرير سوريا وجّهت اتهامات لفيلق الشام بتزويد الهيئة بالسلاح من خلال ألوية الحمزة التابعة له، التي يقودها صلاح العراقي الذي تجمعه بأبو ماريا القحطاني الأمير في هيئة تحرير الشام صلة قرابة. وبالمقابل اتهمت الجبهة الحزب التركستاني بمساعدة الهيئة في العمليات العسكرية، ورغم إصداره بياناً في 23 شباط يعلن فيه حياده في المعارك، إلاّ أن حسن صوفان قائد الجبهة قال إن هذا البيان غير كافٍ، وذلك بسبب إشارة البيان إلى أن الحزب سيتدخل في المعارك إذا توسع الهجوم على الهيئة.
في صعود فيلق الشام
لم يكن لفيلق الشام نفوذٌ كبيرٌ في الشمال السوري، على الرغم من تشكله في 2014 من انضمام 19 لواءً، لكنه بات اليوم يضمُّ في صفوفه أكثر من 12 ألف مقاتل وفق مصادر محليّة، ازداد عددهم خلال المعارك الماضية نتيجة انضمام بعض المنشقين عن الهيئة إلى صفوفه، إضافة إلى كتائب مستقلة في الشمال السوري.
الفيلق المدعوم تركيّاً، ومن قبل الإخوان المسلمين وفق الرواية الشائعة غير المستندة إلى إعلان رسمي، والذي سعى بمبادرات للصلح خلال المعارك الأخيرة، بدأ بالظهور كقوة فاعلة الآن، وتقول المصادر التي استطلعتها الجمهورية في المنطقة إن الفيلق يمكن أن يشكّل خلال الأيام القادمة، مع جيش إدلب الحر وبعض الفصائل الأخرى، القوة الرئيسية التي يمكن الاعتماد عليها إقليمياً ودولياً للسيطرة على المنطقة، بعد أن أنهكَ القتال الجبهة والهيئة، وأفقدهما الحاضنة الشعبية.
شهدت قرى وبلدات عديدة في الشمال السوري، خلال الشهرين الأخيرين، مظاهرات كبيرة ضد هيئة تحرير الشام، في الأتارب ومعرة النعمان وبنش وسراقب وغيرها من المناطق، وطالب المتظاهرون الهيئة بالخروج من مناطقهم، ولكن لم تكن أيٌّ من تلك المظاهرات داعمة لجبهة تحرير سوريا في واقع الحال، إذ أن المواقف والتحالفات المتغيرة لحركة الزنكي تجعلها فاقدة للمصداقية، كما أن انهيار أحرار الشام أمام الهيئة في معارك 2017، لا يزال حاضراً في أذهان الجميع.
لم ينجح أيٌّ من الفصيلين الكبيرين في إنهاء الآخر، وإذا كان الاتفاق الجديد يحمل مؤشرات تدلّ على أن قيادتي الفصيلين راغبتان في فتح صفحة جديدة، فإن هذا لا يعني أن هذه ستكون آخر المعارك الداخلية في المنطقة، التي لا يزال النقاش الإقليمي والدولي حول مصيرها مستمراً.