فرضت الحرب على المرأة السورية حَجراً يقوم على عزلها في إطار واحد، قوامه أنها ضحية، فتمّ تغييب وجودها ما لم تكن مُعتقلة، مُغيَّبة قسرياً، مُهجّرة، أو مقتولة. وتمّ تغييبُ الانزياحات التي أثارتها الحرب خلف مفهوم الضحية، الذي بات مُعمَّماً حتى على الرجال والأطفال.

المرأة السورية ضحية حرب، هذا واقعٌ لا مفرَّ منه، لكن للمرأة السورية واقعاً فعلياً آخر، يقوم على انزياح قسري أنتجه غياب كثير من الرجال عن أداء أدوارهم في المجتمع. وإذا كانت الأبويّة لا تزال مهيمنة عالمياً، فإن انزياحات مهمة نحو الأموميّة حصلت في أنحاء عديدة من العالم، أي نحو المزيد من استقلالية المرأة وفعاليتها وسيادتها على نفسها وعالمها. وفي مجتمعات السوريين داخل سوريا وخارجها، نشهد اليوم انزياحاً نحو أموميّة قد تبدو مفرطة ظاهرياً، في مقابل إفراطٍ أبويٍ حقيقيٍ كان سائداً قبل الحرب، وأصابه خللٌ ليس قليلاً خلالها.

تعتمد شدة الانزياح نحو الأموميّة، التي ليست تحررية بالضرورة، على شدة الخلل الذي وقع على النظام الأبوي. والانزياحُ الذي نتحدّث عنه هنا ليس استمراراً للنموذج النسائي التحرري الذي كان موجوداً في سوريا قبل الحرب، ولا للنموذج المعتدل الذي كان متعايشاً مع النظام الأبوي مع احتفاظه بمساحة من التحرر، لكنه يعتمد على النموذج الذي كان مقموعاً تماماً، ثم دفعته الحرب قسراً خارج دائرة النظام الأبوي، فلم يكن تحرّره إرادياً بقدر ما كان ناتجاً عن تغييب الحرب للرجل، أو أنه استعان بالحرب كقوة نابذة ليدمّر دائرة السيطرة الأبوية، إرادياً وبإصرار، فغيّبَ الرجل «إجبارياً»، ودون مباركة اجتماعية.

غياب الرجل، منعكسٌ حربيٌ قسري

قبل الخوض في الغياب، لا بدَّ من التطرق إلى طبيعة حضور الرجل في المجتمع السوري أولاً. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن للقاعدة استثناءات، وأن للحيز المُقتَرَح هنا هوامش يختلف فيها جزءٌ من الرجال عن النمط السائد.

بعيداً عن المنحى المبني على القيمة الفردية الشخصية، فإن سلطة الرجل في الحيّز الاجتماعي وفق النمط السائد، تتمثّلُ بالقدرة على اتخاذ القرار وتنفيذه، والتأثير على قرارات من تبقى من أفراد الأسرة، قبولاً، اعتراضاً، أو تعديلاً، وفقاً لهرم الأسرة والرجل المسيطر فيها سواء كان أباً أو أخاً أو زوجاً. وهو يستمدُّ هذه السلطة من قدرته على الإنفاق، أي من العامل المادي، ومن الأهمية المنوطة به اجتماعياً وفقاً لجنسه، أي كونه ذكراً. في هذا الإطار، يكون الرجل الذي نتحدث عن آثار غيابه هنا، هو الرجل العامل، وإن تمتَّعَ الرجل، أحياناً، بالمزايا الاجتماعية ذاتها حتى وإن لم يكن قادراً على الإنفاق.

للغياب ثلاثة أشكال أدّت إليها الحرب مباشرة، غيابٌ جزئي، وغيابٌ كلّي، وآخر يجمع بين الشكلين الأولين، ويسوده الانتظار.

في خضّم عسكرة التأييد والمعارضة، انضمَّ قسمٌ من الرجال، أو أُجبِرَ على الانضمام، إلى جبهات القتال في أحد المعسكرين، ليستمرّ غيابه طيلة ما تتطلب الحرب من زمنٍ قد تتخلله زيارات متقطعة إلى بيت الأسرة، غير كفيلة بفرض السلطة ذاتها لو كان متواجداً بشكل دائم. وتندرج تحت الغياب الجزئي حالاتُ الحصار، حيث يبقى الرجل للقتال أو الدفاع عمّا تبقى من ممتلكات أسرته، فيما يغادر بقية أفراد الأسرة، ليتكرر السيناريو في حالات النزوح الداخلي أحياناً.

سناء الزوجة، الغيابُ الأول

عَمِلَت سناء، خريجة الفنون الجميلة، في مجال التصميم لثماني سنوات مع شاب أحبّته، واجه علاقتهما خلالها رفضُ والديها، وهما من أبناء مدينة دمشق، ورفضُ حمويها، وهما من أبناء صيدنايا في ريفها، لتتزوج منه في سن الثامنة والعشرين مع بداية الثورة في سوريا.

في القابون، عمل الزوج الشاب في مجال الإغاثة، فيما طلب منها التوقف عن العمل باستثناء التدريس التطوعي، ليرسلها إلى منزل أهلها بعد فرض الحصار على المدينة، وتعرضها للسلاح الكيماوي مرتين.

شهرٌ معه، ثم خمسة أشهر من الانتظار دونه في منزل والديها، «وكأنني لم أتزوج»، تقول سناء، «ولكنني انتظرت هربه هو الآخر»؛ ليُصنَّفَ زوجُ سناء بذلك من ضمن الفئة الأولى في أول غياباته.

ينطبق النمط الأول على فئتين أخريين، المهاجرون ممن تركوا أسرهم مؤقتا هرباً من الاعتقال، الملاحقات الأمنية، الخدمة الإلزامية أو الاحتياط؛ وأولئك الذين من الممكن ألّا تشكل هذه السلسلة من التهديدات أي خطر على حياتهم، ليتكفل بتهدديها العامل الاقتصادي؛ فيعمل بعضهم في محافظات أخرى غير التي تستقر فيها العائلة، أو لساعات طويلة لضمان دخل يكفيها في ظل الانحدار المادي المتواصل، وغلاء المعيشة المتصاعد.

أما النمط الثاني من الغياب فينطبق على القتلى، عسكريين ومدنيين.

فيما يضمّ النمط الثالث، النمط البيني، المعتقلين لدى كلا المعسكرين، والمغيبين قسرياً، وهو النمط الذي دُفِعَت من خلاله سناء، 33 عاماً، خارج دائرة النظام الأبوي البحت، في تجربة بدأت بالقسر، لتأخذ منحاً يميل إلى إرادة بالتخلي عن النمط المتعارف عليه، لتعترف بأموميتها وتدافع عنها.

سناء زوجة المعتقل، الغياب الثاني

اعتُقِلَ زوج سناء في نقطة المصنع على الحدود السورية اللبنانية أثناء توجههما إلى تركيا، بعد أن ضاقت بهما الأحوال المعيشية. تركته سناء، بعد أن هدَّدها أحد الضباط بالاعتقال أيضاً؛ تركته هناك مع صورة إيكو لجنينها، «نقطة لما يتجاوز عمرها العشرين يوماً»، كما وصفته، لتكرّرَ سيناريو العودة إلى منزل والديها، وتبدأ رحلة الانتظار والبحث عن زوجها المفقود.

«بعتُ سواري الذهبي الوحيد لأخفّفَ عنه حمل التعذيب».

غياب الرجل، انتزاع الأموميّة

لغياب الرجل نمطٌ رابعٌ، افتعلته النساء اعتماداً على الحرب نفسها، وعلى مفهوم الضحية المفروض عليهنَّ حربياً؛ فقد قامت العديد من المهاجرات إلى أوروبا بطلب الطلاق حالَ وصولهنَّ إلى البلد المستضيف، بالاعتماد على قوانين البلد الجديد؛ كما أجبرت بعض النساء، ممن أرسلتهنَّ العائلة خارج سوريا بدافع الخوف، العائلة نفسها على تقبل استقلاليتهنَّ عن دائرة العائلة.

صناعةُ الغياب، الهرب

يختلف الغياب في حالة ريم، 31 عاماً، عن النماذج المذكورة أعلاه، فلم يُعتقل أو يُقتل أو يسافر والدها أو أحدٌ من أخوتها. اعتُقِلَت ريم، وهي طالبة سنة ثالثة في قسم الاقتصاد، لمدة سبعة أشهر؛ حيث قادها الحبّ إلى أحد المناطق الساخنة التي نقلت إليها مواد غذائية كمساعدة للناس هناك، وهو خرقٌ استحقّت عليه عقاباً أشدَّ من عقاب كانت قد تعرضت له من أفراد عائلتها جراء إصرارها على الدراسة.

سبعة أشهر عادت لتُعنَّفَ بعدها، فلم يرفق الأخوة بالأمراض العديدة التي أصابتها بعد المعتقل: «تم ضربي، خوفاً من أن يكون رأسي قد كبر في المعتقل؛ أبدوا، وعبروا؛ عن الرغبة في تحطيمه تحسبّاً».

خوفاً عليها، أصرت العائلة على تسفيرها إلى إخوة آخرين لها في السعودية؛ فكانت المرحلة الفصل، إذ بعد وصولها إلى السعودية، والاستمرار بحلقة التعذيب التهذيبية، هدَّدَت ريم والديها بالانتحار؛ لتجبرهم بذلك، على تقبّل رحيلها إلى تركيا؛ فكان في هربها تغييبٌ للسلطة الذكر.

«إذن، هل للحرب فضلٌ في تحرّرك؟»، تجيب ريم: «طالبتُ بالحرب قبل أن تبدأ الثورة بسنوات؛ فلم تكن لتنكسر الحلقة دونها أو دون موت أفراد العائلة».

موقفٌ من الغياب

تتناسب حدة رد الفعل على الغياب طرداً مع شدة الحضور، فالفجوة المترتبة على بقاء النساء وحدهنَّ يتم ردمها أحياناً من قبل النساء أنفسهن ذاتياً، بطريقة قد تتوافق أو لا تتوافق مع ما يصبو إليه المجتمع المحيط المباشر، أو المجتمع المستضيف داخلياً في حالة النزوح إلى محافظات أخرى تختلف في مدى تقبلها لنساء وحيدات، أو المجتمع المضيف الأوروبي في حالات الهجرة؛ وفي حالات أخرى يردم المجتمع ذاته الفجوة المذكورة، بما بقي فيه من رجال في الأسرة.

يتدرّجُ المجتمع السوري، بحسب محافظاته ومناطقه المختلفة، في مرونته من حيث تعامل الرجل مع السلطة، مع التأكيد ثانية على وجود نماذج تحررية أصلاً، ونماذج أخرى أقل أو أكثر اعتدالاً، ولأن التركيز يقع على النموذج المتزمت، الأقل اعتدالاً والأقل تحرراً، سأعمدُ إلى تأخير وصف عملية ردم الفجوة الناتجة عن غياب الرجل ذاتياً، لأن ردَّ فعل النموذج الذي نتحدث عنه هنا يأخذ منحاً أكثر ميلاً للانغلاق منه للانفتاح.

ردمٌ عائليٌ توافقي

في حالات النزوح مثلاً، هَجَرَت الأُسَرُ المصغرة حالة الاستقلال لتعيش في كنف العائلة الأكبر؛ إذ عمد المهجّرون داخلياً إلى العيش في بيت واحد يجمع كل فروع العائلة في حالات كثيرة، مما ضيّقَ على النساء أكثر. فمثلاً، بدأت بعض العائلات بفرض الحجاب على الفتيات الأصغر سناً، فيما تمّ تأطير حركة الشابات، وفُرِضَت على الأرامل أو زوجات المُغيبين قسراً العودة إلى منزل العائلة. في حالات كثيرة طالبت عائلة الزوج الغائب بالأطفال في حال وجودهم، مما دفع ببعض النساء إلى الاستقرار لدى أهل الزوج، كما فُرِضَ على الأرامل منهن في بعض الحالات الزواج من شقيق الزوج، حفاظاً على الأولاد، وشرف العائلة، والإرث أحياناً.

الردم عبر التقويض

تظهرُ عملية تقويض السلطة الأبوية من خلال حالات الردم الذاتي، فالنشاط الجمعي الذي مارسته العائلة، كما طرحتُ أعلاه، لا يسعى للتقويض، وإنما للحفاظ على السلطة المتوارثة لأجيال. والممارساتُ الجمعية النسائية الأخرى كانت دفاعاً عن المعسكر الذي يضمهنّ، وليست مقاومةً للمعسكر الأبوي في حدّ ذاته، ليكون البحث عن مساحة أموميّة في سوريا فردياً/قسرياً، وبأبعاد مختلفة.

جمعٌ نسائيٌ منغلق

في الحرب السورية، سعت المعسكرات المتناحرة المختلفة لاستغلال المرأة السورية، العنصر الأضعف، كوسيلة لتحصيل نفوذ على الأرض، بناء على أهمية ضعف هذا العنصر في بناء النظام الأبوي؛ فالإمعان في إضعافه يعني إضعافاً للنظام الأبوي الممثّل لكل معسكر، إذ وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تحت حصيلة الاعتقال التعسفي، قيد الاعتقال أو مغيبة قسرياً: 7900 سيدة بالغة مغيبة من قبل قوات النظام السوري، 380 من قبل التنظيمات الإسلامية المتشددة، 987 من قبل فصائل المعارضة المسلحة، بالإضافة إلى 257 من قبل قوات الإدارة الذاتية الكردية.

انطلاقا من راديكالية الوضع، برزت فصائل عسكرية نسائية عديدة، لكن المشكلة كانت بانغلاق هذه الجموع النسائية على ذاتها، فهي لا تسعى للدفاع عن وجود النساء ضد القوة العسكرية الذكورية، لتثبت وجوداً سياسياً يمكن البناء عليه اجتماعياً، وإنما للدفاع عن الطرف الذي تنتمي النساء إليه. شكّلَ نظام الأسد كتائب نسائية منها «لبوات الدفاع الوطني» وكتيبة «المغاوير النسائية»، وشكّلَت المعارضة المسلحة كتائب «أمنا عائشة» و«بنات ابن الوليد»، وشكَّلَ تنظيم الدولة كذلك كل من كتيبتي «الخنساء» و«أمّ الريان»، فيما تمّ تشكيل «وحدات حماية المرأة» في صفوف القوات الكردية.

العتبة الأموميّة

في ظل التفاوت الاجتماعي في مقاربة مسألة تحرّر المرأة، حيث يجوز التعميم بأن الحرية للذكر، فيما يتضيّق مفهوم الحرية ليشمل حالات فردية من النساء فحسب، ولأن النموذج المدروس هو الواقع تحت التعميم الجائز، كانت عملية الردم الذاتي من قبل النساء للفجوة الناتجة عن غياب الرجل، وبالتالي تقويض النظام الأبوي، قسريةً وفق نموذجين.

نموذجٌ أول، تُدفَعُ فيه المرأة إلى التحرّر والاستقلالية بفعل الحرب؛ مثل حالة سناء زوجة المعتقل، التي اتخذ تحرّرها شكل الخروج القسري من دائرة السلطة الأبوية. ونموذجٌ ثانٍ، تُجبِرُ فيه المرأةُ المجتمعَ والعائلةَ، مُستندةً إلى الحرب ذاتها، على تقبّل تحّررها، مثل حالة ريم المعتقلة سابقاً، التي لطالما رغبت بالتخلص من الدائرة، لتهتكها تماماً خلال الحرب، وتخرج منها دون عودة.

سناء زوجة المعتقل، مطلوبة أمنياً

التزمت سناء بسيناريو الانتظار ثلاثة أشهر أخرى، غير أن الحالة الاجتماعية التي أضافتها الحربُ إلى الحالات المتعارف عليها، حالة زوجة معتقل هنا، لم تجعل من غياب زوجها واقعاً فحسب، بل ضاعفت من آثار غيابه عندما اكتشفت أن تهمة زوجها كانت قد لحقت بها هي أيضاً، فباتت مطلوبة لثلاثة أفرع أمنية مختلفة.

لتبدأ سناء مع صديق زوجها، الرجل «الملاك» كما تفضّل أن تسميه، بالبحث عن سيناريو جديد يقيها المصير المشؤوم، فلم يكن من حلٍّ سوى السفر تهريباً.

تبدأ حكاية سناء مع التحرّر القسري من هنا، فهي لم تخبر والديها بموضوع السفر، ولا الملاحقات الأمنية، فكلاهما كان سيرفضان رحيل شابة يافعة، وأمّ مستقبلية عن ديارهما: «في شهري الخامس من الحمل؛ خرجتُ دون أب، أخ، زوج، أو أم. الهرب كان الأهم. هربي وهرب الجنين في أحشائي».

ريم في قوقعة الصورة

تصفُ ريم حياتها قبل الحرب بأنها فعلُ عيشٍ فقط، عيشٌ لا رغبة لها فيه ولا قبول، في قوقعة مؤلفة من مجموعة من الصور التي يعمل الذَكَرُ على الحفاظ عليها من خلال التعنيف الحاد المتكرر، والهادف بسخرية إلى «التدجين»؛ ترتبط الصور كلها بشرف العائلة وموقعها الاجتماعي، ليس تديناً، وإنما تحت حكم العادة: «بناتنا لسنَ فلتانات».

الهرب متعدد الطبقات

تؤمن ريم أن الرجال والنساء في سوريا مقموعون بالتساوي من قبل المجتمع؛ مع فرق محدود في الامتيازات التي ينالها الرجال، الذين هم الفئة المفضلة لدى والدتها؛ لدى الرجل أحقية الهرب والإفلات من المحاسبة في حال هربه؛ للنساء أيضاً شكلٌ واحدٌ للهرب، أو هذا ما كررته والدتها: «في كل مرة حاولتُ الاعتراض فيها على التعنيف؛ كانت والدتي، وريثةُ أمها؛ جدتي التي هي وريثة أمها بدورها أيضاً؛ تشيرُ إلى الزواج. حلٌّ رفضتُهُ لأن فيه تكراراً لتجربةٍ فقط؛ وأنا كنتُ على أتمّ القناعة بأنني لست صندوقاً من الخضار معروضاً للبيع؛ ولا دجاجة للتفريخ».

بعد استقبالها لأسبوعين في منزلها القائم في عينتاب، بدأت صديقة ريم بمحاولة تعريفها على رجال؛ «هربت، لا أريدُ أي علاقة يُستخدم فيها جسدي».

اعتمدت ريم على فكرة الهرب بعدها مراراً، مستخدمة حقّ الرجل، مع تعديل جذري؛ فهربها المتلاحق، بعد تركها السعودية، كان لردم هوة «الهشاشة» التي خلَّفَتها والدتها كنائبة عن النظام الأبوي في المقام الأول، وتخاذُلِ والدها المتحرّر، «الذي خاف أن يأخذني من يدي إلى الحرية؛ فيقع في معمعة اجتماعية لا يستطيع فيها حماية نفسه كرجل، أو عائلته».

كان الهرب في حالة ريم وسيلة مقاومة لكلّ ما تمت تربيتها عليه، وليس استكانةً لمفهوم التملّص من عواقب المجتمع؛ «تركتُ ثاني حبيب لي، على الرغم من أنه مثَّلَ الأمان في حياتي عندما لم أمتلك أي وسائل أخرى أو خيارات».

تصف ريم عملية التخلي، بالـ «لا-أنانية»، فهي قد مَنَحَت العلاقة كل ما لديها من حب؛ إلا أن نمط حياة الحبيب لم يتوافق مع نمط حياتها؛ ليُمكّنها عرضُ عملٍ في اسطنبول من الإفلات: «تكمن أحد مفارقات الحياة، في أن العمل الذي ضَمِنَ لي خيارات أخرى، كان مبنياً على ما مُنِعتُ منه في الماضي؛ أذكرُ أن أختي عمدت ذات يوم إلى كسر الضوء المعلق في سقف الغرفة، كي لا يشي نورهُ بي إلى والدي فأتعرضَ للتعنيف بسبب القراءة. أنا اليوم أكتب، وأكسب مالاً، مما كنت أقرأه قديماً».

استأجرت ريم، بمساعدة زوجها الأصغر منها بأربع سنوات، وهي مدركة أن هذا خرقٌ آخر للتطلعات المجتمعية، منزلاً صغيراً تحتفي به، فهو غير اعتيادي.

«ما هو غير الاعتيادي في منزلك؟»، تجيب ريم: «لو كان منزل زوجية في الأحوال العادية ]اللاتحررية[ لما احتفيتُ به، ولكنه منزلي، مع كثير من الخطوط تحت الياء، اخترتُهُ أنا، استأجرتُهُ أنا، واخترتُ ودفعتُ ثمن أشيائه كلها أنا».

يعّبر المنزل بحدّ ذاته عن مرحلتيها الحياتيتين، فيما عبّر منزل والديها عن الآخرين كلهم، وكان حيّزاً للذكور أكثر منه للإناث؛ يعبّر المنزل الجديد عن «أنا» العائدة لريم وحدها؛ حيّزها هي؛ العائلي واللاعائلي في آن معاً؛ وأهمّ من ذلك أنه يعبر عن قدرتها على امتلاك حق الخصوصية: «كان إخوتي يدخلون لضربنا بخرطوم المياه ونحن نيام؛ أو يدخلون دون استئذان، لم أستطع تبديل ملابسي دون خوف، فلم يملك الآخرون الذكور ثقافة قرع الباب، بل تهكموا، ووصفوني بالأوروبية عندما طالبتُ بها».

سناء تغادر المنزل «فعلياً»

خلافاً لما قامت به ريم، سلسلةُ التخلي عن كل ما يمتّ للدائرة بصلة، حافظت سناء على العهد، عهد اجتماعي يتجسد في عقد زاوج ينصّ على تفرّغ كامل للرجل، أب أو زوج، كممارسات معنوية وجسدية، وواجبات منزلية، لتنسحب على الحفاظ على سمعة الرجل، بحافظها على العفة والطهارة الجسدية.

عقدٌ بملكية الرجل للمرأة، يتضمن موافقتها المصحوبة بالسعادة إزاء أداء ما يترتب عليها من واجبات، وكذلك عهدٌ بالحفاظ على العقد ذاته. حالت الملاحقة الأمنية بينها وبين الحفاظ على العقد عبر الانتظار؛ إذ أجبرتها الظروف المباغتة في الغربة على التخلي المطلق عن المنزل، الحيّز المتعارف عليه ضمنياً وبموجب العقد الاجتماعي، بوصفه الحيّز الأمومي الوحيد المسموح للمرأة شغله لتحصل على لقب المرأة «الجيدة»، أو الأصيلة كما اعتاد السوريون تسميتها.

بعد أن عاشت سناء من منطلق الحفاظ على العقد في عينتاب، متنقلة بين منازل عدة لأقارب وأصدقاء زوجها؛ باتَ الاعتمادُ الاقتصادي على الآخرين عبئاً يفوق قدرتها «كأصيلة» حتى، فنزحت بابنها إلى اسطنبول.

دفعت الأموميّة المفرطة بسناء خارج الدائرة، لكنها لم تكن قائمة على رغبة تحررية بالتخلي عن العقد أو الإجبار، بل كان تحرّرها، ودخولها في سوق العمل، والبحث عن سكن خاص بها، أشياءً دُفِعَت إليها قسراً.

عملت سناء كمدرسة لفترة، لتتنقل بعدها بين عدد من الأشغال، تتراوح من رسم الحنة في صالونات نسائية إلى التصميم مع جهات مختلفة، فبوجود طفلها كان من الصعب عليها الالتزام بدوام كامل يضمن لها راتباً مستمراً. التنقل انطبق على المنزل أيضاً، فبدون الراتب لم تجد ملجأً غير مساكن البنات، إلى أن استقرت في منزل مؤلف من غرفة واحدة في حيّ الفاتح، وذاقت الأمرّين لتؤمن قيمة الإيجار، 800 ليرة تركية، مع نفقات طفل عمره سنتان وأشهر قليلة أخرى.

ترافَقَ تحرّر سناء الإجباري مع رغبة عارمة في المحافظة على صفة «الأصيلة»، فالمنزل نفسه كان منذوراً لانتظار عودة زوجها: «عملتُ لأجله؛ استأجرتُ المنزل لأجله؛ رتبتُ المنزل لأجله أيضاً. كنتُ سأنتظر عشرين عاماً أخرى لأجله».

– «ماذا عن المساحة الخاصة بك كسناء؟ هل أنت فخورة بالاستقلال؟».

– «إنها مساحة من جحيم».

– «ألم تشعري بالقوة في خضّم غيابه؟».

– «أي قوة!! كان لا بدّ لي من الحياة، ليس بمعنى الحياة، وإنما البقاء على قيد الحياة؛ كان عليَّ أن أنسى نفسي، احتياجاتي، كل شئ آخر، عدا الطفل، الروح، الأمانة».

غيابٌ كلّي ورغبةٌ بالتخلي

ترافقَ خبر وفاة زوج سناء، أي تحوّله من مرحلة الغياب الجزئي إلى الكلّي، مع وصول عائلتها إلى تركيا، ليستقروا معها في الغرفة الوحيدة ذاتها.

أوصدت سناء الباب على تاريخ من الانتظار، وبدأت تهيئة حياتها على نمط يقوم على الوحدة والأموميّة الصرفة. خَلَعَت خاتم الزواج ولَقَبَ الزوجة عن نفسها، اللذين فشلا في حمايتها من محاولات عديدة للتحرش وصلت حدّ التعرض للخطف، وركزّت على مفهوم العمل والدفاع عن مكانها في الحياة كسناء، وليس «الأصيلة» أو زوجة المعتقل.

تحولت سناء من التحرّر القسري، إلى تحرّر إرادي بعد خبر الوفاة، لتدافع وبقوة عن حقّها في ردم الغياب ذاتياً، بنفسها وليس تحت جناح العائلة أو زوج جديد.

متلازمة غشاء البكارة

بوجود 11 شخصاً في غرفة واحدة، لم تتمكن سناء من تربية طفلها أو البحث عن ذاتها كفنانة تحتاج إلى جو هادئ، لتنجز عملاً يمكّنها من الإنفاق على نفسها، طفلها وعائلتها.

«إنهم عائلتي، لم ولن أستطيع أن أطلب منهم مغادرة غرفتي».

باعت سناء لوحاتها لرجل تركي، مقايضة بمنزل أكبر لعائلتها؛ لتتمكن من الاحتفاظ بغرفتها لها وحدها: «حاربت؛ طالبتُ بالبقاء وحيدة؛ كل ما أردتُهُ العملَ وتربية طفلي؛ متطلبات بسيطة فسَّرَها أهلي برغبة بالجنوح؛ فالبقاء في غرفتي وحيدة، في ذهنهم، ارتبطَ تماماً بغياب غشاء البكارة، وبرغبتي باستقبال ضيوف رجال».

الهرب إلى زواج ثان، الاستكانة والعودة

خوفاً من التحرّش المستمرّ بها كأم وامرأة بحاجة إلى دعم مادي حاول الكثيرون استغلاله؛ خوفاً من تضييق مستمر يحجّمها، انصاعت سناء إلى زواج آخر، لتعود إلى منزل الزوجية ثانية، وتترك العمل ثانية، فخورة بكونها زوجة «أصيلة/جيدة».

تقول: «أخبرني زوجي الثاني أن ما دفعه إلى الزواج بي هو أنني امرأة أصيلة؛ قال إن من انتظرت زوجها كل هذه المدة لن تتخلى عنه بسهولة».

– «ألم تشعري بفقد الحرية؟».

– «الحياة صعبة؛ لا أرغب أن يكبر ولدي يتيماً؛ دافعتُ كثيراً بعد وفاة زوجي، لكن الأصعب كان حق الاحتفاظ بقراري لنفسي، وهو ما حاربني عليه أهلي، فاضطررتُ لإخفاء كل رغباتي وقرارتي عنهم، وطريقة تنفيذها أيضاً».

– «سعيدة؟».

– «زوجي يحبّني، يشجّعني على الرسم، لكنه يرفض عملي خوفاً من المضايقات الذكورية؛ على الرغم من أنها توقفت حالما أشهرتُ زواجي الثاني».

– «كيف تصفين العودة؟».

«كانت العودة إجبارية؛ غير أن زوجي يسافر كثيراً فأبقى وحيدة في منزلي، كلّه لي؛ وكأنه ردٌّ على ما منعني عنه أهلي…».

نبذٌ دون توقف

تصف ريم زواجها بأنه رحلةٌ تجاوزت من خلالها الهشاشة، بالأخصّ فيما يتعلق بذاتها، فهي تحبّ نفسها كامرأة مستقلّة وامرأة أنثى؛ وكان قد اجتمع قمع الجانبيين، المستقلّ والأنثوي، في علاقة ريم مع إخوتها حول ملابسها: «لم يعاتبني زوجي على خلع الحجاب؛ فيما اقتلع إخوتي ثلاث شعرات برزنَ خارج الحجاب؛ وقاموا بنتف رمشي ظناً منهم أنني أضع مكياج عينين».

ولكن، تعودُ لتصف بأن الاستقلالية، على الرغم من أن لزوجها دوراً مهماً في خلقها، كانت نابعة عنها وحدها، عن سلسلة الهرب المتلاحقة، فهو بالنهاية كان تربية المجتمع ذاته، حيث رُبّيَ كإخوتها الذكور: «والده يشتم كثيراً؛ وهو يعمل الآن في مكان فيه كثير من العمال، أي أناس يستطيع أن يفرض سيطرته عليهم. شتمني، وحاول معاملتي كموظف لديه».

تضحك ريم؛ فقصتها مع زوجها وردُّ فعل والدتها، جاءا مطابقين تماماً لنظرتها للمجتمع؛ الذي تعتبره مجموعة من الحلقات المفرغة، التي لا تتوقف عن تكرار نفسها: «أخبرتُ أمي بما حدث؛ فأشارت عليَّ بالصبر؛ فزوجي جيّد وكسيّب؛ ينفقُ عليَّ وعلى أهلي؛ عليَّ بالصبر؛ طالبتُ بالطلاق يومها».

خلافاً لاستكانة سناء، حافظت ريم على وتيرة الهرب، وبتسارع كان كافياً لنبذ ما تبقى من الدائرة، فلم تستمع لتعاليم الوالدة كما فعلت الأصيلة، لتنبذ وبتسارع أكبر الدائرة حديثةَ التشكل، الزوج، فلم تتقبل فروض الطاعة النابعة عن قوته المادية مُطالبةً بالطلاق، الذي ما هو إلّا شكلٌ آخرٌ للهرب.

ابنتي ستكون عاهرة

تحب ريم زوجها، ولكن تصف علاقتها به من منظور الخيار؛ فهي تريده في حياتها لا كمصدرٍ مادي، «كرت بنك»، ولا كمصدرٍ للأمان؛ وجود زوجها في حياتها قائم على رغبة بوجوده، نابعة عنها كشخص مستقل، وليس كشخص محتاج، ليس مثل سناء؛ بالأخصّ لأنها قادرة اليوم على ممارسة الهرب، الإيجابي، الهرب الأنثوي الذي كان حكراً على الرجال فحسب قبل هربها الأول؛ الهرب المبني على التجربة لتدارك الهشاشة شبه المتأصلة؛ وهو هربٌ كان سيؤدي إلى وسمها «بالعاهرة» قبل الحرب، ووسم عائلتها أيضاً: «في المستقبل؛ سأربي وأعلم ابنتي أن كلمة عاهرة وسام مقدس؛ وأن عليها أن تشعر بالسعادة إذا ما أطلقه أحدهم عليها».

العتبة السورية الأموميّة

تقوم العتبة، نوعاً ما، على نفي كل ما هو مطلق، وخلخلة الحدود بين كل الثنائيات المذكورة سابقاً، فهي ليست من منطلق الجمع الحتمي ولا الفردي؛ ليست قائمة على التحرر المطلق أو الأموميّة المفرطة، ليست قائمة على غياب الرجل المطلق أو النظام الأبوي المحكم، سواء بسبب الحرب مباشرة أو باستخدامها بصورة غير مباشرة؛ كذلك لا تتخذ العتبة شكلاً محدداً من حيث التزام المرأة بقوانين الفضاء الداخلي أو الخارجي؛ تقوم العتبة على التفاوض، التهتيك والردم؛ تتخذ وضع «الما بين» القسري ثنائي الطابع؛ فسناء لم تعد أصيلة بالشكل الصرف، بل عدّلَت مفهوم المنزل مع عودتها إلى كنف الزوج، وتجاوزت عقبة غشاء البكارة المثقوب؛ فيما اقتحمت ريم مفهوم الهرب، اعتماداً على رداءة السمعة الملاصقة لهرب المرأة، أي العُهر.

يخلق النموذجان عتبة سلطوية سائلة؛ وهي عتبةٌ بالذات لأنها في طور التشكّل وتفتقر للصلابة، لأنها تمهّدُ لمستقبل رسمت المرأتان حدوده المرنة من خلال ميكانزيمات الخروج/العودة في حالة سناء، والخروج اللامتناهي في حالة ريم؛ لهذه العتبة القدرةُ على منح النساء، ولو بعيداً عن العمل الجماعي الموحد، أي عبر الـ أنا/المرأة المفردة وليس الـ نحن/النساء جمعاً، إلى خرق التكوين الذكوري المفروض على الأرض؛ ورغم خلوّها من صفة الجمع، غير أن صدورها عن النموذج المقموع يمهّدُ لنشوء حالة جمعيّة مستقبلية، ذلك أن التحدي لا يقع على كاهل النموذج المتحرر أصلاً، و لا المعتدل، وإنما المُسيطَر عليه، المضبوط.