الصورة في الأسفل ستلخّصُ وتوفّرُ عناء كتابة مقدمة عن تركيب الحي الذي ولدتُ فيه، مكانٌ يشبه كثيراً أمكنة المخرج الأمريكي ستيفين سبيلبيرغ في فيلمه الأخير: Ready Player one، بناه أهله بين غفلة الحكومة وتعاميها في سبعينيات القرن الماضي. وقد يتشابه ذاك الحيّ عمرانياً مع أحياء عشوائية أخرى في مدن عدة في سوريا، أمّا ديموغرافياً فإن لهذا الحيّ حكاية خاصة.

لم يرغب والداي بمشاركتي الكثير عن بدايات الحيّ، ولم يتحدث الجيران كثيراً عن ذلك، كان عليَّ أن أستغرقَ زمناً طويلاً في الملاحظة والمراقبة وتجميع الأحاديث والروايات لأخرج بحكايته.

حسناً، كبداية بُنيَ الحيّ في السبعينيات، أي في بدايات عهد حافظ الأسد مسيطراً على دمشق. في تلك السنوات بدأ سكان الأرياف والمدن السورية الصغيرة بالتوجه نحو دمشق للعمل والدراسة بكثافة، وبدأ الفقراء منهم ينتشرون في أحياء عشوائية في محيط المدينة، مبنية كيفما اتفق، إذ لا خطط حكومية لإسكانهم، ولا قدرة لهم على شراء منازل أو استئجارها في قلب المدينة. يبدو لي اليوم أن سلطة الأسد الناشئة كانت تفكر آن ذاك بأنه لا بدَّ من وجود حراس في المدينة التي تتسع وتكبر، ولكن أهل المدينة «الشوام» لديهم مَثَلٌ يقول «يلي بيتجوز أمي بقله يا عمي»، أي أنهم دبلوماسيون وأصحاب مصالح، وبالشعبي «ما لهم أمان»، كما كان يردد رجال الحيّ ومن خلفهم النساء، حين يتمّ ذكر أي شيء له علاقة بالدمشقيين.

لا بدَّ من وجود حراس يرتبط أمانهم بما توفره السلطة لهم إذن، ويجب أن يكونوا لا فقراء معدمين ولا ميسوري الحال. ولكن من هي تلك الفئة التي ستقبل بهذه الظروف المعيشية البسيطة، وتحافظ على ولائها الكامل للسلطة في الوقت نفسه؟!

إذن لا بدَّ من إضافة أبعاد اجتماعية وطائفية على هذا الخليط، وكانت الفئة الأولى المرشحة هي الفلاحون وأبناء الأرياف، وليس أي فلاحين، بل إن كانوا علويين سيكون لذلك قيمة مضافة للسلطة، بوجود حراس يرتبط مصيرهم بمصير الأسد ابن طائفتهم. وإذا كان لا بدّ من توفير عمل لهم، فليكن العمل في الجيش أو المخابرات للرجال، والنساء؟ سيكون التمريض والتدريس والوظائف العامة لاحقاً من نصيبهنّ.

هكذا تمّ دفعُ آلاف من شبان القرى العلوية لمغادرة حقولهم والالتحاق بالجيش والمخابرات، وكان أبي ممن التحقوا بالجيش.

الخطة مُحكمة حتى الآن، ولكن أين سيعيشون في دمشق؟ فسكان الأحياء الدمشقية القديمة لا يرحبون بالغرباء، وهم حتى تجاه بعضهم بعضاً يهتمون بالقسمة بين من يعيش داخل السور ومن يعيش خارجه، وقبل ذلك سيكون العامل الاقتصادي حاضراً أيضاً، إذ لا مساكن نظامية مبنية لاستقبال القادمين الجدد، ولا قدرة لهم على شراء بيوت في الأحياء الحديثة. بنظرة سريعة من قصر المهاجرين العالي في دمشق، تظهر سفوح جبل قاسيون وجبل الأربعين الجرداء، وجبالٌ وتلالٌ أخرى مطلّة على دمشق، وهي أمكنةٌ أكثر من مناسبة للقادمين الجدد. ستناسبهم لأنهم سيأتون من جبال اللاذقية ومصياف، وهي ستتلاءم عاطفياً مع رواية الأجداد عن الإبادة التي تعرضوا لها على يد السلطان العثماني سليم في 1516 وهربهم إلى الجبال.

سيستذكر علويون كُثُر هذه الحادثة لاحقاً مع بداية الثورة السورية لعام 2011، خاصة مع نشر بيان حول خطة لإبادة العلويون وسبي نسائهم بتوقيع الشيخ بندر السعودي.

نعود للحي، بين الشارع الرئيسي وقمة جبل الأربعين توجد مسافة لا تقل عن 5 كلم صعوداً باتجاه الجبل. حتى اليوم نسأل والدي: لماذا قرَّرتَ بناء منزلنا في أعالي الجبل بعيداً عن الشارع العام؟ يحاولُ التهرّبَ من الإجابة، ولكنّي أعتقدُ أنه الخوف، والتفكيرُ استباقياً بحلول بدائية للتحصّن في حال وجود خطر مفاجئ لاحقاً، فلا ثقة بالآخر، أياً كان ذلك الآخر.

بالفعل كان الحيّ محصّناً. كقاطنة صغيرة، لم أكن أعرف أن هناك سكاناً من مناطق سوريّة أخرى يعيشون في الأحياء العليا والسفلى. عندما كنتُ أقطع تلك الأحياء برفقة أمي إلى سوق الخضروات، كانت تقول إنهم «غرباء»، بينما كنتُ أراهم يشبهوننا كثيراً، منازلهم ليست أجمل من منازلنا ويمشون ذاك الجبل صعوداً مثلنا. ما الذي يجعلهم غرباء يا أمي؟!

منزلنا، من جنة إلى علبة إسمنتية

كان في بيتنا شجرٌ كثير، نارنج، مشمش، دراق، دالية عنب أبيض وأحمر. البيت مكوّنٌ من طابقين، السفلي هو الأول، لم أعش فيه، إذ لاحقاً تمّ بناء منزل آخر على سطحه، وتأجير الأول لعائلات ولاحقاً لطلاب من الجزائر وجزر القمر. كان تأجير المنزل طفرة اقتصادية في تاريخ العائلة.

جذورُ الشجر في المنزل السفلي، لكن أعاليه في منزلنا، الطابق الثاني الذي ولدتُ فيه. كنتُ أحبُّ تلك الفسحة السماوية على طول المنزل، ثلاث غرف، غرفة ضيوف لم نكن ندخلها كثيراً، غرفتا نوم، ومطبخٌ صغير.

حتى عمر الثانية عشرة، أي أواخر الثمانينيات، أذكر الحي بشكل جميل، البيوت مفتوحة على بعضها بعضاً، ومن شرفة منزلنا يمكنني أن أرى بيوت الجيران وغرفهم، وبقليل من المراقبة يمكنني معرفة مواعيد وجباتهم، ضيوفهم، أفراحهم، أحزانهم، جديدهم، اختلافاتهم. كان الحيّ منفتحاً إلى هذه الدرجة، وبالطبع لم يكن الناس يقصدون مشاركة حياتهم مع بقية سكّان الحيّ، لكن طريقة بناء البيوت كانت شبيهة جداً ببيوت القرى التي جاؤوا منها، قرى صغيرة الجميع يعرف الجميع فيها، وأواصر قوية تربط الجميع ببعضهم بعضاً، وبالتالي هم في السراء والضراء معاً.

هذا ما كان عليه حيّنا في ركن الدين، الذي عرفتُ لاحقاً أن الأحياء الأخرى تسميّه «حارة العلوية»، ولكن كان هناك أيضاً «حارة الأدالبة» المغلقة، «حارة الفلسطينية» التي تملؤها صور الاستشهاديين، «حارة الحوارنة» بشبّانها المنتشرين أمام الأبواب، وفي نهاية التسعينيات تشكّلَ حيٌّ جديد، «حارة الديرية» التي عرفتُ لاحقاً أن سكّانها مزارعون خسروا أراضيهم بسبب الجفاف الذي ضرب معظم أراضي الجزيرة السورية.

منذ بداية التسعينيات، بدأ الحي بالتغيّر، بدأ أطفاله يكبرون، وأهاليهم بدأوا يفكرون نيابة عنهم بتأسيس حياتهم المستقبلية. كثُرَت حينها الغرف العشوائية على أسطح المنازل، كحلٍّ مبدأي لعزل الشباب الذكور وإعطائهم بعض الخصوصية، ولتكون بدايةً لبناء بيت أكبر للأولاد كي يتزوجوا فيه. موجة البناء العشوائية الثانية كانت مضحكة، الجميع كان لديه صورٌ كثيرةٌ لحافظ الأسد للصقها على الجدران المبنية حديثاً منعاً لعمّال لبلدية من هدمها في حال كان هناك تقرير يشي بأحدهم، وبالتالي فإن عمال البلدية ومديرهم والبلدية كلها لن تجرؤ على هدم الغرف المخالفة على أسطح البيوت المخالفة سلفاً، لأن ذلك سيؤدي إلى تقرير مضاد يقول إنهم تطاولوا على صورة سيادة القائد، وانطلاقاً من هذا يمكن سرد كثيرٍ من قصص الخيانة للوطن وقائد الوطن.

من أهمّ ميزات الحي في تلك الفترة، الأعراسُ الوطنية، احتفالاتُ تجديد البيعة للأسد الأب ومبالغة الجيران بإبداء فرحهم في حلقات الدبكة في ساحة الحيّ مع موسيقى صاخبة. كانت المبالغة وسيلة دفاعية، خوفاً من تفسير عدم المشاركة الفاعلة على أنها معارضة «لا سمح الله»، وبالتالي خطر التبليغ بتقرير رصينٍ وجدّيٍّ حول ذاك الذي لم يُبدِ فرحاً كافياً بمبايعة القائد.

ضربت موجة البناء الثانية الحيَّ وكأنها عدوى، كانت فترة قبيحة، وبدايةَ انغلاق الحيّ وانتشار الستلايتات فيه. الجميع منهمك على الأسطح بالتخطيط، حتى أن السلالم لم يتمّ بناؤها بحيث يكون الصعود إلى الأسطح مريحاً حتى ذاك الحين. في السنوات السابقة كانت تُستَخدَم السلالم الخشبية للوصول إلى الأسطح من أجل تحريك لاقط الإشارة الهوائي (الأنتين) قبل ظهور الستلايتات، والذي كان بالكاد يلتقط بثَّ قناة المستقبل اللبنانية وقناة الأردن الأولى والرياضية. طبعاً كنا نستقبل تلك القنوات وكآننا نكتشف أن هناك بشراً آخرين يعيشون على الكوكب ذاته، كانت تلك القنوات ذات حداثةٍ مقارنةً بقناتي سوريا الأولى والثانية.

من أحداث الحيّ المضحكة والمتكررة أثناء التيارات الهوائية الشديدة، أن لواقط إشارة التلفاز كانت تتحرك يمنة ويسرة، ما كان يؤدي إلى تشويش الإرسال رغم زرع اللاقط في حوض من الإسمنت. حينها كان الشباب يهبّون لتسلق للأسطحة وتثبيت اللاقط، وتبدأ موجات الأصوات بالتتابع بين الشخص على السطح والوسيط في الفسحة المفتوحة والشخص الأخير قرب التلفاز: «أجت الأردن… ما أجت… حرّك على اليمين شوي… لا لا لا… رجّع شوي على اليسار»، ثم صوتٌ عملاقٌ آمر «ثبت يدك»، أي أن الصورة باتت واضحة والجمهور قَبِلَ بالنتيجة.

من التغيرات التي بدأت تطرأ على الحيّ، وجود غرباء كما كان يطلق عليهم، جاؤوا إلى الحيّ كمستأجرين بعد مغادرة بعض العائلات له متجهةً إلى قراها الأصليّة في الساحل السوري. كانت عائلة من إدلب أولى العائلات التي تجرأت وكسرت نقاء الحي، واستأجرت بيتاً قرب بيتنا، كانوا أول من نصبوا عوازل «شوادر» على مدار الفسحة المفتوحة للبيت طلباً للخصوصية، خاصةً أن نساء العائلة كُنَّ محجبات خلافاً لكثيرات من نساء الحي، باستثناء كبيرات السن اللواتي كُنَّ يضعنَ حجاباً بسيطاً منسدلاً دون اهتمام بمدى حجبه للشعر في أغلب الأحيان.

ثم جاءت عائلتان كرديتان، كانتا أقربَ لأهالي الحي من العائلة الإدلبية، لكن كل الغرباء كانوا تسليةَ الأهالي ومدعاة سخريتهم في جلساتهم وزياراتهم، وهم أنفسهم كانوا مدعاة للسخرية في عيون سكّان الأحياء الأخرى. جميع الفقراء كانوا مدعاة للسخرية من بعضهم بعضاً.

يحاولُ كل حيّ إيجاد شيء ما للتفاخر به ضدّ الحيّ الآخر، الفلسطينية كانوا يتفاخرون بقوّتهم وعدم خوفهم من الموت، وبصور استشهاديهم والاحتفالات التي كانوا يقيموها عند كل عملية ضد الاحتلال. الأدالبة كانوا يتفاخرون بنوع المهن النظيفة التي امتهنوها في الفندقة والخدمات السياحية. الحوارنة يتفاخرون بسهلهم ومنتجاته ودكاكينهم كأرباب عمل. وأبناء حارتنا الذين كانوا خليطاً من الجبلاوية واللاذقانية والمصيافية، يتفاخرون بالسلطة التي يمتلكونها باعتبار أن كثيرين منهم عساكر وعناصر أمن في المخابرات.

التغيّر في الحيّ بدأ عندما أُحيلَ أغلبُ الآباء للتقاعد في بداية الألفية الثانية، فوجدوا أنفسهم في مدينة لا ينتمون إليها ولا هي تقبل بهم، اجتاحهم الحنين لقراهم، وللعمر الذي سُرِقَ منهم بين الثكنات العسكرية والمناوبات الأسبوعية والإجازات الصيفية الخاطفة للقرية مع العائلة الكبيرة. بعضهم حاول المقاومة بفتح دكاكين بقالة في ملاحق أمام بيوتهم، لم ينجحوا لأنه كان هناك فائض من الدكاكين، ولأنهم بعقليتهم العسكرية لم يكونوا يتقنون التجارة. أُغلقت معظم تلك الدكاكين بعد حين، وجلسوا في بيوتهم يتعبدون ويتنسكون، ولكن لم تكن المدينة تسمح لهم بالكثير، ولا الأحياء التي بدأت تختلط بالغرباء، فالطائفة العلوية باطنية العقيدة، وبالتالي لا بدَّ من الحفاظ على مناسك العبادة كما يجب، وبسريّة كما كانت عليه في زمن الأجداد.

بدأ الآباء بالعودة للقرى تاركين خلفهم الأبناء والبنات لمستقبلهم في المدينة التي وُلد معظمهم فيها، وتعلّموا في مدارسها وجامعاتها، ويعمل أغلبهم في مؤسساتها وقطاعاتها الخاصة والعامة. لقد تنوعت مِهَنُ الأبناء والبنات، وتنوعت خياراتهم وقرارتهم معها.

كلما جاء غرباء إلى الحيّ بأعداد أكبر، كلّما أكثرَ سكّانه من الجدران والشوادر وازداد العزل والانغلاق، وكلّما تحولت البيوت إلى علب إسمنتية ذات فسحة سماوية تضيق وتضيق. قُطِعَت الأشجار في بيتنا وتم توسيع الطابق السفلي، بُنيَّ دكانٌ صغيرٌ في مقدمة المنزل، أُغلِقَ الدكان، لاحقاً أُغلقت فسحة الطابق الثاني، وحاصرت الشوادر جهات البيت الأربعة. بابُ بيتنا الذي كان مفتوحاً دائماً، أصبح يُغلَقُ كما باقي أبواب الحي.

لم يكن هذا العزل بسبب الغرباء فقط، وإنما بسبب أبناء وبنات الحي الذين بدأوا يكبرون أيضاً، وكبرت معهم مشاعرهم تجاه بعضهم بعضاً، وكبرت أجسادهم وأجسادهنَّ وكذلك الرغبة، فكان لا بدَّ من الحماية والوقاية، وبالتالي كانت الجدران هي الحل والوقاية لكبح أي مشاعر أو تبادل نظرات.

يوم الجمعة كان يوماً مميزاً في الحيّ، الشبابيك مفتوحة، بعض الشوادر أيضاً، يوم التنظيف ونفض الغبار، يوم الجمعة كيوم الأحد في قصيدة درويش «يوم نرتب فيه مطبخنا وغرفة نومنا، كل على حدة. ونسمع نشرة الأخبار هادئة، فلا حرب تُشَنُّ على بلد». الجميع في عطلة، وكانت فرصة لنرى وجوه جيراننا ونتبادل تحيات سريعة، بعدما كنا نقضي ساعات في تبادل الأحاديث من على الشرفات. الأمهات كنَّ قد تعبنَ وقتها، والبنات أصبحنَ صبايا والأحاديث العابرة للشوارع تُحرجهنّ، الشبان في تجمعات في الحي يتبادلون الأحاديث والآباء يجلسون في بقع الشمس ينتظرون أن يتم غلق النوافذ ويعود السجاد للأرض والبطانيات للأسرةّ بعد تشميسها، حتى ولو كان الفصل شتاءً وشمسه كنار شمعة.

كنتُ أخجل من الحيّ، خاصة في مرحلة الجامعة، عندما كانت صديقاتي، بنات القصاع والمزة الأحياء الجميلة غير العشوائية، يرغبنَ بزيارتي. كنتُ أتهرّب، أتذرّعُ بحجج محرجة ومضحكة، كيف لي أن أدعوهنَّ إلى مكان وسيلة النقل الوحيدة التي تصل إليه هي «الطرطيرة»، سيارات الهيونداي الزراعية ذات الصندوق المفتوح، حيث يركب الرجال في الصندوق، ومقعدان فقط في المقدمة إلى جانب السائق، غالباً ما كانت تحتلهما النساء بدل من صعودهن للصندوق الخلفي مع باقي الرجال. وهذا طبعاً أجرته أغلى، وهو أيضاً فرصة ذهبية للسائق للتحرش بالشابات اللواتي حشرنَ أنفسهنَّ إلى جانبه في نهاية يوم عملهنّ في مشاغل الألبسة والأحذية.

استمرَّ كل شيء بالنسبة لي وللحيّ يسير ثقيلاً حتى عام الثورة، بدأتُ أرى التفاصيل حولي بشكل طائفي بدائي، الأعلام التي عُلِّقَت، صور الرئيس التي انتشرت على الجدران، وصدىً لأغانٍ وطنية بين الحين والآخر، المبالغة في الخوف من العودة متأخرة، وكأن باب الحي سيغلق بعد الثامنة مساء وسأبقى خارجه لمصيري.

في عام الثورة نفسه، 2011، بدأت الموجة الثالثة للبناء، وبدا كما لو أن سكّان الحيّ أصابهم الجنون، فراحوا يبنون بيوتاً أعلى فوق بيوتهم العشوائية، المهددة بالانهيار أصلاً بسبب ضعف طوابقها الأولى التي بُنيت في السبعينيات على عجل.

كرهتُ الحي، وكرهتُ بيتنا في نسخته الأخيرة، بيتٌ عالٍ مائلٌ بعض الشيء، فيه الكثير من الجدران، وتغيّرَ مكان الباب الرئيسي فيه، لكني لا أذكر اليوم باب منزلنا الجديد. كرهتُ أهاليه الأصليين والدخلاء، وغضبتُ من والدي الذي اختار هذه البقعة المقيتة لبناء منزلنا، ثم تعاطفتُ معهم وحزنتُ لحالهم. حاولتُ تفهّم دوافعهم، وبرّرتُ لهم الكثير من الانعزال وعدم الانفتاح، ولكني لم أجد ذلك مقنعاً بما فيه الكفاية لتبرير مساندتهم للديكتاتور، وتصديق روايته حول أنهم أقلية مستهدفة، خاصة في بداية الثورة.

قررتُ الابتعاد، أولاً عن ذلك الحي، لم أعد أحتمل القبح والانغلاق والخوف، في أيلول من العام ذاته ابتعدتُ أكثر مما كنتُ أتوقع، حملتُ حقيبة تكفيني لثلاثة أشهر مُتجهةً لألمانيا للتدرّب في منظمة حقوقية، سافرتُ رغم ضيق اختياراتي بالسفر، ولكنني تحديت بذلك نفسي وعائلتي والحيّ بالخروج عن السائد، كامرأة شابة تسافر وحيدةً بعيداً. كان ذلك أول انقلاب عائلي، لم يكن لدي أدنى فكرة عما ينتظرني في بلاد الألمان، مع من سأعمل وكيف سأعيش وما شكل بيتي الجديد.

مرّت ست سنوات ونصف منذ غادرتُ ذلك الحي، حرفياً لم أُدِر ظهري لنظرة وداع، شيءٌ قاسٍ جداً دفعني للمشي سريعاً إلى أسفل ذاك الجبل لآخر مرة. واليوم من هولندا أكتبُ عن ذاك الحيّ، وفيَّ شيءٌ من الاشتياق للمكان الذي اعتدتُ أن ألعب كرة القدم في ساحته الضيقة عندما كنت صغيرة. أمعنُ النظر في الصور، أنا من التقطتُ تلك الصور، أردتُ أن يكون لدي ذاكرة خارجية، ندمتُ لأنني لم أكن أعي ضرورة التقاط صور أكثر في كل مرة كان يُبنى فيها منزلٌ فوق منزل على ظهر سطح فقير. أدقّقُ في الصور، يبدو أنني نسيت الكثير من أسماء قاطني تلك الشُرفات.

سأتوقفُ هنا، تعبت، ليس من السهل أن أكون العين الخارجية التي تكتبُ عنهم، لأن جزءاً مني لا زال ينتمي إلى هناك. أريدُ أن أقرأ ما كتبتُ مرة أخرى، أتوقفُ وأسألُ نفسي، لماذا أكتبُ عن كل ذاك القيح؟ لماذا قصة ذاك الحيّ مختلفة؟ هل أقدّم مبرراً لهم أم أنني أسرد وأقوم بالأرشفة فقط؟ هل ستقرأُ صديقاتي هذا النص ويجدنَ إجابة؟ هل ستخجل عائلتي وأهل الحيّ مني؟ هل سيتمّ تعييري بهذا الحي؟ أعتقدُ أن كل هذا ليس مهماً كثيراً، بل المهمّ أن نكتب عن أنفسنا، لأن لا أحد سيكتب عنا كما نريد.