على باب مستوصف قرية باتبو في ريف حلب الغربي، مزّقت أم محمد ورقةً كانت في يدها ورمتها على الأرض، وجرّت خلفها أطفالها الثلاثة. بدت علامات حبّة اللشمانيا محفورة على وجوه الأطفال، وعند سؤالها قالت: «حولوني على سرمدا لعالجهون، أنا من وين بدي جيب أجار طريق، ما بيعرفونا نازحين!! لقمة الأكل بالزور عم نحصّلا».
أرقام صادمة
يعود أول ذكر للشمانيا أو حبّة حلب إلى العام 1765 في منطقة حلب، وهذا ما دفع إلى تسميتها بهذا الاسم، وللشمانيا تسميات مختلفة، منها حبة حلب، وحبة السنة وحبة بغداد وحبة أريحا والأخت، وغيرها من التسميات.
وليس ثمة إحصائيات دقيقة لأعداد الإصابات بها في سوريا اليوم، لكن الدكتور أنس الدغيم، مسؤول لقاح اللشمانيا في مديرية صحة إدلب، يقول إن هناك أكثر من 25 ألف حالة إصابة باللشمانيا في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، وإن الأعداد في ازدياد يومياً. تلك الإحصائية لا تشمل أعداداً كبيرة (تزيد عن الإحصائية ربما بنسبة الضعف) لم تلتحق بمراكز المعالجة، ذلك فضلاً عن الإصابات الجديدة بشكل يومي، إذ تشهد مدينة الباب في ريف حلب الشرقي ما بين خمس وعشرين إلى ثلاثين إصابة جديدة يومياً، وكذلك الأمر في كفرناها في ريف حلب الغربي، ونحو ثمانية حالات جديدة يومياً في أرمناز بريف إدلب، وتتزايد الأعداد في ريف معرة النعمان وسراقب أيضاً، بحسب ما أفادتنا المستوصفات والمجالس المحلية هناك.
كذلك تحدثت تقارير صحفية عن وجود نحو ثلاثة عشر ألف إصابة في دير الزور والحسكة، بينما كانت جريدة القدس العربي قد نشرت عن المتحدثة الرسمية باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنجي صدقي وجود أكثر من 150 ألف إصابة في عام 2017 في عموم سوريا.
أسباب مباشرة
يقول الدكتور أنس طالب للجمهورية، وهو اختصاصي أمراض جلدية في إدلب: «إن ذبابة الرمل التي تنقل الطفيلي، وحيد الخلية، المسؤول عن حبة اللشمانيا، تعيشُ في الأماكن الرطبة والمهجورة وحظائر الحيوانات وحول المستنقعات والمياه الراكدة والأشجار، وتنقل الطفيلي من الحيوانات وخاصة القوارض والجرذان والكلاب عبر مصّ دمه المليء بالطفيلي، الذي يتكاثر في معدة الذبابة ثم ينتقل عبر لعابها إلى حيوانات أخرى أو إلى الإنسان، ومن إنسان إلى إنسان آخر».
تنتشر المستنقعات والمياه الآسنة وخطوط الصرف الصحي المكشوفة في الشمال السوري، جرّاء غياب خدمات ومشاريع الصرف الصحي في القرى والبلدات نتيجة القصف الذي دمر معظم البنى التحتية فيها. ويضاف إلى ذلك زيادة عدد السكان بسبب اللجوء إلى هذه المناطق بعد حالات النزوح والتهجير، إذ تزايد عدد السكان في الشمال السوري إلى الضعفين بحسب الإحصائيات الأخيرة، وهو ما أدى إلى بناء مخيمات عشوائية لتأمين السكن، تفتقر إلى مشاريع للصرف الصحي والنظافة الشخصية، وتحولت أطرافها إلى مكبات للقمامة، مع تقصير في عمليات ترحيل النفايات من قبل الجهات التي يفترض أن تتولى هذا الأمر.
جانب من خط الصرف الصحي المكشوف الممتد من معرة الأتارب إلى إبين، مروراً بالأتارب والجينة، في ريف حلب الغربي
كذلك أدّت الزيادة العددية إلى سكن كثيرين في منازل مدمّرة أو مهجورة، تعدُّ بؤرة للذباب والقوارض، وهو ما زاد من حالات الإصابة بالأمراض، ومن أهمها اللشمانيا.
ومع استهداف النظام للمستشفيات والمراكز الصحية، تزايدَ العبء على من تبقى من نقاط طبية، كما أن المنطقة لم تشهد استجابة ملائمة من قبل المنظمات الصحية والخدمية، عبر اتخاذ ما يلزم من إجراءات طارئة ضرورية، مثل توفير الأدوية ومشاريع الصرف الصحي والمبيدات الحشرية، وكان آخرها توقف عمل مشروع منظمة مونيتور لعلاج اللشمانيا منذ شهرين في محافظة إدلب.
يقول زاهر مصطفى، عضو المجلس المحلي في باتبو بريف حلب الغربي: «يمر نهر من الصرف الصحي بالقرب من القرية، وفي كل يوم تزداد الإصابات. وبالرغم من المناشدات ورفع الكثير من المشاريع إلى الجهات المعنية والمنظمات، فإننا لم نتلقَ أي دعم أو ردّ، سواء على صعيد الوقاية والرشّ، أو على صعيد الأدوية واللقاحات».
جانب آخر من خطوط الصرف الصحي المكشوفة في ريف حلب الغربي
ويمتدّ خطّ الصرف الصحي شبه الرئيسي في محافظة إدلب وريف حلب الغربي لعشرات الكيلو مترات، من مدينة سرمدا باتجاه معرة مصرين إلى منطقة الحلزون فالكمونة ليدخل إلى باتبو، ثم يتابع جنوباً باتجاه كفريا والفوعة ثم بلدة رام حمدان، وتتوزع على طرفيّ هذا الخط عشرات المخيمات العشوائية التي لجأ إليها الأهالي، وقاموا باستئجار أرضها لتأمين مأوى لهم.
يقول محمود الحمود، أحد القاطنين في مخيم عشوائي: «لجأنا إلى هذا المكان لرخص الأراضي فيه بعد أن نزحنا من قرانا التي سيطرت عليها قوات الأسد، ومنذ سبعة أشهر لم تُقدَّم لنا أي خدمة، لا حمامات ولا صرف صحي، ولا بلدية لترحيل القمامة ولا مبيدات حشرية ولا نقطة طبية. يزورنا بعض المسؤولين عن أوضاع المخيمات من حكومة الإنقاذ في إدلب، يتفرجون علينا ثم يغادرون».
ويخبرنا محمود أن هناك أكثر من 30 إصابة لشمانيا في المخيم الذي يسكنه، ومنها أولاد أم محمد التي قابلناها في باتبو، والتي أخبرتنا أن الطريق من المخيم إلى سرمدا أو الأتارب يحتاج إلى مبلغ لا يقل عن 2000 ليرة للشخص الواحد، فضلاً عن أن جلسات المعالجة طويلة، ولذلك فإنها قد «سلّمت أمر أولادها إلى الله» على حد قولها.
مستوصفات بلا أدوية، وأدوية منتهية الصلاحية
يقول الدكتور أنس طالب: «إن العلاج النوعي للشمانيا هو من فئة الأنتميون، وهي حُقَن من نوع غلوغانتيم أو بنتوستام، تطبق بحسب الحالة المرضية، فإما أن يكون الحقن في العضل، أو موضعياً في مكان الإصابة، وقد نحتاج في بعض الحالات للحقن الوريدي للبنتوستام». ويتابع الطبيب: «لا توجد هذه الأدوية في كثير من المستوصفات، وتوجد بكميات قليلة في مستوصفات أخرى، ولا تتناسب مع الأعداد المتزايدة». وهو الأمر الذي أكده عبد الكريم الياسين، رئيس دائرة الرعاية الأولية في صحة حلب، بقوله: «إن آخر مشاريع المنظمات لعلاج اللشمانيا توقّف من شهرين من قبل المنظمة الداعمة مونيتور».
رئيس المكتب الصحي في المجلس المحلي لمدينة الباب، عبد الله الراغب، يقول: «نعتمد على أدوية منتهية الصلاحية منذ شهر تشرين الثاني 2017، وذلك بعد استشارة خبراء وصيادلة، وهي تعطي بعض النتائج الفعالة المحدودة ولا تسبب ضرراً. كما أننا نشتري بعض الأدوية منتهية الصلاحية من بعض مستودعات الأدوية، التي يستغلّ أصحابها حاجة الناس للدواء». وليس هناك أدوية بتواريخ جديدة في الصيدليات التي مررنا بها، وإن وجدت هذه الحُقن، فإنها تكون بلا تواريخ صلاحية وبأسعار باهظة تصل إلى 300 ليرة للأمبولة الواحدة.
ويحذّر الدكتور سمير السعد من ازدياد حالات الإصابة في الأشهر القادمة: «تعدّ فترة الصيف من بدايته وحتى نهايته فترة نشاط ذبابة الرمل مع ازدياد درجات الحرارة، فمعظم الحالات التي تصلنا الآن هي من السنة الماضية، وزيادة الأعداد ترجع إلى أن فترة حضانة الطفيلي قبل أن تبدأ الأعراض المرضية بالظهور تمتدّ من شهرين إلى ستة أشهر».
وعن الأدوية يقول الصيدلاني رضوان، العامل في إعزاز شمال حلب: «نستعمل الأدوية المتاحة، فللأدوية فترة سماح في الصلاحية تصل إلى ستة أشهر، إلّا أن فاعلية الدواء تكون قليلة خلالها». ويلجأ الأطباء في المستوصفات إلى استخدام الحقن الموضعي بدلاً من العضلي للتقليل من كمية الدواء المستخدمة، ومعالجة أكبر قدر ممكن من المرضى ريثما تتوفر الأدوية.
البلديات، حلول قاصرة
معظم رؤساء المجالس المحلية الذين تحدثنا إليهم، قالوا إن المشاريع الخدمية والدراسات التي قدموها لحلّ المشكلة قد لاقت أذناً صماء من قبل المنظمات الإنسانية، وتمنى رئيس مجلس أرمناز المحليّ، الذي قال إن إعلاميين كُثُر زاروه خلال الأيام الماضية للحديث عن هذه الظاهرة، أن يصل الصوت إلى المنظمات لتقديم بعض الحلول، كالمبيدات الحشرية وتغطية بؤر الصرف الصحي ومشاريع ترحيل القمامة التي لم تعد موجودة منذ سنتين، مع ضعف موارد المجالس للقيام بهذه المسؤولية. في حين اتهم مسؤول لقاح اللشمانيا في مديرية صحة إدلب المجالسَ المحلية بالتقصير في أداء واجباتها، من ترحيل القمامة ونظافة المخيمات ورشّ المبيدات الحشرية.
جانب من انتشار القمامة قرب خط الصرف الصحي في ريف حلب الغربي
وعلى الرغم من قيام المجالس المحلية برشّ المبيدات الحشرية في مناطق كثيرة، إلّا أن الأعداد في ازدياد، فلا تستطيع هذه المجالس الوصول إلى مختلف المناطق، وتكتفي برشّ المبيدات داخل مراكز المدن والبلدات، في حين أن معظم الإصابات تصل من الأرياف والمخيمات في المنطقة.
وقاية وعلاج أولي
ذبابة الرمل، الناقل لطفيلي اللشمانيا، هي نوع من البعوض لا يتجاوز حجمه 3 ملم، تنشط في الليل وفي أشهر الصيف، وهي تعتمد على القفز بارتفاع منخفض لا يزيد على متر، ولا تستطيع الطيران لأماكن بعيدة. وللشمانيا ثلاثة أنواع؛ اللشمانيا الجلدية التي تسبب قرحة جلدية تبقى كندب مدى الحياة وتصيب مختلف الأعمار، والحشوية التي تصيب الأعضاء الداخلية كالكبد والطحال ونخاع العظم والغدد البلغمية وتصيب الأطفال، وتظهر أعراضها بارتفاع حروري وهزال وفقر في الدم، وقد تؤدي إلى الوفاة، واللشمانيا الجلدية المخاطية، وهي إصابة جلدية تصيب الأغشية المخاطية وخاصة الأنف، وهي الأكثر انتشاراً في سوريا، وتسبب تشوهات دائمة. وتظهر الإصابة على شكل حبة حمراء ذات فتحات جانبية يخرج منها الصديد، أو حبة نافرة فوق سطح الجلد مغطاة بقشرة من الصديد، وقد يصل حجمها إلى 2 سم.
ونظراً لقلة الخدمات المقدمة وتفاقم ظاهرة اللشمانيا، ثمة بعض الإجراءات التي يمكن اتخاذها للحدّ من انتشارها والوقاية منها، أهمها ارتداء ملابس غير مكشوفة وتغطية الجسم بلباس ذي أكمام طويلة، ووضع «شبك ناعم» على النوافذ، والابتعاد عن الأماكن المهجورة والحيوانات وتجنب تربيتها في المنازل، واستخدام ما يعرف بـ «الناموسية» أثناء النوم، لأن الذبابة تنشط في ساعات الليل. ويُنصح عند عدم توفر العلاج بوضع عصارة الثوم على الإصابة مرتين يومياً، أو وضع قطعة من الثلج لمدة 15 دقيقة عليها مرتين يومياً.
تحاول أم محمد أن تهدئ من حزن طفلتها، 13 عاماً، التي تعرّضت للإصابة بثلاث حبات في وجهها، فتقول لها: «حبة السنة (كما يُطلق عليها في حلب) من علامات الجمال بحلب». تخفي أم محمد حزنها لتقول لنا: «لو كانت شبّ معلش، البنت تشوهت ومو طالع بالإيد شي».