لم يكن إعلان الرئيس الأمريكي انسحابه من الاتفاق النووي مفاجئاً تماماً، فالرجل كان قد أعلن انزعاجه من هذا الاتفاق ونيته «تمزيقه» مرات عدة منذ حملته الانتخابية، كما أن بعض التصريحات التي أحاطت بإقالة ريكس تليرسون وزير الخارجية الأمريكي السابق، تحدثت عن خلاف بين ترامب والأول حول قضايا عدة أهمها الاتفاق النووي مع إيران.

مع ذلك لم يكن وقع هذا الانسحاب أقل صخباً على مؤيديه أو معارضيه؛ مشهدُ النواب الإيرانيين وهم يحرقون علم الولايات المتحدة في البرلمان، وتصريحات لاريجاني التي أكدت أن على وكالة الطاقة الذرية الإيرانية التحضير للبدء بالعمل من جديد في أقرب موعد، ثم التصعيد الإيراني المتمثل بإطلاق عدد من الصواريخ باتجاه الجولان المحتل، الذي تبعته ضربة إسرائيلية واسعة أدت على الأرض إلى تدمير معظم البنى التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا حسب ما صرح أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي، مؤكداً أن إسرائيل لا تريد استمرار التصعيد، وتاركاً إيران والنظام السوري في موقف حرج، جميع هذه الردود المتخبطة التي لا تحمل حتى اللحظة طابعاً محسوم الاتجاه، لم تكن نتيجة للمفاجئة بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي، بل في الحقيقة، تبدو انعكاسات هذا القرار دليلاً على أن لا أحد يمتلك بدائل صلبة للاتفاق النووي. ما فعله ترامب وأزعج الجميع هو أنه أنهى الاتفاق النووي قبل الوصول إلى بديل قابل للتطبيق ضمن صفقة جديدة مع النظام الإيراني، في وقت كان الأخير مستعداً على ما يبدو للدخول في مسار تفاوضي جديد، لتهدئة مخاوف إسرائيل والولايات المتحدة. مع ذلك أتى إعلان الرئيس الأمريكي ليشكل خطوة جديدة في مسار تصاعدي من الصدام مع طهران، صدامٌ يبدو أن أحداً لا ينوي أن ينتهي بحرب شاملة.

إذن ما الذي تريده واشنطن؟

الاتفاق الذي حمل اسم «خطة العمل المشتركة الشاملة»، تضمّنَ منذ توقيعه عام 2015 عدداً من الثغرات الكبيرة، بالإضافة إلى عدد من البنود غير الواضحة، كما أنه لم يتطرق إلى نشاطات إيران في مد نفوذها عبر رعاية حروب محلية في كل من سوريا واليمن والعراق، ولم يتطرق إلى برنامج إيران لتطوير الصواريخ البالستية التي يصل مدى بعضها إلى 2000 كلم، وهو ما أشار إليه ترامب في خطابه المتلفز الذي أعلن من خلاله انسحاب بلاده من الاتفاق.

على الرغم من ذلك، قد تبدو هذه المخاطر أقلَّ إلحاحاً على صانع السياسة الخارجية الأمريكية، في عهد يتسم بانسحاب أمريكي من دورها الدولي. وقد تفسّرُ المخاوف الإسرائيلية جزءاً من الاندفاع الأمريكي لكنها لا تعرض الصورة الكاملة، فالضمانة الأمريكية لحماية إسرائيل على المدى البعيد، ستبعد شبح أي هجوم إيراني واسع.

ضمن هذه المعطيات يبدو إعلان ترامب، إعلاناً لسيولةالمصطلح هو استعارة لفكرة زيجمونت باومان التي وضعها في سلسلة كتب شهيرة بدأها بكتاب «الحداثة السائلة» عن الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة، وتقوم هذه الفكرة على أن الحداثة التي يمكن وصفها بالصلابة، والتي سيطرت عليها أفكار سيادة العقل واستقرار المفاهيم والعلاقات قد أصبحت من التاريخ في حين نعيش اليوم في عالم ما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة، التي أنهت سيطرة المفاهيم والبنى التقليدية لصالح اللا-يقين.  العلاقات الدولية التي لم تعد تعتمد على الموازنة بين المخاطر والمكاسب، ولا يمكن بأي حال تفسيره بناءً على تصورات وضعها لاعبون أساسيون في الحرب الباردة أصبحت في مجملها كاريكاتورية؛ أليس اقتباس عنوان كتاب برجينسكي عن رقعة الشطرنج الكبرى لتفسير ما يحصل اليوم في المنطقة، مجرد مزحة؟

روبرت كيلي أستاذ العلوم السياسية اعتبر أنالتصريح مأخوذ من تقرير للنيويورك تايمز حول تداعيات إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب من الاتفاق النووي. «الحمقى فقط سيصدقون أن الولايات المتحدة ستحفظ وعودها بما يتعلق بالاتفاقات النووية (بعد الآن)»، صدمة كيلي المختصّ في الشأن الكوري، قد يزيدها اقترابُ موعد القمة المرتقبة بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون، يبدو أن كلمة واشنطن غير مهمة ومهمة في الآن نفسه، ببساطة إن الصراع بين الدول لم يعد يستند إلى أرضية الحرب الباردة وتصوراتها عن ما يمكن ولا يمكن فعله، وما كان خطيراً ويهدد بحرب نووية في القرن العشرين، يبدو أنه قد يكون الخبر الثاني بعد أخبار دوري أبطال أوربا اليوم.

في هذا اللاإطار الجديد لما يُطلَق عليه العلاقات الدولية، لا تبدو الحرب الواسعة احتمالاً ملحاً، لكن لا توجد ضمانات بذلك، ربما هذا هو أقصى ما فعله إعلان ترامب الأخير، لا توجد ضمانات للسلام ولا توجد نية للحرب، لكن الأمرين يبدوان اليوم غير مرتبطين بالطريقة ذاتها، فعدم الرغبة بالحرب لا تعني نهاية احتمالاتها.

وفي حين أن هناك حدّاً أدنى قد تقبله إدارة ترامب لاتفاق جديد مع إيران، فإنه لا توجد ضمانة للوصول إلى مثل هذا الاتفاق، وحتى التصريح المشترك للدول الأوروبية الثلاث الكبرى، الذي يقول إن الاتفاق الدولي لم يمت، بالتوازي مع ترتيبات للقاء بين ممثلين عن هذه الدول مع إيران، لا يستطيع سوى شراء مزيد من الوقت، لمحاولة الوصول إلى أرضية جديدة صلبة واتفاق جديد.

هل أصبح الاتفاق من التاريخ؟

السؤال عن مصير الاتفاق النووي قد يكون الآن مربكاً، المعادلة المنطقية ستقود ضمن المعطيات الجديدة المتمثلة بالضغوط الأمريكية إلى خيارين رئيسيين؛ إما الوصول إلى اتفاق يعتبره ترامب أفضل من ذاك المنجز في عهد أوباماتقرير عن أبرز بنود الاتفاق النووي الإيراني.، ويغطي الثغرات الكبيرة فيه، أو الاستمرار في التصعيد إلى مرحلة اللاعودة واضطرار الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى خوض حرب واسعة مع إيران خلال السنة القادمة، التي من المتوقع في نهايتها أن تمتلك إيران كمية كافية من اليورانيوم المخصب لتصنيع سلاح نوويتقرير لمجلة فورين بوليسي يقول نقلاً عن خبراء إن إيران ستكون قادرة على امتلاك ما يكفي من اليورانيوم المخصب لتصنيع قنبلة نووية خلال 12 شهراً. إذا ما استأنفت نشاطها النووي.

في حين أن شكل التغيرات في المنظومة الدولية، التي أصبحت واضحة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، قد تقود إلى مزيج من هذه الاحتمالات، فعلى الرغم من أن الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا ليست حرباً تقليدية، التي جاءت واسعة النطاق محددة الأهداف ليل أمس، إلا أنها تمتلك سياقها المكتمل لتشكل نوعاً جديداً من الحروب، التي قد لا تفعل شيئاً سوى الاستمرار دون جدوى واضحة على المدى البعيد؛ إيران تستمر بنشر قواتها وإرسال الأسلحة، وإسرائيل تستمر بقصف المواقع الإيرانية.

قد يترافق ذلك مع السعي نحو اتفاق جديد مع طهران، لن يلبي ربما كل رغبات ترامب المعلنة، وسيحمل بدوره ثغراته الخاصة والتي ستشكل قنابل موقوتة مستقبلاً.

في هذه المعادلة «التفاضلية» التي انطلقت من الأجزاء نحو الكل، تمتلك سوريا موقعاً هاماً، لكنها في النتيجة ستكون جزءاً من قلقٍ مستقرّ يسيطر على شكل الشرق الأوسط.

لن يصبح الاتفاق النووي من التاريخ اليوم، ليس لأنه لم يمت، بل لأن التاريخ الذي اعتدنا عليه قد تغير إلى غير رجعة.